174
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السَّادس عَشِر
العرب والعبرانيون
ونجد في باب "الشهادات" "الوثائق" "كظين" "خطين" "Gittin" قولاء لأحد الأحبار يقول: إن امرأة عربية جاءت إلى أحد اليهود تحمل كيساً فيه تعاويذ لبيعها، فقال لها اليهودي أعطيك تمرتين عن كل تعويذتين. فاغتاظت المرأة ورمت ما حملته في النهر. فندم اليهودي وقال وددت لو لم أكن قد أعطيتها هذا العرض الرخيص.
وقد نشأت هذه المعضلات الفقهية من اختلاط اليهود بالعرب في فلسطين وفي الأماكن التي هاجروا إليها من بلاد العرب من جراء ضغط الرومان عليهم، وعدم تمكنهم من ممارسة عبادتهم في البلاد الخاضعة للحكم الروماني بسهولة وبحرية تامة، فهاجر كثير منهم إلى أعالي الحجاز وإلى العراق حيث اختلطوا بالعرب وعاشوا بينهم في مثل "الأنبار" و "فومبديثة" و "زقونية" "زكونية" "Zekonia"، وهو موضع على مقربة من "فومبديثة". وموضع "بمكسه" "Be-Mikes"، "نهردعة" "Nehardea" وسورا "Sura" وأماكن أخرى من العراق. وقد كان ليهود الفرات اتصال وثيق بالعرب وكانوا يعيشون معهم في كثير من الأماكن ويتاجرون معهم. وكوّن اليهود لهم "كالوتا" أي "جالبة" عاشوا فيها متمتعين بشبه استقلال ذاتي، يدير رؤسائهم "كالوتاتهم"، ويكونون هم المثلين لأتباعهم أمام السلطات صاحبة النفوذ الفعلي، كما كانوا يعقدون أحلافاً مع الأعراب على طريقة أهل المدن والحضر في عقد مواثيق مع سادات القبائل لمنع الأعراب من غزوهم ومن التحرش بأملاكهم وتجاراتهم.
وأود إن أشير هنا إلى أهمية "المتلمود" و "المشنه" و "الكماره"، بالنسية لتأريخ العرِاق، ففي أبوابها بحوث قديمة عن موطن العراق وجغرافية العراق في عهد تدوين هذه الكتب، وهي يمتد لمئات من السنن. ففي "القبدوشين" مثلاً، أسئلة وأجوبة عن "إقليم بابل" وعن "ميسان" "Mesene" وعن "ميديا"، وقد وردت فيها أسماء مدن وأنهار وقرى وغير ذلك مما يساعد كثيراً في فهم جغرافية العراق في عهود ما قبل الميلاد وما بعده.
وقد تساهل الفرس في الغالب مع اليهود، فمنحوهم استقلالاً ذاتياً واسعاً في إدارة شؤون مستوطناتهم وفي ممارسة طقوسهم الدينية وفي الاتجار، حتى صارت كل مستوطنة تدير شؤونها بنفسها وتختار حاكمها بنفسها، حتى إن بعضها وضعت على رأسها حاكماً يهودياً لقبته بلقب "ملك"، أدار شؤون الجالية طبقاً لأحكام يهود. وكان هؤلاء الحكام هم الصلة بين اليهود وبين الفرس. وقد صارت بعض هذه المستوطنات من أهم المراكز العملية ضد اليهود في العالم، وفي ضمن ذلك فلسطين. وفي هذه المواضع دوّن "التلمود البابلي"، دوّنه أحبارهم الذين استقروا في العراق. وهو يعد من أثمن التراث العبراني الذي ظهر عند اليهود. وقد تأثر بالروح العراقية حتى امتاز بها على التلمود الأورشليمي، أي التلمود الذي كتب في فلسطين.
وقد لاقى اليهود مساعدة حسنة من العرب، وعوملوا معاملة طيبة. وبظهر من مواضع في التلمود والمشنه، إن العبرانيين فروا إلى جزيرة العرب منذ أيام "بخت نصر". وقد تأثر اليهود النازحون إلى جزيرة العرب بعادات العرب ورسومهم. ويحدثنا "أبا أريخا" من الأحبار وكبار علماء التلمود في القرن الثالث الميلادي، إن اليهود كانوا يؤثرون حكم الإسماعيليين، ويقصد بهم العرب، على الرومان، ويؤثرون حكم الرومان على حكم المجوس. ومع ذلك، فقد حدث خصام بين العرب واليهود، فنجد في "التلمود" مواضع يظهر فيها حقد اليهود على العرب وكراهيتهم لهم. كالذي يظهر من كلام "الحبر يشوعه بن ليفي"4 "يشوعه بر ليفي"، حين رأى أكواماً من العنب مكدسة، فقال: "يا للبلاد يا للبلاد". لمن هذه، لأولئك العرب "الوثنيين" الذين ثاروا علينا لخطيئتنا. وكالذي يظهر من كتاب "قدوشيين" "Kiddushin"، حيث ورد، "أعطي العالم عشرة "قابات" من الوقاحة، خص العرب بتسع منها". وفي هذا الكلام دليل على تطاول العرب على اليهود في المواضع التي كانوا يعيشون بها معاً. وحقد لليهود عليهم من أجل ذلك.
ونجد في الأخبار السريانية والعبرانية أخبار غارات وغزوات قام بها عرب العراق على الجاليات اليهودُّ التي انتشرت من "بابل" وما جاورها حتى جاوزت شمال "عانه" على نهر الفرات. وقد أزعجت هذه الغارات لليهود الذين حولوا هذه الأرضين إلى أرض سادتها وغليتها حتى صيرتها على شاكلة "وادي القرى" عند ظهور الإسلام. فاضطروا تحصين مستوطناتهم وأحاطتها بأسوار وإلى تشكيل قوات تقوم بحمايتها ليل نهار حتى في أيام السبت والأعياد اليهودية، مع تحريم الشريعة اليهودية العمل يوم السبت. وأباح الأحبار لهذه القوات حمل السلاح في أيام السبت وفي أيام العطل حتى تكون على استعداد للدفاع عن تلك المستوطنات في أية لحظة يشن فيها الأعراب غاراتهم عليها، إذ يحتمل إنها تقوم بقتل اليهود.
وقد ترض الرعاة اليهود الذين كانوا يخرجون بماشيتهم من مستوطناتهم إلى البنية أو إلى ضواحي مستوطناتهم إلى غارات الأعراب عليهم، وسلبهم ماشيتهم، كما تعرض اليهود إلى الأسر، فأسر عدد منهم، نساءّ ورجالاً. حتى سلبوا. وأسروا بعض الأحبار، لذلك كانت الجاليات اليهودية تخشى من الأعراب كثيراً. وقد تعرضت مدينة "نهر دعة "Nehardea" إلى الغزو وذلك سنة "570" من للتقويم السلوقي الموافقة لسنة "259" للميلاد 1 فقد غزاها كما تقول الأخبار اليهودية سيد قبيلة عربية، اسمه "بابابر نصر" "بابا بن نصر" "Papa Bar Nasr"، وألحق بها أضراراً فادحة، وخرب بعض أماكنها، وقد هرب منها بعض أحبارها إلى مستوطنات يهودية أخرى. وقد ذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz" إلى أن هذا الأمير العربي المهاجم هو "أذينة" ملك تدمر وزوج الملكة الزباء. غير أن اشتهار ملوك الحرة عند العرب ب "آل نصر" وقرب الحيرة من مدينة "نهر دعة" واتصال عربها بالجاليات اليهودية يحملنا على التفكر في أن المهاجم هو أمر من أمراء "آل نصر". ملوك الحيرة، وهم حلفاء الفرس.
وورد في الأخبار أيضاً إن مدينة "فومبديثة" "Pumbaditha" تعرضت للغزو أيضا، وهي من أمهات مدن الجاليات اليهودية. هاجمها جيش جاءها من "عاقولاء" ويظهر إنه من قوات "آل نصر" ملوك الحيرة.
وقد كانت مدينة "فومبديثة"، محاطة بالأعراب. ولذلك كانوا يتعاملون معهم، ويأتون إليهم ويذبحون عندهم. وقد جاء في الأخبار أن أحبارها قد أباحوا لأهلها التعامل مع الأعراب في أيام أعيادهم، أي أعياد الأعراب. وذلك لأن أعياد الأعراب لم تكن ثابتة، تحل في وقت معين وفي مواسم مثبتة، لذلك جوزوا لهم البيع فيها. لأن أحكام التلمود تمنع اليهود من التعامل مع الغرباء في أيام أعيادهم إذا كانت تلك الأعياد أعياداً دينية.
ولما كانت الشريعة اليهودية لا تعتبر العيد عيداً مقدساً دبنياً إلا إذا كان يقع في أوقات ثابتة معينة لا تتغير ولا تتبدل في التقويم، لذلك أفتى الأحبار بعدم اعتبار أعياد الأعراب أعياداً دينية، وأباحوا لأهل المدينة التعامل مع المعيّدين في أيام أعيادهم.
وإلاً فما كان يحل لهم بيع الأعراب شيئاً في أيام تعييدهم. وقد باعوا لهم خمراً وحبوباً. أما بالنسبة إلى أعياد الفرس والروم، فقد منع التلمود اليهود من التعامل مع الفرس أو الفرس فيها، لأنها أعياد ثابتة وقد نص على مواعيدها، وأشهر إليها في التلمود، لذلك طلب من اليهود الامتناع عن بيع الفرس والروم شيئاً في أعيادهم.
ويذكر التلمود إن الأعراب "طيعه" "طيية" "طيايه"، المجاورين لموضع "صقونية" "SIkunya"، طلبوا من أهله وهم يهود أن يذبحوا لهم ذبائح في مقابل إعطائهم لحومها وجلودها، أما دمها فيجمع ويعطى للأعراب وذلك التقديمه لأربابهم. وكانت عادتهم تلطيخ أصنامهم بدم القرابين.
وقد عرف الأعراب ب "طييعه" في التلمود. أما السريان والموارد اليهودية الأخرى المدونة بالسريانية، فقد أطلقوا وأطلقت على الأعراب لفظة "طييه" "طيايا"، وذلك بإسقاط حرف العين من الكلمة: "طييعه" والكلمتان من أصل واحد، هو "طيء" اسم القبيلة العربية المعروفة. وقد كانت في أيام تدوين التلمود من أقوى وأشهر القبائل العربية، حتى غلب اسمها سائر أسماء القبائل، فأطلق على كل عربي كائن ما كان.
وأطلقت لفظة "عربايه" في كتاب من كتب التلمود، على العرب المزارعين الذين استقروا على مقربة من "فومبديثة". وذكر التلمود إن اولئلك العرب المزارعين كانوا قد انتزعوا مزارع اليهود بما فيها من أبنية وأملاك، وأقاموا بها، ولهذا السبب، فقد ذهب اليهود إلى حبرهم وقاضيهم "ابيه" "Abaya"، وطلبوا منه إعطاءهم وثائق تملك أخرى، حتى يكون في إمكانهم مراجعة السلطات لاثبات ملكيتهم لأملاكهم التي انتزعت بالقوة منهم.
وقد نزح يهود من فلسطين إلى الحجاز، فسكنوا وادي القرى حتى نزلوا "يثرب"، وذهب قسم منهم إلى اليمن، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق