132
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني عشر
طبقات القبائل
الأنساب
وأقرب تفسير إلى أنساب العرب في نظري هو إن النسب، ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، و إنما هو كناية عن "حلف" يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي، وتولدت من المجموع قوة ووحدة، وبذلك حافظت تلك القبائل المتحالفة على مصالحا وحقوقها. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضاً على البلاد والمعاش، واستضاف القوي الضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالّهم، و انتشر كل قوم فيما يليهم".
لقد حملت الضرورات قبائل جزيرة العرب على تكوين الأحلاف، للمحافظة على الأمن و للدفاع عن مصالحا المشتركة كما تفعل الدول. و إذا دام الحلف أمداً، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب، حيث يشعر أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جد واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنظم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في جزيرة العرب أحلافاً تتكون، وأحلافاً قديمة تنحل أو تضعف.
لم يكن في مقدور العشائر أو القبائل الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي، يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عدداً قليلا من القبائل القوية الكثيرة العدد، يذكر أهل الأخبار إنها كانت تتفاخر لذلك بأنفسها، لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. و يشترك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلاً، وطالما انتهت كما انتهت عند العرب إلى نسب، حيث يشعر المتحالفون انهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. ويقال للحاف أيضاً "تحالف"، وضد اليمانين "تكلع".
ويرى "كولدتزيهر" إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف فإنها أساس تكوّن أنساب القبائل، فإن هذه الأحلاف التي تجمع شمل عدد من البطون والعشائر والقبائل هي التي تكوّن القبائل والأنساب، كما إن تفكك الأحلاف وانحلالها يسبب تفكك الأنساب وتكوين أنساب جديدة ويرى أيضاً إن الدوافع التي تكوّن هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين وشعور بوعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة التي تهم العشيرة كالحماية والأخذ بالثأر وتأمين المعيشة. ولذا نجد الضعيف منها يفتش عن حليف قوي، فانضمت "كعب" مثلاً إلى "بني مازن" وهم أقوى من "كعب"، وانضمت "خزاعة" إلى "بني مدلج"، كما تحالفت "بنو عامر" مع "اياد" وأمثلة أخرى عديدة. ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل الفعال في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، فمتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ انحل الحلف. وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة، لذلك نجدها تتألف للمسائل المحلية التي تخص القبائل، ولم تكن موجهة للدفاع عن جزيرة العرب و لمققاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك. فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها و نزلت في أرض جديدة، كانت الأرض الجديدة المواطن الجديد، الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. و لما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة ا لقبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام.
خذ اختلاف النسابين في نسب بعض القبائل وتشككهم فيه، فأنه في الواقع دليل قوي يؤيد هذا الرأي، فقد اختلف في نسب "أنمار" مثلاً. فمنهم من عدها من ولد "نزار"، ومنهم من أضافها إلى اليمن. والذين يضيفونها إلى "نزار" يقولون إن انماراً من نزار، وأنمار هو شقيق ربيعة ومضر وإياد، فهو أحد أبنا نزار. دخل نسله في إليمن، ر فأضيفوا إليه، ومن هنا حدث هذا الاختلاف. أما اليمانية، فانهم يرون إن أنماراً هو منهم، وقد كان أحد ولد "سبأ" العشرة. فهو عندهم شقيق لخم وجذام وعاملة وغسعان وحمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعرين ويرون أن بجيلة، وخثعماً من أنمار. ويستدلون على ذلك بحديث ينسبونه إلى الرسول.
وأما الذين يرجعون نسبه إلى "نزار" فيستدلون على نسبه هذا بحديث ينسبونه إلى الرسول أيضاً. وفي الجملة لا يهمنا هنا موضوع نسب "انمار" أكان في اليمن أم كان في نزار، و إنما الذي يهمنا أن الأحلاف تؤثر تأثيراً كبيراً في نشوء النسب، فلولا دخ ول أنمار في اليمن ونزولها بين قبائل يمانية، لما دخل نسبها في اليمن. ولولا دخول أنمار في قبائل عدنانية وتحالفها معهما لما عدها النسابون من نزار، ولما عدّوا انماراً ابناً من أبناء نزار الأربعة. فاختلاط "انمار" في اليمن وفي نزار وترددها بين الجماعتين هو الذي أوقع النسابين في مشكلة نسبها.
وطالما دفعت الحروب القبائل المغلوبة على الخضوع لسيادة القبائل الغالبة وقد تتحالف معها وتدخل في جوارها،و إذا دام ذلك طويلاً، فقد يتحول الحلف و الجوار إلى نسب. ثم إن تقاتل القبائل بعضها مع بعض يؤدى أحياناً إلى ارتحال بعض هذه القبائل المتقاتلة إلى مواطن جديدة فتنزل بين قبائل أخرى، وتعقد معها حلفاً وتجاورها ومنى طال ذلك صار نسباً، كالذي ذكره أهل الأنساب من نزوح قبائل عدنانية إلى اليمن بسبب تقاتلها بعضها مع بعض، مما أدى إلى دخول نسبها في اليمن، و كالذي ذكروه أيضاً من نزوح قبائل يمانية نحو الشمال واختلاطها بقبائل عدنانية مما أدى إلى دخول نسبها في نسب تلك القبائل.
ونجد في كتب الأنساب والأخبار أمثلة كثيرة على اختلاط أنساب قبائل معروفة في عدنان وفي قحطان، كما رأيت فعل السياسة في تكييف النسب في مصدر الإسلام وفي عهد الدولة الأموية وتنظيمه، كما رأيت كيف أن بعض النسابين ينسبون قبيلة إلى أب قحطاني على حين ينسبها بعض آخر إلى أب عدناني، وكيف أن نسابي القبيلة كانوا يرون رأي آخر. وقد رأيت كيف أن بعض مم رجع نسب ثقيف إلى "ثمود" بغضاً للحجاج الذي كان من ثقيف، ورأيت أيضاً اختلاف النسابين فيما بينهم في رسم شجرات الأنساب.
لقد وقع هذا الاختلاف لعوامل عديدة سياسية وجغرافية وعاطفية، لا يدخل البحث فيها في هذا المكان.
هذا وقد رج ح "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان.، فإن ى ل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على إن تنوخاً اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخاً. وذكر بعض آخر إن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا إن تنوخاً والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك سبباً عند كثير من أهل الأخبار.
وبين أجداد القبائل والأسر الذين يذكرهم أهل الأنساب، أجداد كانوا أجداداً حقاً، عاشوا وماتوا. وقد برزوا بغزواتهم وبقوة شخصياتهم، وكونوا لقبائلهم وللقبائل المتحالفة معها أو التابعة لها مكانة بارزة، جعلها تفتخر بانتسابها إليهم، حتى خلد ذلك الفخر على هيأة نسب. ونجد في كتب الأنساب أمثلة عديدة لهؤلاء.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق