63
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الرابع
جزيرة العرب
الأنهار والأودية
ليس في جزيرة العرب انهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل، بل فيها أنهار مغيرة أو جعافر. وهي لذلك تعد في جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يتغلب عليها الجفاف. ويقل فيها سقوط الأمطار، ولذلك أصبحت أكر بقاعها صحراوية قليلة السكان. غير أنها كثيرة الأودية،تطغى عليها السيول عند سقوط الأمطار، فصير وكأنها طاغية مزبدة. وهي في الغالب طويلة، تسير في اتجاه ميل الأرض. أما الأودية التي تصب في البحر الأحمر أو في البحر العربي، فإنها قصيرة بعض الشيء، وذات مجرى أعمق، وانحدار أشد، والمياه تسيل فيها بسرعة فتجرف ما يعرضها من عوائق، وتنحدر هذه السيول إلى البحر فتضيع فيه، ومن الممكن الاستفادة منها في الأغراض الزراعية والصناعية. وقد تكون السيول خطرا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر. وفي كتب المؤلفين الإسلاميين إشارات إلى سيول عارمة جارفة، أضرت بالمدن والقرى والمزارع وبالقوافل والناس، إذ كانت قوية مكنتها من جرف الأبنية والناس، ومن إغراقهم حتى ذكر إن خراب عاصمة اليمامة القديمة كان بفعل السيل، وأن كثيراً من المزارع والأموال هلكت وتلفت بفعل لعب السيول بها لعباً لم تتحمله، فهلكت من هذا المزاح الثقيل.
وليس في استطاعة أحد التحدث عن ملاحة بالمعنى المفهوم من الملاحة في نهيرات جزيرة العرب، وذلك لأن هذه النهيرات أما قصيرة سريعة الجريان منحدرة انحداراً شديداً، و أما ضحلة تجف مياهها في بعض المواسم فلا تصلح في كلتا الحالتين للملاحة. وهي أيضاً شحيحة بالثروة الحيوانية، وليس فيها إلا مقادير قليلة من الأسماك.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن كثيراً من أودية جزيرة العرب كانت أنهاراً في يوم من الأيام. واستدلوا على ذلك بوجود ترسبات في هذه الأودية، هي من نوع الترسبات التي تكون في العادة في قيعان الأنهار، ومن عثور السياح على عاديات وآثار سكن على حافات الأودية. ومن نص بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على وجود أنهار في جزيرة العرب. فقد ذكر "هيرودوتس" نهرأَ سماه "كورس" زعم انه نهر كبير عظيم، يصب في "البحر الأريتوي"، ويقصد به البحر الأحمر، وزعم إن العرب يذكرون إن ملكهم كان قد عمل ثلاثة أنابيب صنعها من جلود الثيران وغيرها من الحيوانات، امتدت من هذا النهر إلى البادية مسيرة اثنتي عشر يوماً، حملت الماء من النهر إلى مواضع منقورة، نقرت لخزن المياه الآتية من ذلك النهر فيها.
وهناك موضع على مقربة من ساحل البحر الأحمر اسمه "قرح" على مسافة 43 كيلومتراً من "الحجر" في مكان يمر به خط الحديد الحجازي في منطقة صحراوية، وكان في الأزمنة السابقة من المحلات المزروعة، وبه بساتين عدة تعرف ب "بساتين قرح"، وعلى مقربة منها "سقيا يزيد" أو "قصرعنتر" "إسطبل عنتر"، كما تعرف به في الزمن الحاضر على بعد 98 كيلومتراً من المدينة. والى شماله "وادي الحمض" الذي يرى بعض العلماء أنه المكان الذي أراده "هيرودوتس".
وذكر "بطلميوس" نهراً عظيماً سماه "لار" Lar، زعم انه ينبع من منطقة "نجران"، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقاً بلاد العرب حيث يصب في الخليج العربي. ولا يعرف من أمر هذا النهر شيء في الزمن الحاضر، ولعله كان وادياً من الأودية التي كانت تسيل فيها المياه في بعض المواسم، أو كان بقايا نهر، أثرت في مياهه عوامل الجفاف. ويرى "موريتس" إن هذا النهر الذي أشار إليه "بطليموس"، هو وادي الدواسر، الذي يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد زهاء خمسين ميلاً من جنوب شرفي السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول، وتغيض مياهه في الرمال في مواضع عديدة، فتكون بعض الواحات التي يستقى منها، ويزرع عليها. ويلاحظ وجود مياه غزيرة في واديه، في مواضع لا تبعد كثيراً عن القشرة. وهذا مما يحمل على الاعتقاد بوجود مجاري أرضية تحت سطح الوادي، وانه كان في يوم ما نهراً من الأنهار، غير أننا لا نستطيع إن نتكهن في أمر هذا الوادي أكان نهراً جارياً في زمن بطلموس كما أشار إلى ذلك، أو كان وادياً رطب القبعان لم تكن عوامل الجفاف قد أثرت فيه أثرها في الزمن الحاضر. لذلك كانت تمكث فيه السيول والأمطار المتساقطة على السفوح الشرقية لجبال اليمن مدة أطول مما هي عليه الآن. والرأي عندي إن هذه الأنهار وأمثالها التي يشير إليها المؤلفون اليونان والرومان، لم تكن في الواقع وبالنسبة إلى ذلك الزمن إلا سيولا" عارمة جارفة سمعوا بأخبارها من تجارهم ومن بعض رجالهم الذين كتب لهم الذهاب إلى بلاد العرب أو اتصلوا بالعرب، فظنوا إنها أنهار عظيمة على نحو ما ذكروه. فلا يعقل وجود الأنهار الكبيرة في ذلك الزمن، إذ كان الجفاف قد أثر تأثيره في إقليم جزيرة العرب قبل ذلك بأمد طويل، فلا مجال لبقاء أنهار على النحو الذي يذكره أولئك الكتاب.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق