إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 8 نوفمبر 2015

129 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الحادي عشر أنساب العرب القحطانية والعدنانية في الإسلام


129

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
 
الفصل الحادي عشر

أنساب العرب

القحطانية والعدنانية في الإسلام

الحق إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه رجعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولاً زعموا إنها ترجع إلى ما قبل الإسلام بكثير، ورووا في ذلك شعراً لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم و هابيل وقابيل والجن.

وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضاً. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية و إسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي في أوج هذه العصبية الضيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في ا لإسلام.

والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد. ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزباً وتطرفا وميلاً إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا يد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني.

وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضاً، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "لحن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار". كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد". وقد ذكر الأعشى في شعر له: "ومن معدّ قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان". وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و "مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزاً سامياً، لتزوج معاوية امرأة من كلب، هي "ميسون بنت بحدَل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس. وهذا مما أغضب قيساً المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و "مضر" و "نزار". وأما "كلب"، فترادفه اليمن.وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و "كلب" لأن قيساً حاربت فيها عن "ابن الزبير". أما كلب، فقاتلت عن مروان، و قد أوجد هذا الانتصار حقداً كبيراً بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي أدعت إنها من اليمن، فوقعت حروب بن قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين. ولعب دوراً مهماً في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانين.

وقد اسهم الخلفاء الذين جاؤوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان يعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلباً" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و "يمن"، وتزعمت "أزدعمان" في البصرة و خراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و "تميم".

ووقعت وقائع دموية بين يمن و قيس، أنهكت العرب جميعاً، وصارت من جملة العوامل، التي عجلت بسقوط الأمويين.

وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدّوا ناره بوقود غزير. نظموا القصائد في مدح قيس وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه. ساهم فيه الأخطل والكُميت ودِعْبل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخَطَفَى التميميّ و إسحاق بن سويد العَدوَي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباه وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلاً من أن يتدخل الحكام و مسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة و إسكات الشعراء جمعاً للصف، ساهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها، ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضاً، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية، نتيجة لهذه السياسة المفرقة الخرقاء.

ولم يقف هذا النزاع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرسّ على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق ابن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية ابن الخَطَفَى التميمي"، في ذلك شعراً، جاء فيه: أبونا خليل الـلـه لا تـنـكـرونـه  فأكرم بإبراهيم جداً و مـفـخـرا

وأبناء إسحاق الـلـيوث إذا ارتـدوا  حمائل موت لابسـين الـسّـنَّـورا

إذا افتخروا عدّوا الصبهبذ مـنـهـم  و كسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا

أبونا أبو إسحاق بجـمـع بـينـنـا  أب لا نبالي بعـده مـن تـأخـرا

أبونا خليل الـلـه، والـلـه ربـنـا  رضينا بما أعطـى الإلـهَ وقـدرا

ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي: إذا افتخرت قحطان يوماً بسـؤدد  أتى فخرنا أعلى عليها وأسـودا

ملكناهم بداً بإسحـاق عّـمـنـا  وكانوا لنا عوناً على الدهر أعبدا

ويجمعنا والغر أبـنـاء فـارس  أب لا نبالي بعده من تـفـردا

وقول بعض النزارية: و إسحاق وإسماعـيل مـدا  معالي الفخر والحسب اللبابا

فوارس فارس وبنو نـزار  كلا الفرعين قد كبرا وطابا

ولم يقف النزاريون عند هذا الحدّ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيماً لإبراهيم الخليل بانيه، وانه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم، وأن رجلاً تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية: زمزمت الفرس على زمزم=وذاك في سالفها الأقدم وترتب على هذا وضع نسب الفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب اليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ"، و "هو يعيش بن ويزك"، و "ويزك" هو اسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخراً: أبونا ويزك وبه أسامي=إذا افتخر المفاخر بالولاده أبونا ويزك عبد رسول=له شرف الرسالة والزهاده أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو" "Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق. وأما "ويرزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي "الضحاك(. و يرى علماء التوراة إن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل" "يصحق ال" "يضحك ال" "Yishhakel" "Yishakil"، وهو والد "عيسو" و "يعقوب".

وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وانهم ولد أبيهم إبراهيم. ولعلهم قالوا ذلك تقرباً إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ضهرت في إيران.

ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس و للإسرائيليين، بل زعموا إن الأكراد من أقربائهم كذلك، وانهم من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، أو انهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد، أو انهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وانهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بي نهم وبين غسان، وانهم اعتصموا بالجبال فحادوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الاسم، وصارت لغتهم أعجمية، فذلك على رأي أسل الأخبار بدء نسب الأكراد.

وقد لقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعاً من بعض الأكراد في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضاً فرقاً في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل.

وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان فقالوا: إن يونان أخ لقحطان، وإنه من ولد عابر بن شالخ، إنه خرج من أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله ومن انضاف إلى جملته حتى و أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وانسل في تلك الديار، واستعجم لسانه ووازى من كان هناك في اللغة الأعجمية من الافرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه وصار منسياً في ديار اليمن. وقالوا أيضاً إن الاسكندر من تبع. وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، وكيف يرضون أن يكون للقحطانيين أبناء عمّ على شاكلة اليونانيين، وقد كانوا أمهر من الفرس، ولهم دولة كبرى. فقال أحدهم، وهو أبو العباس ا لناشئ: وتخلط يوناناً بقحطان ضـلّةً  لَعَمْري لقد باعدت بينهما جداً

وأضاف القحطانيون الأتراك اليهم أيضاً، فزعموا أن معظم أجناس الترك وهم "التبت" من حمير، وأن التبع "شمر يرعش" أو تبعاً آخر ربتهم هناك، و أن "شمر يرعش" هو الذي أمرببناء "سمرقند"، إلى غير ذلك من أقوال لا ترضى العدنانيين بالطبع، وفي ذلك يقول "دِعْبلِ بن علي الخُزاعي" في قصيدته ألتي يردّ بها على "الكميت"، و فخر فيها بمن سلف من ملوكهم وسير في الأرض،وان لهم من الفضل ما ليس لمعدّ بن عدنان، فقال في شعره: همو كتبوا الكتاب بباب مَروٍ  وباب الصين كانوا الكاتبينـا

وهم جمعوا الجموع بسمرقندٍ  وهم غرسوا هناك التبتينـا

وأضافوا "الضحّاك" إليهم، وصيروه من "الأزد"، والأزد من اليمن، فهو يماني إذن أصيل. و "الضحّاك" هو "بيوراسب أ عند أهل الأخبار. وقد ملكوه ألف سنة. وهو بطل أسطوري عند الفرس. وقد أخذ أهل الأخبار "ضحّاكهم" هذا من "إسحاق"، كما أخذ العدنانيون "ويزكهم" من "إسحاق" فصيروه "منشخر" على نحو ما ذكرت. وقد قلت إنّ معنى "إسحاق" في العبرانية الضحّاك. فالقحطانيون فعلوا هذا فعل العدنانيين، لجأوا إلى إسحاق فصيروه "الصحّاك"، وبدلاً من أن يقولوا إنه "ويزك" من اسم "إسحاق" في العبرانية أخذوا معنى الاسم فصيروه اسماً عربياً هو الضحاك، وجعلوه قحطانياً من الأزد.

وكان كل فريق يرد على مزاعم الفريق الآخر، حين يضيف إليه أمة من الأمم. فلما ادعى العدنانيون انهم هم و الإسرائيليون والأعاجم من نسب واحد، انرى "دعبل الخزاعي" يرد عليهم في قصيدة ساخرة يقول فيها: فان يك آل إسرائيل منكـم  وكنتم بالأعاجم فاخـرينـا

فلا تنسَ الخنازير اللواتـي  مسخن مع القرود الخاسئينا

بأيلة والخليج لهـم رسـوم  وآثار قدمن وما محـينـا

لقد علمت نزار إن قومـي  إلى نصر النبوة فاخرينـا

قال هذه القصيدة في الرد على "الحميت"، وهو لسان من ألسنة النزارية، وقد تعرضى فيها باليمانية وتهكم عليهم.

حتى الموالي، وهم كما نعلم من أصل غير عربي، أسهموا في هذه المعركة، وحاربوا في الصفوف الأولى منها، تعصب كل منهم للجانب الذي دخل في ولائه. هذا "أبو نواس"، وهو مولى "بني حكم بن سعد العشيرة"، يتعصب للقحطانية ويدافع. كل قواه عنها، لأن "بني الحكم" من اليمن. وقد حمله تعصبه لهم على نظم قصيدة هجا فيها قبائل نزار بأسرها وافتخر بقحطان وقبائلها، وقد أوجعت النزاريين وآلمتهم، فشكوه إلى الخليفة الرشيد، وهو منهم، فأمر بحبسه بسببها، وقيل إنه حده لأجلها، وأولها: لست لدار عفـت وغـيرّهـا  ضربان من قطرها و حاصبها

ثم قال مفتخراً باليمن وذاكراً للضحاك: فنحن أرباب ناعـظ ولـنـا  صنعاء والمسك في محاربها

وكان منا الضحاك يعبـده ال  خايل والطير في مساربهـا

ثم يستمر فيقول في هجاء نزار: واهج نزارا وافرِ جلدتها  وكشف الستر عن مثالبها

وأثارت هذه القصيدة جماعة من النزارية، فردت عليه. وكان منهم رجل من "بني ربيعة بن نزار"، فقال يذكر نزاراً ومناقبها، واليمن ومثالبها في قصيدة أولها: دع مدح دار خبا و انتهى  عهد معدّ بزعم عاتبهـا

ثم استمر، فقال: فامدح معداً وافخر بمنصبها ال  عالي على الناس في مناصبها

وهتك الستر عن ذوي يمن  أولاد قحطان غير هائبها

وقد أنتج هذا النزاع القحطاني العدناني قصصاً وحكايات وشعراً دُوّن في الكتب، وأنتج "حديثاً" زعم أن قائله هو الرسول، قاله في مدح قحطان أو في مدح عدنان، وأحياناً في مدح القبائل، مثل: حمير ومذحّج و همدان وغسّان، و قبائل أخرى أو في مدح بيوتات معينة من مثل هذه القبائل.

لقد تلوّن هذا النزاع بلون أدبي زاه لا يخلو من طرافة وإن كان قد أساء من الناحية السياسية إلى هذه الأمة أيما اساءة. فقد لوّن اليمانون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنّفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسؤولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنايين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين و استذلالهم إياهم.

وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأفهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كوّنوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة. و تمسك العدنانيون بأذيال إبراهيم وعدّوه جدهم الخاص بهم، مع إنه جدّ العرب عامة، كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم. ولرد دعوى الإسماعيليين هذه من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم. وصل بعض رواتهم نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، ولم يكتفوا بذلك فلا بد لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا هوداً بهم، وجعلوه نبياً يمانيا. ثم لم يقبلوا بنبي واحد زيادة على الأنبياء الذين اختص بهم العدانانيون فأضافوا إليهم صالحاً النبي وقالوا: إنه من صميم حمير وإنه صالح بن الهميع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين، وزعموا أن ثقفياً كان غلاماً له، وحصلوا بذلك على نبي وطعنوا في ثقيف، وهم من العدنانيين في الوقت نفسه، وأضافوا إليهم نبياً آخر من صميم حمير سموه أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن ج تبع الأكبر ابن تبع الأقرن، و قالوا إنه ذو القرنين الذي قال الله تعالى فيه: "أهم خيرُ أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين". وذكروا إنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب، ولذلك قال بعض العلماء فيه ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب وقالوا: نهى النبي عن سبه، لأنه آمن به قبل ظهوره بسبع مئة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجلّ. وهو أول من كسا اليت، وجعل له مفتاحاً من ذهب. وأوردوا له أشعاراً لإثبات إيمانه بالرسول تمنى فيها لو أدرك أيامه إذن لآمن به، ولكان له وزيراً وابن عم، ولألزم طاعته كل من على الأرض من عرب وعجم، ورووا له أبياتاً في البيت الحرام، وكيف كان يقصده فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر في العام سبعين ألفاً من البدن.

وزعموا فوق هذا كله إنه تنبأ بعودة ملك حمير حيث يظهر المهدي منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى حمير بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها عُبَيْد بن شَرْيَةَ الجُرهمي: ومن العجـائب أن حـم  ير سوف تعلى بالقهور

ويسودها أهل الـمـوا  شي من نضير أو نضر

يعني النضر بن كنانة، وهو قريش.

ويثيرها المنصور مـن  جنبي أزال كالصقور

وهو الإمام المرتجى الم  ذكور من قدم الدهور

وأنه قال: بمنصور صير الـمـرتـجـى  يعود من الملك ما قـد ذهـب

ويرجع بالعدل سلـطـانـهـا  على الناس في عجمها والعرب

و قالوا إن المنصور هو لقب القائم المنتظر الذي سيظهر ليعيد ملك حمير المسلوب.

وذكروا إنه كان في جملة ما قاله من شعر قوله: واعلم بنيَّ بأن كـل قـبـيلة  ستذل إن نهضت لها قحطان

إ لى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة تتحدث عن حقد القحطانيين على العدنانيين، وعن ألمهم الشديد لفراق ملكهم وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس. فعللوا أنفسهم بالتحدث عن الماضي، ثم صبروا أنفسهم بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستأتي، وعن مهدي يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون. وجعلوا ذا القرنيين الذي ورد اسمه في سورة الكهف منهم، فقالوا: هو الهميسع بن عمرو بن زيد ابن كهلان، أو الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، أو تبع الأكبر بن تبع الأقرن، أو تبع الأقرن، وكان مؤمناً عالماً عادلاً، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم حيث يكون النهار ليلاً إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وقد كان يقول الشعر، وهو الذي بشر بالنبي في شعره، وطبيعي أن يكون واضعو هذه الأشعار أناساً من الأنصار ومن بقية فروع قحطان.

وتعلق متعصبو اليمانية بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم العرب العاربة. وقد ذكر المسعودي إن من اليمانية من يرى أن الهرمين الذين في الجانب الغربي من فُسطاط مصر، هما قبرا "شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم". و نسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب.

وأضافوا إليهم لقمان الحكيم، زعموا إنه لقمان الحميري، وقالوا إنه كان حكيماً عالماً بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وقّت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها، وزعموا أن ياسر ينعم ملك بعد سليمان بن داوود، وسمي ينعم، لأنه ردّ الملك إلى حمير.بعد ذهابه، وان الضحاك ملك من الأزد كان في وقت إبراهيم فنصره. وبذلك كانت للقحطانيين منة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة. وقالوا أشياء أخرى كثيرة، قد يخرجنا ذكرها من صلب هذا الموضوع من أعمال وفتوحات لشمر يرعش وغيره من التبابعة.

وقد إوّن العدنانيون تأريخهم، واستعانوا بالشعر، فوضعوا منه ما شاءوا في الرد على القحطانيين. قال ابن سلام "نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"، و عقبوا على الروايات القحطانية. فلما ادعى اليمانيون مثلاً إن تبعهم "أيا كرب" فتح العراق والشام والحجاز، وانه امتلك البيت الحرام، ونكل بالعدنانيين شر تنكيل، وانه قال شعراً،منه: لست بالتبع الـيمـانـي إن لـم  تركض الخيل في سواد العراق

أو تؤدي ربيعة الخرج قـسـراً  أو تعذني عـوائق الـعـواق

قال العدنانيون: نعم، وقِد كانت بين تبع هذا وقبائل نزار بن معد وقائع وحروب، واجتمعا عليه معد من ربيعة ومضر وإيراد وأنمار، فأنتصرت عليه، وأخذت الثأر منه، وفي ذلك قال أبوُ دوَاد الإبادي: ضربنا على تبعّ حـربـه  حبال البرود وخرج الذهب

وولى أبو كـرب هـاربـاً  وكان جباناً كثير الرهـب

وأتبعته فهوى للـجـبـين  وكان العزيز بها من غلب

إلى غير ذلك من القصص والحكايات التي وضعها الرواة في الإسلام حين احتدم الخلاف بين الانصار وقريش، سجلت في الكتب، ورويت للناس، وانتشرت بينهم على إنها أمور واقعية، وان العرب كانوا من أصلين: قحطان و عدنان.

وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون عد الناس قصصاً وأخباراً في أخبار النزاع القحطاني العدناني. فوضع "عُبيد بن شَرية الجُرهمي" كثيراً من القصص من والأشعار عن العرب الأولى وعن القحطانيين، وضع ذلك لمعاوية ابن سفيان، وكان معاوية مغرماً بسماع أساطير الأولين وأخبار الماضين، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.

ووضع "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" المتوفى سنة "69" للهجرة، وهو شاعر متعصب لليمن، قصص "تبع". جاء في كتاب الأغاني: "سئل الأصمعي عن شعر تبع و قصته ومن وضعهما، فقال: ابن مفرغ. وذلك إن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عبيد الله بن زياد، أنزله الجزيرة وكان مقيماً برأس عين، وزعم إنه من حمير، ووضع سيرة تبع وأشعاره. وكان النمر بن قاسط يدعي إنه منهم".

وظهرت كتب ضمت أخبار التبابعة وقصصهم، أشار إليها المسعودي، دعاها ب "كتب التبابعة". وقد وقف عليها ونقل منها، وهي كما يظهر من نقله ومن نقل غيره منها من هذه الأساطير المنسوبة إلى عبيد ووهب ويزيد ابن المفرغ وأمثالهم من أصحاب القصص والأساطير.

وكان بين العدنانيين والقحطانيين جدل وكلام في لغة "إسماعيل"، فاليمانيون ومنهم "الهيثم بن عدي الطائي" كانوا يرون أن لسان "إسماعيل" الأول هو اللسان السرياني، ولم يعرف العربية. فلما جاء إلى مكة وتصاهر مع جرهم، أخذ لسانهم وتكلم به، فصار عربيا. أما النزارية، فكانت تنقي ذلك نفياً قاطعاً، وترده رداً شديداً، وتقول لو كان الحال كما تزعمون: "لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم أو لغيرها ممن ننزل مكة. وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه. وليست منزلة يعرب عند الله أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزلة قحطان أعلى من منزلة إبراهيم، فأعطاه فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان". فنفوا النزارية العربية عن قحطان أيضاً وصيروه كإسماعيل سرياني اللسان.

وقد عقب "المسعودي" على هذا النزاع النزاري القحطاني بقوله: "ولولد نزار وولد قحطان خطب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم و ما أدلى به كل فريق فهم ممن سلف وخلف". ونجد جملاً كثيرة من هذا النوع مبثوثة في كتابيه: مروج الذهب، والتنبيه و الأشراف، تتحدث عن ذلك النزاع المرّ المؤسف الذي وقع بين العرب في تلك الأيام.

ولعل هذه العصبية الجاهلية، هي التي حملت جماعة من المتكلمين منهم "ضرار بن عمرو بن ثمامة بن الأشرس" و "عمرو بن بحر الجاحظ" على الرغم إن "النبط" خير من العرب، لأن الرسول منهم، ففضلوهم ذلك على العدنانيين والقحطانيين. وهو قول رد العدنانيون و القحطانيون عليه. قال به المتكلمون متأثرين بآراء أهل الكتاب في أنساب أبناء إسماعيل وبآرائهم الاعتزالية التي تكره التعصب في مثل هذه الأمور. وقد ذكر "المسعودي" شيئاً من الرد الذي وضعه القحطانيون و العدنانيون ضد هؤلاء.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك تعليق واحد:

  1. جواد العلي الحمض النووي اثبت قبيلة التبع اليماني الكبرى هي سلالة E ومعها القبايل القحطانيه والعرب البايده وقضاعه الحميريه خلاص انتهى
    ٢-
    سلالة أبناء سبأ العشره أحفاد التبع اليماني J1 J2
    لايوجد بينهم عدناني هذه الحقيقة
    ٣- سلالة LF يوجد بها بعض قبايل قحطان
    ٤-اما سلالة R T صرحا عدنان اولهم سدنة الكعبة بني شيبه وحكام البحرين الكويت الاشراف الأصل وبني تميم الخ
    دع عنك العنصرية كلنا يبني آدم وحوا واحد اتق الله في أنساب الآخرين وتزويرها بأن نسب قبيلة قحطان حكايه قضاعة من معد انتهت

    ردحذف