993
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
حكم الملوك
و تتلخص نظرة الجاهلية بالنسبة إلى حكم الملوك فيما يأتي: الملك مالك والتابع مملوك، واجبه تقديم حقوق الملك للملوك وحق الملك الطاعة وفي ضمن الطاعة: ألإخلاص له، والعمل بما يفرضه على التابع من حقوق وواجبات. وليس للرعية الإمتناع عن دفع ما في عنقها من حقوق لملوكها أو ساداتها: سادات القبائل.
وليس لأحد حق مطالبة ملكه بدفع مال له، لا بصورة ثابتة معينة مقررة، ولا بصور أخرى. إنما الملوك والسادات احرار، لهم ان يعطوا ولهم ان يمسكوا، وما يدخل خزانتهم وما يأتيهم من ربح من تجارة أو مغنم من حروب أو من عشور ومكوس وضرائب اخرى، هو من حقهم وهو من ملكهم الخاص بهم.
وكل ما يعود للحكومة، هو لهم. لنفهم هم الحكومة، والحكومة الرؤساء.
وفي الحديث: " ومأكول حمير من آكلها ؛ المأكول: الرعية، الآكلون الملوك جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، اراد ان عوام اهل اليمن خير من ملوكهم".
و "الآكال: مآكل الملوك. وآكال الملوك: مأكلهم وطعمهم: والأكل: ما يجعله الملوك مأكلة". والمأكولون إذن هم الرعية، يأكلهم ملوكهم، مما يأخذونه منهم من حقوق وبما يفرضونه عليهم من واجبات، والآكلون هم الملوك، لأنهم يأكلون ولا يعطون.
والحاكم ملك كان أو سيد قبيلة، هو حاصل المحيط الذي نشأ فيه والبيئة التي عاش بين اهلها، لذلك نراه مستبداً إلى اخر حدّ من جهة، ونراه عطوفاً غافراً للذنوب من جهة اخرى. وهو القانون والسلطة التنفيذية والتشريعية ولا رادّ لحكمه وقضائه، إلا التوسلات والوساطات وشفاعة الشفاع، فإن تأثر بالشفاعة غيررأيه وإن اصر على رأيه فلا راد لحكمه. وحكم هذا شأنه يكون خاضعاً لمزاج الحاكم ولدرجة هدوء أعصابه واتزانه، فإن كان الملك عاطفياً منفعلاً سريع التاثر، صار عهده عهد مشاكل ومؤامرات يكون قبل الأشخاص فيه من الأمور البسيطة. وما يومي البؤس والنعيم، إلا مثل على عقلية الحكم في ذلك الوقت. وفي حكم كهذا تكثر فيه بالطبع الوشايات والمؤامرات، إذ يستغله الحساد وأصحاب الذكاء في الايقاع بخصومهم، كالذي فعلوه من الايقاع بين النعمان والشاعر النابغة صديقه والمقرب اليه، وكالذي فعلوه من الإيقاع بين "عمرو بن هند" وهو ملك متهور قلق، وبين سادات القبائل مما سبب إلى غزوهم والى استهتار بعض القبائل بحكمه وخروجه على طاعته.
وقتل الأشخاص من أبسط الأمور بالنسبة إلى أولئك الحكام، فإذا أزعجهم شخص أو هجاهم شاعر أو انتقصهم احد،فقد يكون القتل جزاءً له في الغالب.
وإذا كان امر الملك يقتل إنسان، قتل، ما لم يشفع له شفيع قويّ مؤثر. وإذا كان امر الملك يقتل الشخص في الحال، قتل دون تأخر. ولا رادّ لحكمه، فهو الحاكم وهو المنفذ للاحكام. ولا اعتبار لمنزلة الشخص الذي سيقتل، والشيء الذي يؤجل الموت أو يبعده عن شخص ما، هو هروبه إلى رجل منافس لهذا الحاكم كاره له، أو له دالة عليه، فينقذ لجوؤه إلى ذلك الشخص رقبته من سيف الجلاد.
وللملك إحراق من يشاء إذا أراد، والتمثيل بجسم عدوّه. وقد رأينا جملة ملوك من ملوك "آل لخم" و "آل غسان" وقد عرفوا "بمحرق" لأنهم حرقوا أعداءهم بالنار. لم يحرقوا بيوتاً، بل بشراً، وقد رأينا بعض الروايات،وهي تنسب إلى "المنذر بن ماء السماء" قتل راهبات وقعن في الأسر من غسان ليكنّ قرابين قربهن إلى العزى. ورأينا امر "عمرو بن هند" بذبج تسعة وتسعين رجلاً من تميم على قمة "أوارة"، لأنه حلف يمنيا لينتقمن منهم بقتل مائة رجل منهم، واحراقهم بالنار. فقيل له المحرق. وضرب بفعله المثل في قصة يروونها عن هذا المثل: إن الشقي وافد البراجم.
وقد اشتهر "الجلندي" ملك "عمان" بظلمه، حنى ضرب به المثل. فقيل "أظلم من الجلنديّ" و "ظلم الجلنديّ". وقيل انه هو الذي ذكره الله في كتابه، فقال: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً ".
ويذكر أهل الأخبار ان الملوك إذا ارادت قتل شخص، لبست جلود النمر وجلست تتفرج على من يراد قتله. ويعبر عن ذلك بالتنمر.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق