123
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب
وقد وضع بعض المؤلفين، مثل الواقدي أبي عبد الله محمد بن عمر المتوفى سنة "207ه"، مؤلفاً في "وضع عمر الدواوين، وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها"، إلا إنها ضاعت، فحرمنا الاستفادة منها، ولو بقيت مثل هذه المؤلفات اذن لكان لنا علم قيّم ورأي في كيفية تصنيف القبائل في تلك الأيام.
وقد كان بعض النسابين قد تخصص بنسب جماعة من العرب، جماعة قومه ومن يرتبط بهم في الغالب. مثل "الزبير بن بكّار" صاحب "كتاب نسب قريش وأخبارها"، ومثل "عقيل بن أبي طالب"، وكان قد تخصص بنسب قريش، ومثل "أبي الكناس الكندي"، وكان أعلم الناس بنسب كندة، ومثل "النجار بن أوس العَدْواني"، وكان من أحفظ الناس لنسب "معد ابن عدنان"، ومثل "عديّ بن رثاث الإيادي"، وكان عالماً بإياد، ومثل "خراش بن إسماعيل العِجْلي"، وكان عالماً بنسب ربيعة. وعن هؤلاء وأمثالهم أخذ أهل الأنساب علمهم بالأنساب، ووضعوا كتباً في نعشا القبائل أو في أنساب العرب، أو في انساب جماعة منهم.
ولتسجيل "عُمَر" للأنساب شاًن كبير بالنسبة إلى الباحثين في تطور النسب عند العرب، لأنه ثبت بذلك الأسس ووضع القواعد للنسابين في الإسلام وقيل من الاضطراب الذي كان يقع في النسب، بسبب الاختلاط، وعليه سار المسلمون في تقسيم العرب إلى أصلين. ولا بد أن يكون لهذا التقسيم أصل قديم، يرجع إلى ما قبل عمر. أقره الخليفة، وجعله أساساً له في التقسيم الذي بقيا مرعياً متعارفاً عليه بين النسابين إلى اليوم. ويمكن أن نقارن هذا العمل، أي تسجيل النسب وتثبيه في سجلات، بالعمل الذي قام به "عزرا" في تثبيت أنساب اليهود وتدينها، وفي تدوين انساب الغرباء، لتستقر بذلك الأنساب فسار من جاء بعده من النسابين في تعيين النسب على أساس ذلك التدوين.
وفي القرآن الكريم آيات تشير إلى عناية القوم بأحسابهم وأنسابهم، ولكنه لم يتعرض لبيان وجهة نضرهم بالنسبة إليها، ولا يشعر في موضع ما منه بوجود تلك الفكرة التي ألحّ على وجودها أهل الأخبار، وهي انقسام العرب إلى ثلاث طبقات أو طبقتين، ووجود نسبين أو جملة أنساب للعرب، ولم يرد فيه اسم "عدنان" ولا "قحطان"، ولا أي من هذه الأشياء التي يتمسك بها أهل الرواية والأخبار، ويقصونها لنا على أنها من الحقائق الثابتة في أنساب العرب، وعلى أن العرب كانوا حقاً من جدّين هما: عدنان وقحطان.
بل كان ما ورد في القرآن يشعر أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم أنهم من جد أعلى واحد، هو: "إبراهيم" وأن "إبراهيم" أبو العرب: "وجاهدوا في الله حق جهاده. هو اجتباكم. وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم. هو سماكم المسلمين ...". فلم يفرق بين عرب "قحطانيين وعرب عدنانيين. ورُوي: إن الرسول قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام".
بل حتى الشعر الجاهلي، لا نجد فيه إشارة واحدة تفيد اعتقاد الجاهليين بوجود أصلين أو ثلاثة أصول أو أكثر لهم. وكل ما ورد فيه هو فخر بقحطان وفخر بعدنان أو معدّ أو غير ذلك من الأسماء التي تعد من أسماء الأجداد التي ينتهي إليها "الشعب" أو "الجذم". وأما التفصيلات الأخرى والأسماء الواردة في تحب النسب أو الأخبار والتواريخ، فهي من روايات الإسلاميين. ثم إن من الشعر الجاهلي ما لا يصح أن يكون جاهلياً، ومنه ما قيل قبل الإسلام، ولا يصح كل الشعر الجاهلي أن يكون شاهداً على آراء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام.
كذلك لا نجد في شعر الجاهلية سلسلة نسب شحطان أو عدنان. ولا نجد في الأخبار ما يفيد وقوف أهل الجاهلية عليها ر وهي سلسلة أخذت اسماؤها من التوراة، وبعضها أسماء محرفة موضوعة على شاكلة الأسماء التوراتية. أما في الحديث النبوي، فقد ورد أن الرسول انتسب إلى "أسد"، وهو والد "عدنان"، ثم قال: "كذب النسابون". و في كل ذلك دلالة على أن أسماء آباء قحطان وعدنان، إنما دونت وتثبت في الإسلام. أما قبل الإسلام، فلعل بعضهم وفي أيام الرسول، كان قد تلقن من اليهود نسب قحطان، وان بعض اليهود لقن العرب نسباً لعدنان، فلما لاكت الألسنة تلك الأنساب، وسمعها الرسول قال: "كذب النسابون".
أما أسماء أبناء قحطان وعدنان فما دون ذلك، فإنها أسماء عربية في الغالب، و ينقطع منها أثر التوراة وأثر الأسماء التوراتية، مما يدل على إن النسابين العرب كانوا على علم وبصيرة بتلك الأسماء، وأنها كانت معروفة عندهم. وهي أسماء لا ترد في التوراة ولا خير لها عند أهل الكتاب.
وقد ذهب "دوزي" إلى وجود فروق أساسية بين القحطانيين و العدنانيين، حتى ذهب إلى وجود اختلاف بين نفسهية كل جماعة من الجماعتين. وأنا لا أريد أن أنكر عليه وجود العداء الذي كان قد استحكم بين القبائل التي تنتسب إلى معد أو إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر عليه نهجا شعراء اليمن على قبائل معد، أو عدنان، ولا نهجم شعراء عدنان على قبائل اليمن المنتمية إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر افتخار اليمانيين بانتسابهم إلى اليمن، ولا افتخار العدنانين بانتسابهم إلى عدنان أو مضر أو معد أو غير ذلك من أسماء الشعوب والأجذام، لا أريد أن أنكر شعر "امرىء القيس" في افتخاره بنسبه في اليمن، ولا أن أنكر شعر غيره من الشعراء اليمانيين أو الشعراء العدنانيين في الافتخار باليمن أو بمضر أو بمعد. ولكنني لا أريدّ أن أنكر في الوقت نفسه افتخار القبائل القحطانية بعضها على بعض، وافتخار القبائل العدنانية بعضها على بعض، وهجاء القبائل القحطانية بعضها لبعض، وهجاء القبائل العدنانية بعضها لبعضها هجاء لا يقل عن هجاء اليمن لمعد أو هجاء معد لليمن. فهل يصح أن يتخذ هذا الهجاء سبباً لوضع نظرية في اختلاف أجناس هذه القبائل? وهل يصح أن نجعل هذا الهجاء حجة على تباين أصل القحطانيين، وعلى تباين أصل العدنانيين ? إن جاز ذلك، وجب علينا إذن إعادة النظر في كل ما هو مكتوب عن أصول القبائل وفي كل ما هو مدوّن في كتب النسب والأخبار.
هذا "سلامة بن جندل السعدي"، وهو من مضر، يحل في شعره على معدّ، ويهجوها هجاًء مراً، وهذا "قي س بن الخطيم" لسان الأوس يحمل على الخزرج، ويردد ذكريات الأيام التي كانت بين الأوس والخزرج بمثل الشدة التي تجدها في شعر الهجاء الذي قاله العدنانيون في القحطانيين، والقحطانيون في العدنانيين. إنه ذكر تلك الأيام لا لمجرد الفخر والتباهي، بل ليثير في نفوس الأوس الأحقاد القديمة، وليزيد في تلك النيران نيراناً. لقد ذكرهم "بيوم الربيع"، وذكرهم ب "يوم السرارة"، وذكرهم ب "يوم مضرس ومعبس"، و هو يوم دارت فيه الأيام دورنها على الأوس، فقتل منهم عدد كبير، وانهزم أكثرهم إلى بيوتهم وآطابهم، حتى خرج الناس من طوائفهم إلى مكة يستعينون على الخزرج، وذكرهم بأيامهم الأخرى. كل ذلك بلهجة عنيفة شديدة، ليس فيها لين ولا رفق. إنه ينظر إلى الخزرج نظرة عداء وحقد، نظرة تشعر منها أن الأوس جنس وأن الخزرج من جنس بعيد آخر. لقد ذكر قريشاً بخير، وذكر إنها ستحمل عنهم حرب الخزرج، وذكر أنهم لو التحقوا بأبرهة اليماني أو بنعمان أو عمرو، لنالوا من هؤلاء كلُّ قدير، ولجعلوا لهم جاهاً أي جاه.
ذكر أبرهة حاكم اليمن، وذكر غسان ولخماً، وذكلر أهم من ذلك كله قريشاً على إنها ستحمل الحرب وستقابل الخزرج عما قريب. وقريش من عدنان، والأوس والخزرج من قحطان، ولم نجد في شعره ما يذكر برابطة النسب بين الخزرج والأوس. ولم برد في شعره اسم قحطان أو عدنان. والقصيدة التي ذكر فيها هذا اليوم هي من أقدم قصائد هذا الشاعر الذي اضطرت قبيلته "للظفر"، ومعها "عبد الأشهل" إلى مغادرة يثرب والتفتيش عن حليف يساعدها في العودة إلى ديارها، فذكر قيس قريشاً، وكأنه يذكر قبيلة قريبة من قبيلته، مع إنها من نسب آخر في رأي النسابين.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق