113
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل التاسع
العرب العاربة والعرب المستعربة
العرب المستعربة
والطبقة الثالثة من طبقات العرب - على رأي أهل الأخبار - هم "العرب المستعربة" "المتعربة"، ويقال لهم العدنانيون أو النزاريون أو المعديون. وهم من صلب "إسماعيل بن إبراهيم وامرأته "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي" . قيل لهم "العرب المستعربة"، لأنهم انضموا إلى العرب العاربة، وأخذوا العربية منهم. و منهم تعلم "إسماعيل" الجد الأكبر للعرب المستعربة العربية، فصار نسلهم من ثَم من العرب واندمجوا فيهم. وموطنهم الأول مكة على ما يستنبط من كلام الأخباريين، فيها تعلم "إسماعيل" العربية، وفيها ولد أولاده، فهي إذن المهد الأول للإسماعيليين.
ويذكر أهل الأخبار أن "إسماعيل" ولد من زوجه "رعلة"، اثني عشر رجلاً هم: "نابت" وكان أكبرهم، و "قيذر" و "أذبل"، وميشا، و مسمعا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، و نبش، وقيذما. وأكثر هذه الأسماء وروداً في الكتب العربية، نابت، وقيذر. وقد أخذ النسابون هذه الأسماء من التوراة، فقد جاء فيها: "هذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم، على حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، و مشماع، و دومة، ومسا، وحدار، وتيما، و يطور، و نافيش، وقدمة".
ولم تذكر التوراة اسم المرأة التي تزوجها إسماعيل، فأولدها هؤلاء الأولاد الذين انتشروا، فسكنوا في منطقة تمتد من "حويلة" إلى "شور".
وعدنان في نظر العدنانيين هو جدهم الأعلى، كما أن قحطان هو الجد الأعلى للقحطانيين. ولما كانت الطبقة الأولى من العرب قد بادت وذهبت، تكون العرب الباقية و كلها من ولد قحطان و عدنان، استوعبت شعوب العرب كلها.
وقد رأينا أن "قحطان" هو "يقطن" أو "يقطان" في التوراة. أما "عدنان"، فلا نجد له اسما فيها، وقد رأينا أن بين "يقطان و"سام" ثلاثة آباء أو أربعة. أما بين عدنان وسام، فعدد كبير من الأباء.
وقد اختلف النسابون في عدد من كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فرأى بعضهم أنهم أربعون، وروى غيرهم انهم عشرون، وقال آخرون انهم خمسة عشر شخصاً، وقالت جماعة إن المدة طويلة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينها هذا العدد من الآباء.
وقد اختلف الأخباريون وأصحاب الأنساب في نسب عدنان اختلافاً كبيراً، واختلفوا بينهم حتى في كيفية النطق بتلك الأسماء، على حين إننا لا نرى اختلافاً بينم في نسب قحطان، ولا في كيفية النطق بتلك الأسماء . وقد علل محمد أبن سعد الواقدي ذلك بقوله: "وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم، وعلم علمهم، فذكر ان بورخ أبن ناريا، كاتب أرميا أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء. ولعل خلاف ما بين هم من قِبل اللغة، لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية" .
ويقول الواقدي في موضع آخر: "وهذا الاختلاف في نسبته يدل على انه لم يحفظ، و إنما اخذ من أهل الكتاب، وترجموه لهم، فاختلفوا فيه. ولو صح ذلك، لكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اعلم الناس به. فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معدّ بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل ابن إبراهيم، وقال أيضا: "ما وجدنا في علم عالمٍ ولا شعر شاعر أحداَ يعرف ما وراء معد بن عدنان بثبت".
ونقل ابن خلدون رأي من تقدمه في هذا الاختلاف، فقال: " ونقل القرطبي عن هشام بن محمد فما بين عدنان وقيدار نحواً من أربعين أباً، وقال: "سمعت رجلا" من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معدّ ابن عدنان إلى إسماعيل من كتاب أرمياء النبي، عليه السلام، وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلا قليلا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة، لأن الأسماء ترجمت من العبرانية".
ويرجع بعض أهل الأخبار اختلاف الناس في عدد الآباء والأجداد فيما بين عدنان وإسماعيل إلى أَيام النبي، فهم يذكرون إن الناس كانوا في خلاف فيما بينهم في عددهم، وان الرسول لما رأى خلافهم هذا، نهاهم عن تجاوز نسب "معد بن عدنان"، وأمرهم بالتوقف عنده. وانتسب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى عدنان، وقال: "كذب النسابون، فما بعد عدنان، فهي أسماء سريانية لا يوضحها الاشتقاق" .
وقد جعل بعض الأخباريين اسم والد "عدنان" "أُدَداً"، وساقوا نسبه على هذا الشكل: "عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى"، وساقه آخرون على هذا الوجه: "عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص ابن يوز بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن بلداس بن تدلاف بن طايخ ابن جاحم بن ناحس بن ماخي ين عيقي بن عبيد بن الدعا 000" إلى آخر ذلك من سلسلة مفتعلة ولا شك، رواها "ابن الكلبي". وقد سبق النسب على هذه الصورة أيضاً: "عدنان بن أدد بن الهميسع". وروي بصور أخرى في كتاب نسب قريش "للزبيري".
ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن "أد" أو "أدد"، ولا عن كيفية توصلهم إلى أحدهما، أو كليهما. وقد زعم بعض علماء اللغة إن "أد" من "أدّ"، والكلمة فعل من المودّة، "قليت الواو ألفاً لانضمامهما".
وذكر الأخباريون أن "وُدّاً"، وهو الصنم الشهير الذي تغلب على دومة الجندل وتعبدت له "كلب" و "قريش" و قبائل أخرى عديدة، كان يهمز أيضاً، فيقال "أدّ"، وبه سمي "عبد وُدّ"، كما سمي "ادّ بن طابخة"، و "أدد جد معدّ بن عدنان".
ونجد بين آلهة الشعوب السامية اسم صنم يقال له: "أدد" "Adad" و "أدو" "Addu"، أرى أن لاسم هذا الصنم علاقة باسم "أدد".
وقد ساق "محمد بن إسحاق" نسب عدنان على هذه الصورة أيضاً: "عدنان ابن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"، فجمع بين نسب "عدنان" ونسب "يعرب"، ورجعهما كما ترى إلى "إسماعيل"، وساقه في مكان آخر بصورة أخرى.
والغريب أن الرواة الذين رووا هذه الأنساب وشجرات النسب التي يتصل سند روايتها بهم، كابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وأمثالهما، هم أنفسهم يروون هذا النسب بأشكال مختلفة ومتضاربة، وطالما حرفوا الأسماء العبرانية، ورووها بصور متعددة، وقد يحشون بينها أسماء عربية. وقد روى رواياتهم هذه أناس متعددون، ولكنهم متفقون على أنهم سمعوها منهم، أو نقلوها من مؤلفاتهم، كما يتبين ذلك من السند. ولما كان أكر هذه الأسماء الواردة في عمود نسب "عدنان" محرفة، وكانت غير موجودة في التوراة، وإنما هي أسماء عبرانية ممسوخة احياناً، فإنّ هذا يدل على أن الرواة اليهود الذين كانوا يتحدثون بمثل هذه الأمور إلى ابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما ممن مال إلى الأخذ منهم، كانوا إما جهلة بما يتحدثون به، وإما كذّابين أو ممن كانوا يحاولون التقرب إلى المسلمين بهذه التلفيقات لمآرب خاصة، أو ادعاءً للعلم. غير أننا لا نستطيع أن نبرئ هؤلاء للرواة أنفسهم من وصمة الجهل أو الكذب، ولا سيما ابن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار. الجائز أنه كان يلجا إلى أهل الكتاب ليأخذ منهم ما عندهم، ومن الجائز انه كان يضيف اليها، أو يخترع من عنده، ليتحدث به إلى الناس. وإلا فان من الصعب صدور هذا الخلط من رجل ثقة يعي ما يقول.
وقد استغل نفر من أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة،هذا الجشع الذي ظهر بين أهل الأخيار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توازنية، قدموها إليهم على أنها مذكورة في التوراة. وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث ولا مراجعة للتوراة. وما الذي يدفعهم إلى البحث والمراجعة، فإن كل ما يطمعون به ويريدونه هو الحصول على مادة يظهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار.
ولم يرد اسم "عدنان" في النصوص الجاهلية، ولا في المؤلفات "الكلاسيكية". أما في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر ينسب إلى "لَبِيد"، وفي شعر آخر ينسب إلى "عباس بن مرداس". "ولم يجاوز أبناء نزار في أنسابها وأشعارها عدنان. اقتصروا على معد، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لبيد.. وقد يروى لعباس بن مرداس بيت في عدنان". وهذا بدل على أن "عدنان" لم يكن جدا كبيرا في الجاهلية، كما صوره أهل الأخبار و الأنساب، فلو كان جداً كبيراً، لوجب عقلاّ تردد اسمه وورود شيء عنه. والغريب إننا نجد اسم "معد" مذكوراً عند "بروكوبيوس" وفي القديم من الشعر الجاهلي، مع أنه ابن "عدنان".
وقد وردت في الكتابات النبطية والثمودية أسماء قريبة من اسم "عدنان"، مثل "عبد عدنون" و "عدنون". أما الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في اليمن، فلم "يرد فيها هذا الاسم، أو اسم آخر قريب منه.
لقد كان من السهل علينا الوقوف على المنبع الذي أمدّ أهل الأخبار بأصل كلمة "قسطان". أما بالنسبة إلى "عدنان"، فإن من العسير علينا أن نتحدث عن المنبع الذي أمد أهل الأخبار باسمه. فليس في التوراة اسم يشابهه بين أسماء أبناء اسماعيل، أو غير أبناء إسماعيل، وليس فيها اسم. ملك عربي أو سيد قبيلة عربية اسمه لا يشابه اسم "عدنان". ثم إننا لا ندري كيف عثر عليه أهل الأخبار، وكيف صيروه على الوزن الذي صيغ به اسم "قحطان": هل ابتدعوه ابتداعاً، أو أخذوه من أفواه أناس أدركوا الجاهلية وكانوا قد وقفوا على اسمه بين أهل مكة أو بين القبائل التي تنسب إلى اسماعيل? و هل كان اسم قبيلة أو اسم حلف من الأحلاف، ثم صيّر اسم رجل فيما بعد. هذه أسئلة يجب أن نعترف بأن من غير الممكن الإجابة عنها في الزمن الحاضر، لعدم وجود مادة لدينا تساعدنا في استنباط أجوبة منها، لذلك نترك أمرها إلى المستقبل، فلعل الأيام المقبلة تأتي بمادة جديدة، تزح النقاب عن هذا الجهل المطبق باسم عدنان، وبفكرة عدنان.
ويظهر من روايات أهل الأخبار إن "تهامة" هي موطن العدنانيين، ومكة من تهامة. ولكن أحوالاً قاهرة أحاطت بالقبائل العدنانية فاضطرتها إلى التفرق والهجرة. وكانت "قضاعة" أول من تشتت وتفرق بسبب قتال وقع بينها وبين نزار. ثم أعقب هجرة قضاعة هجرات أخرى من العدنانيين، فانتشروا في مناطق واسعة من جزيرة العرب حتى وصلوا إلى العراق والشام. واختلطوا بالقبائل الأخرى، وتفرقوا، في كل مكان.
ويظهر من تلك الروايات أيضاً، أن القبائل العدنانية، كانت قبائل متشاحنة يحارب بعضها بعضاً، دفعها إلى تشاحنها هذا طبيعة البداوة وفقر البادية،و التقاتل عاى الكلأ والماء، حتى ضرب بها المثل في التفرق والتشتت.
ونجد اسم "نزار" على انه اسم قبيلة مذكوراً في نص "امرئ القيس" مع أنه ابن "معد"، أي حفيد عدنان، ولا نجد اسم جده في هذا النص. وهذا مما قد يبعث الظن في نفوسنا أن فكرة "عدنان" لم تظهر إلا في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام.
وأولد الأخباريون عدنان عدداً من الأولاد، أشهرهم وأعرفهم في نظرهم: معدّ، وعك. وقد زعم الأخباريون أن معداً عاش في أيام "بختنصر"، وأن معداً خلص إلى "حرّان" حينما هاجم ملك بابل، أهل "حضورا" في اليمن. أما "عدنان" والده، فلقى "بختنصر" فيمن اجتمع أليه من "حضورا" وغيرهم في "ذات عرق"، فهزمهم "بختنصر" " ومات "عدنان" في أيامه. فلما هلك "بختنصر" خرج "معدّ" من "حران" إلى مكة، فوجد أخوته وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، فرجع بهم إلى بلادهم.
ورجع "الزبيدي" أيام "معدّ" إلى أيام "موسى" إذ قال: " وكان معد بن عدنان في زمن سيدنا موسى عليه السلام، كما يعرفه من مارس علم، التواريخ والأنساب".
وقد جعل بعض أهل الأخبار أم معدّ بنتاً من بنات يشجب، قالوا إن اسمها "تيمة" وإنها "تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان". فربطوا بذلك نسب معد بنسب قحطان من جهة الأم. بلى ذهب هؤلاء إلى بعد من ذلك بأن جعلوا أم "عدنان"، بنتاً من بنات "يعرب"، وقد قالوا لها "بلهاء". فصار "يعرب بن قحطان" بهذا الزواج، خالاً لعدنان ولذريته العدنانيين.
وجعلها بعض آخر من جديس أو من طسم، وقالوا إن اسمها "مهدد بنت اللهم". يقال "اللهم بن جلحب بن جديس"، وقيل ابن طسم، وقيل ابن الطوسم، ومن ولد يقشان بن إبراهيم.
ومن بقية ولد عدنان على رأي أهل الأخبار: عدن بن عدنان، وزعم أنه صاحب عدن، وأبين بن عدنان، وهو صاحب "أبين" على بعض الآراء، وأد بن عدنان، وقد درج، والضحاك، والعيّ، وام جميعهم أم معد على بعض الروايات .
ونجد لمعد ذكراً في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر "امرئ القيس"، وفي شعر "النابغة الذبياني"، وفي شعر "زهر بن أبيُ سلمى"، وفي شعر "قيس بن الخطيم"، وفي شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي"، و في شعر "عمرو بن كلثوم التغلبي"، و في شعر " عبد المسيح بن عمرو الغساني"، وفي شعر "سلامة بن جندال السعدي"، و في شعر ينسب إلى الحاجب بن زرارة". يقولون انه قاله يردّ فيه على، "الحارث"، وفي شعر ينسب إلى الشاعر "ابن دارة"، زعموا أنه قاله في مدح "حاتم الطائي"، وفي شعر ينسب إلى"زهير بن جناب الكلبي"، وغيرهم، كما ورد اسم معد في شعر المخضرمين.
وقد استعملت في كلمة "الحي المعدي" في شعر ل "حاجب بن زراة"، كما ورد "حي في معد"، مما ينبئ إن معدا كانت مؤلفة من احياء، لا من حي واحد، و جاء في شعر عمرو بن كلثوم: " و قد علم القبائل من معد"، و يدل ذلك على إن معدا كانت مؤلفة من قبائل، و انها لم تكن قبيلة واحدة. و نلاحظ إن شعراء الجاهلية القدامى كانوا يستعملون: "قد علمت معد". و يقول علماء اللغة: إن معداً "غلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه من بني فلان. وما كان على هذه الصورة، فالتذكير فيه أغلب. و قد يكون اسماً للقبيلة". و يستنتج من هذا إن معداً لم تكن في الأصل اسم علم لرجل تنتمي إليه قبيلة معينة، و انما كانت كلمة عامة تشتمل قبائل تشترك في طراز الحياة و إن كانت تعتقد انها ترتبط بعضها ببعض برباط النسب.
و قد استعمل حسّان بن ثابت كلمة "معد" في مقابل "الأنصار"، و ذكر أن الأنصار "لها في كل يوم من معدّ قتال أو سباب أو هجاء"، وأن الأنصار نصروا رسول الله على رغم أنف معد، و أورد اسم معد في أحد الابيات مع قحطان، كما قال عن "بني أسد" إنها "تذبذب في معدّ"، فأستعمل كلمة معدّ في شعره للدلالة على خصوم الانصار، كما استعملها في مقابل قبائل معينة. و خصوم الأنصار هم قريش و المهاجرون. و لما كان الشاعر يعد نفسه من اليمن، و أهل مدينته من أصل يماني، فإن من الجائز أن نقول إنه عبر عن فكرة معد و قحطان في هذا الزمان و عن رأي أهل مدينته خاصة في النسب عند ظهور الإسلام.
و بينما يصرف حسان بن ثابت كل فنّه إلى هجاء خصوم الأنصار، أي أهل مكة و الدفاع عن أهل يثرب، و الفتحار بقومه على قوم معد و نزار، نرى انه لا يسمي من يهجوهم عدنانيين، و لم يستعمل في شعره الواصل الينا المطبوع اسم عدنان، فَلمَ أغفل حسان اسم عدنان? أليس عدنان والد معدّ? ألم يكن من الأجدر به ذكر عدنان و تقديمه على معدّ? ألم يقسم علماء النسب العربّ إلى أصلين: أصل قحطاني وأصل عدناني? ألسنا نجد في كتب الأنساب والتأريخ اسم عدنان مقسماً على معدّ، وان قبائل معدّ تعد نفسها عدنانية، كما أن قبائل قحطان تعد نفسها قحطانية? لا يعقل بالطبع أن يكون حسّان قد ترك عدنان والعدنانية ولجأ إلى استعمال "معد" لو لم تكن لفظة "معد" أشهر وأعرف وأكثر استعمالاً في أيامة من عدنان. وهذا هو ما نلاحظه أيضا في سائر الآثار التي تعود إلى الجاهلية وصدر الإسلام.
ويلاحظ إن حظ مصطلح "عدنان" و "عدنانية" و "قبائل عدنانية" قد برز في الإسلام بروزا لا نلحظه في الجاهلية بل حتى في الجاهلية الملاصقة للإسلام ولهذا غلب على مصطلح "معد" و "معدية" و "قبائل معدية"، فصار "عدنان" في مقابل "قحطان" ومن هنا صار العرب قحطانيين أو عدنانين، واختفت بالتدريج المصطلحات الانتسابية الأخرى التي شاعت في الجاهلية أو في صدر الإسلام.
ويستنتج من أقوال علماء اللغة أن لفظة "معدّ" تعني الشظف في العيش، والغلظ في المعاش والتقشف، وأنها تعني حياة بدوية شاقة بعيدة عن كل وسائل الحضر وترف أهل المدر، وهذا بالنظر لأهل المدن وأهل المدر نوع من الخشونة لا يحمد الإنسان عليه. وقد وصفت ملابسهم بالخشونة كذلك فميزت عن غيرها، جاء "عليكم باللبسة المعدّية" أي خشونة اللباس، وروي: "اخشوشنوا وتمعددوا". وبهذا المعنى ورد: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فالظاهر إن كلمة معد كانت تعتي ما تعنيه "اريبي" "عريبي" عند الآشوريين، أي البدو والأعراب. غير إنها خصصت بعد ذلك بقبائل خاصة هي القبائل التي نسبت نفسها إلى عدنان وإسماعيل، وأكثرها من مكة وحولها، ثم تغلبت عليها "العدنانية" في العصر الأموي فما بعده.
والمثل: "تسمع بالمُعَيْدي خير من أن تراه"، من الأمثال المشهورة المعروفة حتى الان. و يرتفع أهل الأخبار بزمنه إلى أيام الجاهلية، و يقولون إن النعمان بن المنذر تمثل به يوماً. ولفظة "معيدي"، تصغير "معدي"، ويراد بها رجل من معد. وفي إطلاق هذا المثل بهذا المعنى دلالة على المعاني المتقدمة. وفي رواية أن قائل هذا المثل هو "المنذر بن ماء السماء". وقد استخف النابغة الذبياني بمعد أيضاً إذ قال: ضلت حلومهم عنهم وغـرَّهُـمُ سن المعيدي في رعي وتغريب
ولا أستبعد أن يكون بين لفظة "معيدي" و "معدان" التي تطلق في العراق اليوم على للغِلاظ السود من بعض الأعراب، وبين "معد" صلة، فقد كانت مواطن "معد" في العراق أيضاً، والصفات المذكورة تنطبق على المعدان كذلك.
وقد اتهمت "معد" بالمكر والحيلة والكيد، فورد في الأخبار "وان هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة"،وورد "كنت أخبرك إن معداً لا ينام كيدها ومكرها"، وورد "إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا" مطا يدل على أن ملوك الحيرة كانوا لا يأمنون من القبائل المعدية ولا يعتمدون عليها، ولذلك كانوا يحذرونها.
كما اتهم ولد نزار بالحيل، قال "المسعودي": "ورأيتُ بلاد مأرب من أرض اليمن أناساً من عقيل محالفة لمذحج، لا فرق بين هم وبين أحلافهم، لاستقامة كلمتهم، فيهم حيل كثيرة ومنعة، وليس في اليمن كلها أحيل من نزار بن معد غير هذا الفخذ من عقيل، إلا ما ذكر من ولد أنمار بن نزار ابن معد، ودخولهم في اليمن حسب ما ورد به الخبر".
وورد في كتاب "تأريخ الحروب" ل "بروكوبيوس Procopius" المتوفى سنة "565م"، أي في زمن لا يبعد كثيرا عن ميلاد الرسول، ذكر قبيلة من قبائل "السركيوني"Sarakenoi سماها "Maddeni" "Maddenoi" ، وقال إنها كانت خاضعة لحكم Homeritae وان "يوسطنيانوس" "جستنيانس" "527 - 565م"، قيصر الروم، أرسل رسولاً إلى ملك ال Homertae لينضم إلى الروم ويوافق على تعيين شيخ اسمه "Casius" "Kaisus" على Maddeni، وتأليف جيش مشترك من "هوميريته" و "مديني" "معديني" لمهاجمة الفرس وشن الغارات على حدودهم. وقد نصب ملكاً على "مديني"، ورجع الرسول ليخبر القيصر، غير أن المللكيين لم يغزوا أرضَ الفرس.
وقصد "بروكوبيوس" ب "مديني" Maddeni "معداً" و ب "هوميريته" Homeritae "حميراً"، وعنى بذلك اليمن. وكانت معد خاضعة يومئذ لحمير، وكان هذا الزمن زمن استيلاء الحبشة على اليمن. و Caisua الذي نصب ملكاً على "معد" هو "قيس"، وكان صاحب كفايات، شجاعاً محارباً، وكان قد قتل أحد أقرباء ملك Homeritae، وكان هذا الملك هو Esimiphaeus أي "السميذع أشوع"، الذي نصبه النجاشي نائباً عنه على اليمن، فتلقب بلقب "ملك". والظاهر أن وساطة القيصر لدى "السميذع" إنما كانت لإصلاح ذات البين، ولتسوية ذلك الحادث. وقد تم على ما يظهر ونجحت الوساطة، وتلقب "قيس" وهو رئيس "معد" يلقب ملك. ولا أستبعد أن يكون "قيس" هذا أحد رؤساء القيسيين.
وقد ذكر "بروكوبيوس" أن معداً هم جماعة من "السركينوى"، أي جماعة من القبائل التي عرفت عند اليونان باسم "السرسين" أيضا، كما ذكرت ذلك في السابق. وهذا يعني أن معداً لم تكن في أيام ذلك المؤرخ الذي لم يبعد عهده عن الإسلام كثيراً، على النحو الذي يصوّره الأخباريون. وكل ما في الأمر إنها قبيلة أو مجموعة قبائل تسمى ب "معد"، وأنها كلها أو قبيلة منها كانت خاضعة لحمير، أي للسلطة الحاكمة على اليمن يومئذ، وهي الحبشة، ثم استقلت عنها.أما بقية معد، فلم يتحدث المؤرخ عنهم، لذلك لا ندري أكان "معد" "بروكوبيوس" هم جماعة أو جماعة منها.و إذا كان الشعر المنسوب إلى "أبن بقيلة"، و هو من نقباء الحيرة و ساداتها صحيحاً: تكون كلمة "معد" معروفة في ذلك العهد، على نهو يفهم منه إنها كانت تعني قبائل عديدة أعرابية تنضوي كلها تحت هذه التسمية. فقد جاء في شعره ألم وتوجع لما حل بأهل الحيرة بعد الفتح، فقد رأى سواماً تروح بالخورنق والسدير بعد ما كانا مكانين مختارين للمنذرين، وبعد فرسان النعمان، يرى الناس قلوصاً بين "مرة والحفير"، وصاروا بعد هلاك "أبي قبيس" كجُرب المعز في اليوم المطر، وقد تقاسمتهم القبائل من معد، علانية كأيسار الجزور، بعد أن كانوا أناساً لا يرام لهم حريم، وصاروا كضرة الضرع الفخور، يؤدون الخراج بعد خراج كسرى، وخراج من قريظة والنضير، ثم خلص إلى نتيجة يخلص إليها من ييأس ويقنع، فقال: كذاك الدهر دولتُه سجـالٌ فيوم من مساءة أو سرور
وقد ذكر "الطبري" إن خالداً لما أمره "أبو بكر" بفتح العراق، وقصد الأُبلّة، حشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، وربما قصد "ابن بقيلة" من "معد" هذه القبائل التي انضافت إلى خالد. ولكن القبائل التي انضافت إلى خالد في العراق أو التي حاربته هي من مضر وربيعة في الغالب، وبين سكان الحيرة قوم يرجعون أنسابهم إلى تميم وإلى قبائل معدية، فكيف يتألف "ابن بقيلة" من إدبار الدنيا ومن إعراضها عنه وعن أمثاله حتى صاروا في حكم "معد"، وقد اقتسمتهم قبائل معد. فالظاهر إنه كان يتأفف لأن الأمر أدبر منه ومن سادة أهل الحيرة والقرى، وهم حضر مستقرون، لهم نعيم وملك وقصور وبيوت وعيش رغيد. ولكن الدنيا أدبرت عنهم، وسلمت الأمر إلى قبائل من معد، وهم أعراب، وصار أمرهم إليهم، فتأفف من ذلك الزمان.
وقد عرف "حذيفة بن بدر" سيد غَظَفان ب "رب معد"، وكان من أشرف بيوتات هذه القبيلة، التي كانت محالفة ل"أسد". وقد عرفتا ب "الحليفتين" مما يدل على انهما كانتا متحالفتين. ويدل هذا النعت الذي نعت به "حذيفة"، وهو "رب معد"، على إن معدا كانت قبائل، وكل منها تنتسب إليها، وأنها لم تكن قبيلة معينة، أي إنها كانت قبائل ترى نفسها إنها من نسب واحد، وان قبيلة واحدة منها إذا برزت وظهرت جاز لها أن تمثل قبائل معد، وأن ينعت رئيسها نفسه ببعض النعوت التي تدل على ترأسه لها، ومنها "رب معد".
فيتبين من كل ما تقدم إن "معداً" كلمة أريد بها أعراب كانوا يتنقلون في البوادي، يهاجمون الحضر والأرياف بصورة خاصة، لأنها كانت أسهل صيد للأعراب بسبب بعد أهلها عن سيطرة الحكومة المركزية، وعدم وجود قوات دفاعية رادعة لتدافع عنهم. وكانوا يباغتون الناس ويفاجئونهم، وكانت حياتهم حياة قاسية صعبة. ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكن قبائل عديدة، تتشابه في المعيشة، وتشترك في فقرها وفي تعيشها على الغزو والتنقل، وقد كانت تقيم في البوادي وعلى أطراف الحضارة، كانت مواطنها بادية الشام ونجد والحجاز والعربية الشرقية. ثم صارت اللفظة علماً لرجل صير جدّاً للقبائل التي عاشت هذه المعيشة، وعرفت بهذه التسمية على الطريقة المعروفة عند العرب وعند غيرهم من الساميين من تحويل أسماء الأماكن أو الأصنام أو المحالفات إلى أسماء أجداد وآباء.
وقد كانت "تهامة" موطن أبناء معد على حسب رأي أهل الأخبار. سكنت قضاعة من ساحل البحر حيث أنشأت "جدة" فيما بعد إلى حيز الحرم، وسكن أبناء جنادة بن معد منطقة الغمر: غمر ذي كندة، وكانت كندة قد أقامت بها أيضاً فعرفت بها. وسكن أبناء قنص بن معد وسنام بن معد، وبقية ولد معد أرض مكة، حيث أقاموا مع بقايا جرهم. ظلوا على ذلك متساندين متآلفين تضمهم المجامع، وتجمعهم المواسم، حتى وقع الشر بين هم، فتفرقوا وتخاذلوا وقاتل بعضهم بعض، يقتل العزيز منهم الذليل.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق