23
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني
الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي
المؤرخون المسلمون
لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلام عن الجاهلية،الا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك،فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه، لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نص مكتوب، وانما أخذه أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية، لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخيار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وانهم كان صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد و التميز بن الصحيح والفاسد،فإننا لا نتمكن إن نسلم أن أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وان تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وان تكاثر واشتهر وتواتر،فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، وُ يتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين انه من الأخبار الآحاد في الأصل.
ولا ادري كيف يمكَن الاطمئنان إلى نص قصة طويلة فيها كلام وحوار او قصيدة طويلة زعم إن التبع فلاناً نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصاً بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوناً مكتوباً، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد إن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلاً بن النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور.
ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رجيما. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بن القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع، لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة. وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطَسْم وجديس وجُرْهُم غيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني "العادية" وعن جن سليمان وأسلحة سليمان، ورووا شعراً ونثراً نسبوه إلى الأمم المذكورة والى التبابعة، بل نسبوا شعراً إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، نسبوا شعراً إلى "إبليس، قالوا انه نظمه في الردّ على شعر "آدم" المذكور، وأنه اسمعه "آدم" بصوته دون أن يراه. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، والى أكثر من ذلك ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهراً طويلا قبل الإسلام: ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم نبعد بعداً كبيراً عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القران ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبي رغال"، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عم فهم لما وقع، وعن عدم أدراك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نفي خالصاً من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمداً طويلا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغير سن طبائع المحفوظ.
والاخباريون إذ رووا ذلك ودوّنوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التاًريخ، فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الأخر، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين، إذ لم يجسوا أمامهم غير هذا النوع من الرواياتّ الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجله إلى زمن التدوين، فدونوه ورووه، إلى أن وصل الينا على النحو المكتوب.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق