124
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب
وفي كتب الأدب والدواوين شعر كثير ينسب إلى شعراء جاهليين وشعراء مخضرمين وشعراء إسلاميين، فيه هجاء عنيف من شاعر قحطاني لقبائل قحطانية، ومن شاعر عدناني لقبيلة عدنانية، وفيه مدح وفيه إغراق من شاعر قحطاني لقبائل عدنانية، وهجوم عنيف على القحطانيين، وهكذا. ولو أردنا شرح ذلك وسرد الأمثلة، لأخذ ذلك منا وقتاً طويلا يخرجنا عن صلب الموضوع، وينقلنا إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا البحث.
ثم إن علينا أن نحسب حساباً لأمر هذا الشعر المروي في المدح والفخر وفي الذم والهجاء، وهو عندي أوسع باب من أبواب الشعر محتمل النقد، و إثارة الشكوك حوله. وقد خبرنا من الكتب أن القبائل كانتّ تستأجر الشعراء لقول المدح أو الذم، و إنها كانت تعد الشاعر منحة من منح الله على القبيلة، لأنه لسانها الناطق والذائد عنها بشعره، يدافع عن قبيلته، و يهاجم أعداءها،ويتهمهم بكل ما يصل إليه فنه من الهجاء ورمي التهم، كائنين ما كانوا قحطانيين أو عدنانيين. وقد اقتضت طبيعة الخصومة التي زادت حدتها في الإسلام بين يمن ومضر وضع شيء كثير من هذا الشعر شعر المنافرة والمفاخرة بين عدنان وقحطان، وهذا أمر وقع، مفروغ منه، لا شك في صحته وثبوته، اقتضته ظروف السياسة، فيجب الانتباه له حين التحدث عن نزاع قحطان وعدنان.
وترينا الأخبار أن ما نسميه بنزاع قحطاني وعدناني لم يكن شديداً في الجاهلية بين القبائل التي كانت تقيم في الأنحاء الشمالية من جزيرة العرب، أي بين تلك القبائل التي رجع النسابون نسبها بحق أو بغير حق إلى عدنان أو قحطان، بمثل تلك الشدّة التي تظهر في النزاع الذي تحدثوا عنه بين القبائل التي كانت تعيش في اليمن أو في الحجاز. وهذا أمر ذو بال، يجب أن يحسب له كل حساب عند الحديث عن نزاع عدنان وقحطان.
وترينا الأخبار كذلك أن الخصومات التي وقعت بين القبائل العدنانية نفسها، أو بين القبائل القحطانية نفسها، لم تكن أقل عنفاً وضراوةً من ذلك النزاع الذي وقع بين من نسميهم بالقحطانيين ومن نسميهم بالعدنانيين. لقد اتخذ شكلا عنيفاً،شكلاً يجعلك تشعر أن تلك القبائل كانت تشعر إنها قبائل متباعدة لايجمعها شمل، ولا يربط بينها نسب، ولا تجمعها جامعة دماء على النحو الذي يرويه ويذكره أهل الأنساب والأخبار.
والغريب أنك في كل ذلك النزاع المرء العنيف، لا تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، و إنما تسمع فيه فخراً بأسماء القبائل أو بأسماء الأحلاف الداخلة في عدنان أو في قحطان، تسمع فيه اسم "معد" أو اسم "يمن" أو "نزار" أو "مضر" أو غير ذلك، ولا تسمع فيه اسم الجدًين الأكبرين المذكورين. فماذا يعني هذا ? وعلام يدل ? ويمن عند أهل الأنساب والأخبار وفي العرف، كناية عن "قحطان"، و "قحطان" عندهم أيضاً و في العرف كناية عن "يمن" وعن الشعوب التي ترجع نسيها إلى "يمن" 0 أما "معد" و "مضر" و "نزار"، فكناية عن "عدنان" أو عن أحلاف من أحلاف عدنان.
وأنت إذا ما أردت أن ترسيم حدوداً فاصلةٌ بين "قحطان" و "عدنان"، أي بين "يمن" و "معد"، فإنك تستطيع أن ترسمها بسهولة إذا ما اعتبرت "قحطان" كناية عن اليمن، وان "عدنان" كناية عن "قريش" والقبائل التي ترجع نسبها إلى نسب قريش. وحدود أرض قريش وحدود أرض اليمن معروفة واضحة. أما إذا أردت إن ترسم حدوداً فاصلة، وأن تضع معالم واضحة بينة بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية، استناداً إلى روايات أهل الأنساب والأخبار وإلى الشجرات التي رسموها لأنساب العرب طرّاً، فإنلك ستخفق حتماً، وسيخيب عملك من غير شك. ذلك لأن أهل الأنساب لم يسيروا في تقسيمهم العرب على وفق قواعد ثابتة وأسس واضحة مرسومة، مثل اختلاف في ملامح جسمانية، أو تمايز في أمور عقلية أو نفسية أو لغوية، أو اختلاف في مواقع جغرافية، بل ساروا وفقاً للعرف والشائع، فسجلوا الأنساب على وفق الشائع بين الناس عن النسب في ذلك العهد.
وأنت إذا أردت تطبيق ما عندك من علم في "الأثنولوجيا" وفي "الأنتروبولوجي" وفي العلوم المشابهة الأخرى، على التقسيم الثنائي للعرب، فستجد نفسك حائراً تائهاً لا مجال لقواعد علمك في هذا المكان. فبين القبائل التي تنتمي إلى "قحطان" مثلاً تباين كبير في الملامح وفي العقلية وفي اللغة، ويجعل من غير الممكن تصور وجود وحدة دموية تجمع شمل هذه القبائل، وجدّ واحد انحدر من صلبه هؤلاء، وبين القبائل العدنانية اختلاف كذلك في الملامح وفي اللغة، يضطرك إلى القول بفساد نظرية النسابين في أصل هذه القبائل. ولا بد عندئذ من اعتبار هذا انسب رمزاً أخذ من صراع قديم، أو من أحلاف قديمة، فصير جدّ ين لجماعتين. وكيف تتمكن من إقناع الباحث الحديث في العلوم المذكورة بوجود وحدة في الملامح الجسمية وفي الصفات العقلية، ووحدة في اللسان بين القبائل القحطانية الجنوبية، الضاربة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية وبين القبائل القحطانية الشمالية، مثل غسان ولخم وكلب وكندة وغيرها، على حين يرى بين الجماعتين فروقاً واضحة بينّة في كل شيء. حتى إنه يستطيع أن يشير إلى القحطاني الجنوبي حالاً عند رؤيته له، على حين لا يستطيع أن يميز القحطاني الشمالي من العدناني، ولا أن يعرفه إلا بالاستفسار منه. الصحيح إننا إذا أخذنا بالملامح وبالأمور الأخرى المذكورة، خلصنا إلى نتيجة تقول لنا إن الفروق بين القحطانيين والعدنانيين هي أقل جداً من الفروق التي نراها بين القحطانيين الشماليين والقحطانيين الجنوبيين. وهي نتيجة ليست في مصلحة أهل الأنساب بالطبع، تبين لنا إن قضية قحطان وعدنان قضية اعتبارية لا غير.
بل خذ القحطانيين الجنوبيين، وهم لبّ القحطانية ومادتها، ترَ إن القحطاني الساكن على السواحل الجنوبية يختلف في سحنته عن القحطاني الساكن في المرتفعات والهضاب، والجبال. وان الساكن على السواحل المقابلة للسواحل الأفريقية يختلف في ملامحه الجسمية عن الساكن على السواحل المقابلة للهند، وان سكان حضرموت أو عمان أو مسقط يختلفون في الملامح والسحن عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن وفي نجران وفي الأقسام الجنوبية من المملكة العربية السعودية. فهل يكون هذا الاختلاف دليلاً على قحطانية بالمعنى الذي يزعمه أهل الأنساب ?
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق