36
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني
الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي
وخلاصة ما توصلت اليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري، الا انه لم يكن ملماً بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصةص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبا"، و هو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، و معبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الآسرة المالكة لهمدان. وجعل "ريما"، وهو اسم مكان من الامكنة المشورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنا من أبناء "نهفان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه، فوهب له أما قال لها: "ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار".
و أورد "الهمداني" نصا ذكر إن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده ب "ناعط"، فقرأه، فإذا هو: "علهان و نهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديما كان". وقد عدّ "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و "نهفان"، مع إن "علهان نهفان(، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ و سيأتي ذكره. وقد والده "يريم بن أوسلت رفشان" من اقبيلة "همدان". كلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". و كان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ذلك في كتابة عثر هليها في "ريام"، فلم يكن والده أذن رجلاً اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة.
وأما "بتع"، فقيلة من قبائل همدان، وأما جملة: " لهم الملك قديماً كان"، فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية. وليس التعبير - وان فرضنا أنها ترجمة للأصل - من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريباً من هذا المعنى أو كان شيئاً آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير.
ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا عك اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلاّ على ذلك: "بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة.فقد تصور القوم عند قراءتهم لها، أفها تعني أبداً "ابناً" على نحو ما يفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك "ابن بتع" أو "ابن همدان"، و المقصود من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"، وبذلك تغير المعنى تماماً، ومن هنا وقع القوم - على ما أعتقد - في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل و أسماء الأماكن الواردة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان،وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط.
وجاء الهمداني بنصوص أخر ذكر أنبا كانت مكتوبة بالحميرية تمثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه: "شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة". وأمثال ذلك من النصوص. ولا اعتقد أنك ستقول: إنّ هذا نص حميري، ولا يسع أمرءاً له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص حميري. بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعله كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه، فجاء بهذه العبارة. وعلى كل، إن كلّ الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا ممكن إن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق