83
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصَلُ السادس
صلات الحرب بالساميين
لاحظ المعنيون بلغات "الشرق الأدنى" وجود اوجه شبه ظاهرة بين البابلية والكنعانية والعبرانية والفينيقية والأرمية والعربية واللهجات العربية الجنوبية والحبشية والنبطية وامثالها، فهي تشترك أو تتقارب في أمور أصلية وأساسية من جوهر اللغة، وذلك في مثل جذور الأفعال، وأصول التصريف، تصريف الأفعال، وفي زمني الفعل الرئيسيين، وهما: التام والناقص، أو الماضي والمستقبل، وفي أصول المفردات والضمائر والأسماء الدالة على القرابة الدموية والأعداد، وبعض أسماء أعضاء الجسم الرئيسية، وفي تغير الحركات في وسط الكلمات الذي يحدث تغيراً في المعنى، وفي التعابير التي تدل على منظمات للدولة، والمجتمع والدين، وفي أمور مشابهة أخرى، فقالوا بوجوب وجود وحدة مشتركة كانت تجمع شمل هذه الشعوب، وأطلقوا على ذلك الأصل، أو الوحدة "الرس السامي" أو "الجنس السامي"، أو "الأصل السامي"، أو "السامية، "Aemites" "Ahemites" "Semitic Race" وعلى اللغات التي تكلمت وتتكلم بها هذه الشعوب "اللغات السامية"، "Semitic Languaues".
وقد أخذ من أطلق هذه التسمية، تسميته هذه من التوراة. أخذها من اسم "سام بن نوح"، جدّ هذه الشعوب الأكبر، كما هو وارد فيها. وأول من أطلقها وأذاعها بين العلماء علماً على هذه الشعوب، عالم نمساوي اسمه "أوغست لودويك شلوتسر" August Ludeig Schlostzer أطلقها عام "1781 م" فشاعت منذ ذلك الحين، وأصبحت عند العلماء والباحثين في موضوع لغات الشرق الأدنى علماً للمجموعة المذكورة من الشعوب وقد أخذ "آيشهورن" "Joh. Cotte. Eichhorn" هذه التسمية، وسعى لتعميمها بين العلماء علماً على الشعوب المذكورة.
وفي عام "1869 م" قسم العلماء اللغات السامية إلى مجموعتين: المجموعة السامية الشمالية، والمجموعة السامية الجنوبية وتتألف المجموعة الشمالية من العبرانية والفينيقية والأرمية والآشورية والبابلية والكنعانية. و أما المجموعة الجنوبية، فتتألف من العربية بلهجاتها والحبشية. وعمم استعمال هذا الاصطلاح بينهم وأصبح موضوع "الساميات" من الدراسات الخاصة عند المستشرقين، تقوم على مقارنات وفحوص "أنتولوجية" و "بيولوجية" وفحوص علمية أخرى، فضلا عن الدراسات التاريخية واللغوية والدينية.
وهذه القرابة الواردة في التوراة، وذلك التقسيم المذكور فيها للبشر، لا يستندان إلى أسس علمية أو عنصرية صحيحة، بل بنُيت تلك القرابة، ووضع ذلك التقسيم على اعتبارات سياسية عاطفية وعلى الآراء التي كانت شائعة عند شعوب العالم في ذلك الزمان عن النسب والأنساب وتوزع البشر. فحشرت التوراة في السامية شعوباً لا يمكن عدها من الشعوب السامية، مثل "العيلاميين" "Elam" و "اللودبين" "Ludim" "Lud"، وأقصت منها جماعة من الواجب عدّها من الساميين، مثل "الفينيقيين" و "الكنعانين".
ويرى "بروكلمن" إن العبرانيين كانوا قد تعمدوا إقصاء الكنعانيين من جدول أنساب سام، لأسباب سياسية ودينية، مع أنهم كانوا يعلمون حق العلم ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات عنصرية ولغوية.
وقد رَجَع الإصحاح العاشر من التكوين نسب الفينيقين و السبئين إلى حام جد الكوشيين، ذوي البشرة السوداء، مع أنهم لم يكونوا من الحاميين، وقد يكون ذلك بسبب وجود جاليات فينيقية وسبئية في افريقية، فعدّ كتبة التوراة هؤلاء من الحاميين.
وقد عرف المسلمون اسم "سام بن نوح"، وقد كان لا بد لهم من البحث عن أولاد "نوح" لما لذلك من علاقة بما جاء عن "نوح" وعن الطوفان في القرآن الكريم. و قد روي أن رسول الله قال: "سام أبو العرب، و يأفث أبو الروم، و حام أبو الحبش"، وقد روى "الطبري" جملة أحاديث عنه في هذا المعنى. و قد لاحظت كلها وردت من طريق "سعيد بن أبي عروبة" عن "قتادة" عن "الحسن" عن "سمرة بن جندب"، و هي في الواقع حديث واحد، و لا يختلف إلا اختلافا يسيرا في ترتيب الأسماء أو في لفظ أو لفظين. ومن هنا يجب إن يدرس هذا الحديث و كل الأحاديث المنسوبة إلى الرسول في هذا الباب دراسة وافية،لنرى مدى صحة نسبتها إلى الرسول، كما يجب دراسة ما نسب إلى عبد الله بن عباس أو غيره في هذا الشأن، فإن مثل هذه الدراسات تحيطنا علما برأي المسلمين أيام الرسول و بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى في نسبتهم إلى سام بن نوح.
وقد قسم بعض علماء الساميات المحدثين اللغات السامية إلى أربع مجموعات هي: المجموعة السامية الشرقية ومنها البابلية والآشورية،والمجموعة الشمالية ومنها الأمورية والأرمية، والمجموعة الغربية ومنها الكنعانية والعبرانية والموابية والفينيقية، والمجموعة الجنوبية ومنها المعينية والسبئية والاثيوبية والعربية والأمهرية. ويلاحظ إن واضعي هذا التقسيم لم يراعوا في وضعه التطورات التاريخية التي مرت بها هذه اللغات بل وضحوا تقسيمهم هذا على أسس المواقع الجغرافية لتلك الشعوب.
والسامية بعد، ليست رساً "Race" بالمعنى المفهوم من الرس عند علماء الأحياء، أي جنس له خصائص جسمية وملامح خاصة يميزه عن الأجناس البشرية الأخرى. فبين السامين تمايز وتباين في الملامح وفي العلامات الفارقة يجعل اطلاق "الرس" عليهم بالمعنى العلمي الحديث المفهوم من "علم الأجناس"، أو الفروع للعلمية الأخرى نوعاً من الإسراف واللغو، كما أننا نرى تبايناً في داخل الشعب للواحد من هذه الشعوب السامية في الملامح والمظاهر الجسمية، وفي هذا التمايز والتباين دلالة على وجود اختلاط وامتزاج في الدماء، سأتحدث عنه في الفصل الخاص بالأنساب وبانقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين.
ولقد وجد بعض علماء "الانثروبولوجي" مثلاَ إن بين اليهود تبايناً في الصفات وفي الخصائص التي وضعها هذا العلم للجنس، مع ما عرف عن اليهود من التقيد بالزواج وبالابتعاد عن الزواج من غير اليهود. وكذلك وجد العلماء الذين درسوا العرب دراسة "انثروبولوجية" إن بين العرب تبايناً في الملامح الجسمية. وقد اتضح. وجود هذا التباين عند الجاهليين أيضاً، كما دلت على ذلك الفحوص التي أجريت على بقايا العظام التي عثر عليها في مقابر جاهلية. كذلك وجد علماء "الأنثروبولوجي" من فحص العظام التي عثر عليها في الآثار الآشورية والبابلية إن أصحابها يختلفون أيضاً فيما بينهم في الملامح التي تعد أساساً في تكوين جنس من الأجناس.
ولهذا، فإني حين أتحدث عن السامية لا أتحدث عنها على أنها جنس، أي رسّ صاف بالمعنى "الأنثروبولوجي"، بل أتحدث عنها على أنها مجموعة ثقافية وعلى أنها مصطلح أطلقه العلماء على هذه المجموعة لتمييزها عن بقية الأجناس البشرية، فأنا أجاريهم لذلك في هذه التسمية، ليس غير.
إن بحوث العلماء في موضوع السلالات البشرية وفي الأجناس البشرية وفي توزع الشعوب وخصائص ومميزات الأجناس لا تزال بحوثاً قلقة غير مستقرة. ولهذا تجد نتائج بحوثهم في تعريف الجنس وفي صفات الأجناس وفي المسائل الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع مختلفة، ولا سيما إن هنالك عدة أمور تؤثر في حياة الإنسان وفي خصائصه الروحية والجسمية. وللنواحي اللغوية وبعض الخصائص الروحية الأخرى، وان كانت مهمة وضرورية لدراسة الناحية العقلية للإنسان، إلا إنها ليست الأسس للوحيدة لتكوين رأي في الأجناس البشرية.
فالسامية إذن، بهذا المعنى هي مجرد اصطلاح، قصد به للتعبير عن هذه للروابط أو الظواهر التي نراها بين الشعوب المذكورة،أما البحث على إن الساميين جنس من الأجناس بالتعبير الذي بعنيه أهل العلوم من لفظة جنس، فإن ذلك في نظري موضوع لا يسع علماء للساميات أو علماء التاريخ إن يبتوا فيه ويصدروا حكماً في شأنه، لأنه بحث يجب إن يستند إلى تجارب وبحوث مختبرية، والى دراسات للشعوب الباقية من السامية، بان ندرس جماجم قدماء للساميين وعظامهم في جزيرة العرب وفي المواطن الأخرى التي انتشر فيها للساميون، وعند اكمال مثل هذه الدراسات ووصولها إلى درجات كافية ناضجة يمكن للعلماء حينئذ إن يتحدثوا عن السامية من حيث إنها جنس بالمعنى العلمي، أو جنس بالمعنى الاصطلاحي.
هذا وقد عني بعض الباحثين المحدثين بدراسة ما عثر عليه في بعض القبور العادية من عظام، لتعيين أوصافها وخصائصها والجنس الذي تعود لليه، كما قام بعضهم بدراسة أجسام الأحياء وإجراء فحوص عليها وتسجيل قياسات الرؤوس وملامح الأجسام وما إلى ذلك مما يتعلق بموضوع "الأجناس البشرية"، وإذا ما استمر العلماء على هذه الدراسة وتوسعوا فيها، فسيكون لها شاًن خطير في وضع نظريات علمية عن تاريخ أجناس الشرق الأدنى وفي جملتهم الساميين.
وممن بحث في "أنثروبولوجية" الشرق الأدنى "كبرس Ariens Kapperes"، وقد وضع مؤلفا قيَماً في دراسة شعوب الشرق الأدنى. و "الدكتور سلكمن" "Dr. Seligman"، و "شنكلن W. Shanklin" الذي عني بدراسة "أنثروبولوجية" سكان شرقي الأردن وتقسيماتهم وحالات أعصابهم، و "A. Mochi"، و "برترام توماس" الذي قام بدراسات علمية عديدة من هذه الناحية لنماذج من أفراد القبائل العربية الجنوبية، والبعثة الأمريكية التي أرسلها متحف "فيلد" بشيكاغو لدراسة "أنثروبولوجية" القبائل العراقية النازلة على مقربة من "كيش"، عدا دراسات أخرى عديدة قام بها علماء آخرون.
وقد أجريت أكثر هذه البحوث في مناطق عرفت باتصالها منذ القديم بالعالم الخارجي، وفي أرضين استضافت الغرباء، فهي لذلك لا يمكن إن تعطينا فكرة علمية عن "أنثروبولوجية" ساحل جزيرة العرب، فلا بد من القيام بدراسات دقيقة في قلب الجزيرة لتكوين رأي علمي عن عرب هذه الأماكن.
وقد لاحظ الفاحصون للعظام التي عثر عليها في الأقسام الجنوبية الشرقية من جزيرة العرب وجود تشابه كبير بين جماجم أهل عمان وجماجم سكان السواحل الهندية المقابلة هذه البقاع، كما لاحظوا تشابهاً كبيراً في الملامح الجسمية بين العرب الجنوبيين أهل عدن وبقبة العربية الجنوبية الغربية وتهامة وسكان إفريقية الشرقية.
وقد اتخذ القائلون إن أصل العرب الجنوبيين من إفريقية هذا التشابه حجة، تذرعوا بها في إثبات نظرياتهم هذه.
غير إن هذه الفحوص أشارت من جهة أخرى إلى حقيقة تخالف النظرية الإفريقية، إذ بينت إن أشكال جماجم العرب الجنوبيين ورؤوسهم هي من النوع الذي يقال له: "Brachycephaly". أما أشكال جماجم سكان إفريقية الشرقية ورؤوسهم، فمن النوع الذي يعرف باسم "Dolichocephaly" في الغالب. وهذا التباين لا يشير إلى وحدة الأصل. وقد تبين من هذه الفحوص إن أشكال جماجم العرب الشماليين ورؤوسهم، هي من نوع "Dolichocephaly" كذلك، أي أنها نوع مشابه لأشكال جماجم الإفريقيين الشرقيين ورؤوسهم.
وقد حملت هذه النتائج بعض الباحثين على التفتي في إن العرب الجنوبيين كانوا في الأصل في المواطن التي تكثر فيها الرؤوس المستديرة، وأن هذه المواطن هي من آسية الصغرى إلى الأفغان، فزعموا أنهم كانوا هناك ثم هاجروا منها إلى مواطنهم الجديدة في العربية الجنوبية، كما زعموا إن سكان "عمان" قد تاثروا تأثرا كبيراً بالدماء "الدراويدينية" "Dravidian" الهندية، لهذا تجد أنهم يختلفون بعض الاختلاف عن بقية العرب الجنوبيين.
وإذا قامت بعثات علمية بالبحوث "الأنثروبولوجية في مواضع أخرى من جزيرة العرب ولا سيما في باطن الجزيرة، و إذا ما استمر العلماء والسياح في البحث عن العظام والأحداث، وفي دراستها دراسة مختبرية، واستمروا في إجراء فحوصهم على الأحياء، وقورنت نتائج فحوصها بنتائج فحوص العلماء في بقية أنحاء الشرق الأدنى، فإن البحث في الساميات وفي علاقات الشعوب القديمة بعضها ببعض، سيتقدم كثيراً،وسيأتي ولا شك بنتائج علمية مقبولة في موضوع السامية والجنس السامي.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق