إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 10 يناير 2016

994 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثاني والخمسون الدولة اصول التشريع وسن القوانين


994

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
 
الفصل الثاني والخمسون

الدولة

اصول التشريع وسن القوانين

لا نملك اليوم نصوصاً في أصول التشريع وقواعده عند الجاهليين. إذ لم يعثرعلى نص خاص بهذا الموضوع. غير ان في بعض النصوص اشارات عابرة، يمكن ان نستنبط منها شيئاً عن قواعد التشريع عند العرب قبل الإسلام. وفي جملة هذه النصوص بعض النصوص القتبانية، و منها النص الموسوم بGlaster 1606.

والعرب من الشعوب التي تميل إلى الأخذ بالرأي، واستشارة ذوي إلى رأي والخبرة والسن. فنجد سيد القبيلة يستشير سادات القبيلة ووجوهها في الأمور الخطيرة التي تقع لقبيلته. كما نجد المدن والقرى تستنير برأي أولي الأمر في المشكلات التي تقع لها، لحلها وفقاً لما يستقر عليم رأي ساداتها. وفي العربية الجنوبية نجد للقبائل مجالسها كذلك، حيث يجتمع اصحاب الرأي في القبيلة، للنظر فيما يقع لقبيلتهم من امرو وقضايا خطيرة يحب أخذ الرأي فيها. وكان للملوك مستشارون يتشارون في القضايا التي يعرضها الملك عليهم، بالاضافة إلى "المزاود" والمجالس الاخرى.

وقد استشار الملوك اصحاب الأرض من طبقة "طبنن" "الطبن". والمستشارون الذين عرفوا ب "فقضت" و "بتل"، كانوا يجمعونهم لأخذ رأيهم في امور الأرض وفي مسائل اخرى. كما استشاروا كبار رجال المعابد من درجة "رشو" و "شوع". وكان لرأي هؤلاء أهمية كبيرة بالنسبة للملوك، لما كان لهم من نفوذ وكامة في المجتمع.

ولم يكتف الملوك بأخذ رأي الطبقات المذكورة عند إقرار قانون، بل كانوا يرسلون آرائها ووجهة نظرها إلى مجالس القبائل وإلى سادات ووجوه المدن والقرى والمستوطنات للوقوف عليها ولبيان رأيهم فيها، وذلك في القضايا العامة التي تشمل كل الدولة، مثل تنظيم امور استثمار الارض وفرض الضرائب والقوانين التجارية، لتدرس وتعالج على ضوء مصالح كل المتنفذين من ذوي الرأي والجاه في المملكة، على قدر الامكان، وليكون في الامكان تطبيقها وتنفيذها دون كبير اعتراض. ومتى جاء رأيهم ووقف الملك على كل الاراء واحاط علماً بها، عمل برأيه فيها واتخذ قراراً باتاً بموجبها. ويعبر عن اتخاذ قراره هذا بلفظة "جزمن" أي "الجزم". جزم الملك برأيه وامضائه لاصدار ذلك القانون، ويأمر عندئذ بتدوينه، ويعبر عن ذلك بجملة "سطرن ذت يدن"، أي "وقد كتب القرار بيده"، كناية انه، امر بتدوينه ونشره، فكأن يده ذاتها قد سطرته، وقد تدون جمل اخرى في هذا المعنى، مثل "تعلمه ذت يدن" و "تعلمه يدن" أي وقعه بيده، بمعنى امضاه وختمه بختمه، وذلك على ما يفعل رؤساء الدول من التوقيع تحت نص القوانين والاوامر،لاكسابها صبغة رسمية. وتذكر بعد اسم الملك بأسماء بعض رجال الحاشية وكبار السادات واعضاء المزاود، ممن يكونون قد ساهموا في اصدار القانون، ولهم قوة تنفيذية في المملكة. على نحو ما نفعل من ذكر اسم رئيس الوزراء والوزراء المختصين ممن لهم علاقة بتنفيذ القانون بعد اسم رئيس الدولة، دلالة على موافقتهم عليها، واقرارهم لها.

وبعد الانتهاء من موافقة الملك عليه بتثبيت اسمه عليه يدون وتحفظ نسخاً منه في خزائن الحكومة للرجوع اليها، ويقرأ القانون على الناس للاطلاع عليه. ثم يكتب على احجار تثبت في جدار الساحات الكبيرة التي يجتمع فيها، لاسيما ساحات ابواب المدن والقرى التي تكون عند المداخل، وهي ساحات الاعلان ويكون القانون بذلك ملزماً واجب التنفيذ، وعلى موظفي الحكومة والرعية العمل بما جاء فيه.

وفي حالات سن القوانين التي تخص قبيلة واحدة او مكاناً معيناً، يجتمع المجلس الاستشاري "المزود" لتلك القبلية او المكان، ثم يتداول في الامر، وقد يحضره الملك بنفسه، وقد يحضره ممثل او ممثلون عنه. واذا اتخذ المجلس قراراً في امر ما، فله الحق بأصداره بأسم الملك، كما ان له الحق بأصداره بأسمه، أي بأسم المجلس الاستشاري الذي اتخذ القرار. واذا صدر بأسم الملك دلّ ذلك على انه قانون رسمي وافقت الدولة عليه، اما في حالة اغفال الاشارة الى اسم الملك في القرار، فإن ذلك يدل على انه قانون خاص خصص بالموضع الذي أصدر المجلس قراره فيه. وتطبق احكامه عليه وحده.

ومن حق المجالس، اقرار القوانين القديمة وتثبيتها، كما ان لها حق إلغائها   

او تعديلها ويصدر قرارها بقانون. ومن حقها ايضاً العفو عن المحكوم عليهم، عفواً كليا أو جزئيا. وتنظيم حقوق الارض بقوانين يصدرها عند الحاجة وحسب مقتضيات الأحوال.

ومن الصعب علينا في الوقت الحاضر تثبيت اسماء الهيئات المشرعة في العربية الجنوبية، أي الهيئات التي كان من حقها سن القوانين ووضع الانظمة. لأننا نجد في نصوص المسند اسماء مؤسسات سنت قوانين ووضعت أنظمة في جباية الضرائب وفي تنظيم معاملات ألبيع والشراء والأرض. مثل" ذو عهرو" "عهرو" في قبيلة "فيشن" "فيشان" من قبائل سبأ و "مسخنن" "مسخنان " في سبأ كذلك. ومؤسسات أخرى لا نعرف الآن من أمرها شيئاً يذكر. يظهًر أنها كانت مجالس ومؤسسات ذات طابع محلي تشمل صلاحيتها الموضع الذي تكون فيه وكان من حقها تشريع ما ترى ضرورياً بالنسبة الى تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المكان.

ويستنبط من تعدد المجالس و الجمعيات ومن الاعمال التي قامت بها، أن الحكم في العربية الجنوبي قبل الميلاد كان حكماً قريبا من الحكم "الديقراطي" الشعبي. وان سلطات الملوك كانت مقيدة ببعض القيود، فلم يكن الملك يصدر أمراً إلا بعد أخذ رأي المجالس المختصة واستشارتها وأخذ موافقتها. والمجالس المذكورة وإن كانت في الواقع مجالس كبار اصحاب الارض وأصحاب الجاه والنفوذ، ولا راي لسواد الناس فيها. وكان للملوك نفوذ عليها و دخل في قراراتها، و لا سيما الملوك الكبار اصحاب الشخصية، إلا ان وجودها على تلك الصورة وعلى هذا النحو من الحكم، هو خير بكثير من عدم وجودها ومن حكم لا يستند على أي مجلس ولا على أية أستشارة او رأي، كما كاذ الوضع عند بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكماً فرديا ًتعسفياً،لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب.

ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريباً، ثم تبدّ ل وتغير.فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبراً. ويظهر ان العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للاخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشاً كثير العدد غزوا به امارات و المخاليف،ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحدّ بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف".

ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الاقطاع بالحكم هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأعراب الملوك والأذواء وذوي الاقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدوا فوة اعترف الملوك بها، فأشاروا اليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم.

وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه اليهم، ببراعة ودهاء. فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفتح لهم المجال للغزو والسلب والنهب ومن يزيد على غيره في اعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إذ أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطرباً قلقاً. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق بال الحكومات والرعية، وجعل الناس يخشون على حياتهم ومالهم، ويعيشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هَم لها سوى مخاصمة بعضها بعضاً والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب.

وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وفي محاربة الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الاقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم.وهذا مما جسر الحبش، على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كَثيراً، وقضت على ما كَان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو ان الحكم هو للملوك أو للاحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى الحكم الاجنبي في العربية الجنوبية.

ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكها لطبيعة اًرضها ولتركز الاقطاع فيها، وهو نظام لازم تأريخها من قبل ظهور الحم المركَزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التأريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في أليمن على مدن رئيسية معينة: كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال ايام الفرس أيضاً. بل استطيع ان أقول إن حكم الفرس كان حكماً شكَليا، مقتصراً على بعض المواضيع، أما الحكم الواقعي فكان للاقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه المواد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في ايام حكم الفرس لليمن، وكان منهمُ من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارس عليه.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق