46
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثالث
إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه
كان لدخول اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخَلٌ من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد دخولهم في اليمن لتهويد ملوك اليمن و أقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويشيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجن سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض سكان اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد.
ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك، فتنصرت قبائل، وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين،واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية،ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، واعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنين، وصار عدد قرائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري? فلعل رجال الدين الجدد، صاروا يعلّمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سبباً من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد.
وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتاريخ بعضها إلى ما بعده، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام، مما يبعث على الظن إن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلماً جديدا مشتقاً من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع،وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند.
ولا أستبعد إن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتاريخ. فقد كان من،بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني، فليس من المستبعد إن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين. ومثل هؤلاء لا بد إن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل. ودليل ذلك إن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عموما على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غُطيّ بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاتجه يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، إن يكون موضوعاً لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين.
ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب تويناً للتاريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها، وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقاتها بالقبائل الأخرى،وحوادثها وأيامها، ورواة تخصصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي معرض كما قلت سابقاً لآفات عديدة، أهمها تحكم العواطف القبلية على الرواة وتعرض الخبر للنسيان كلما تقدم العهد به في الذاكرة، وكلما ابتعد به الزمن، إذ تقل حماسة الناس له،ويضعف تأثيره في العواطف، وتفتر عندئذ همم الرواة عن حفظه وبذلك يتعرض للموت والاندثار، ومن هنا اندثرت وضاعت أخبار الجاهلية البعيدة عن الإسلام. أما الجاهلية القريبة من الإسلام، فقد بقي منها ما يشبه ذكريات الطفولة، خلا الأمور التي عاصرت ظهوره، فقد أدركها الصحابة، فكان في إمكانهم تذكرها وروايتها، وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم حتى وصلت إلى المدونين.
ما ذكرته هو أهم أسباب إهمال التاريخ الجاهلي، فجاء ذلك التاريخ لذلك ناقصاً حتى على نحو ما نقرأه في المؤلفات العربية القديمة. أما تدوينه مجدداً، و إعادة كتابته وتنظيمه وتنسيقه وسد الفجوات الواسعة فيه، فقد تم على هذا النحو:
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق