إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 10 يناير 2016

995 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثاني والخمسون الدولة حكومات مدن


995

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
 
الفصل الثاني والخمسون

الدولة

حكومات مدن

استعلمت لفظة "حكومة" بالمعنى المجازى، فلم يكن للمدن حكومات بالمعنى المفهوم من الحكومة في الزمن الحاضر، أي رئيس مفروض على المدينة بحكم الوراثة أو بحكم القوة، أو رئيس منتخب ينتخبه أبناء المدينة أو ساداتها وأشرافها لأجل معلوم أو لأجل غير معلوم.

ولم يكن لهذه المدن موظفون نيطت بهم أعمال معينة و واجبات محددة عليهم القيام بها، في مقابل أجور تدفع لهم. ولم يكن فيها مؤسسات ثابتة مثل المحاكم والشرطة لضبط الأمن والضرب على أيدي من يخلون بالأمن ويخرجون على أوامر المجتمع وقوانينه ولم يكن فها ما يشبه أعمال الحكومة المعروفة عندنا، لأن مجتمع ذلك العهد يختلف عن مجتمعنا الحديث.

فمكة مثلاً، وقد كانت من أبرز مدن الحجاز في القرن السادس للميلاد، لم تكن ذات حكومة. لم يكن يحكمها ملك ولم يحكمها رئيس، وكذلك كان أمر "يثرب" و "الطائف" وسائر قرى العربية الغربية. لم يكن فها أي شيء من هذه المؤسسات الثابتة التي تكون الحكومة، والتي تتعاون لتدبير أمور الناس.

وكل ما كان في مكة، أسر، يعبر عنها ب" آل" و"بني"، فيقال: "ال عبد المطلب" و"آل عبد شمس" و"آل هاشم"،و"بنو عبد المطلب" و "بنو عبد شمس" و "بنو هاشم" " وهكذا، تستوطن شعابا خصصت بها.

وكل "شعِب" لمجتمع قائم بنفسه، له سادته وأشرافه، وهم وجوه الشعب، وأصحاب الحل والعقد في هذا المجتمع.

ويقوم وجوه الشعب بفض ما يحدث بين أبناء الشِعْب من خلاف، وبالنظر في أمر المخالفين لأعرَاف الشعب وعاداته، وأحكامهم غير إلزامية ولا تسندها قوة تنفيذية، بل تنفذ حكم الَأعراف والأصول المرعية:وحكم وجاهة هؤلاء الرؤساء و مكانتهم عند الشعب.

أما إذا حدث حادث تجاوز مداه حدود "الشِعب"، فشمل شِعباَ آخر أو عدة "شعاب"، فيكون أمر النظر فيه لسادات "الشعاب" التي يعنيها الأمر، فيجتمعون عندئذ للنظر في الامر وللبت فيه بحكمة وبأناة قدر المكان، مراعاة للجوار، واقرارا للسلم. وإذا أخفق المجتمعون في اتخاذ قرار، توسط بينهم وسطاء محايدون لفض ذلك النزاع بالتي هي أحسن.

وقد ينشب خلاف بين الأحياء على أمور تمس المصالح الكبيرة الخاصة يالأسر، فتفعل هذه الأحياء عندئذ ما لم تفعله القبائل، تلجأ الى حلفائها، أو نجدد أحلافها، أو تعقد حلفاً جديداً لتدافع به عن مصالحها،كالذي كان من أمر "حلف المطيبين" وما كان من اًمر "الاحلاف"، أو من "حلف الفضول".

أما ما يعلق بأمر المدينة كلها، كأمر مكة مثلاً، من امور تتعلق بأحوال السلم أو الحرب. فيترك النظر في ذلك الى "الملا" "ملاء مكة" مثلاً. وهم وجوه مكة وسادتها من كل الاسر، فيجتمعون في "دار الندوة" او في دور الرؤساء للنظر القضايا والبت فيها، فيبين الرؤساء اراهم ويتناقشون فيها، فأذا اتفقوا على شيئ الزموا انفسهم تنفيذه، وان لم يتفقوا على شيئ وكان النزاع بين المجتمعين حاداً حاول كل فريق تأليف جبهة قوية لمقابلة الجبهة المعارضة، ولمنعها من الاعتداء عليها، وقد يعمد المتخاصمون الى مقاطعة بعضهم بعضاً، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، كالذي حدث من مقاطعة اغلب قريش لال هاشم وال المطلب، بسبب تمسك ابي طالب بابن اخيه الرسول ودفاعه عنه، فما كان من بقية قريش الا ان قررت مقاطعة "ابي طالب" ومن آزروه وانضم اليه.

ونجد في مكة نوعاً من التخصص في الامور. والظاهر ان ذلك انما كان عن استئثار بعض الرجال البارزين بعمل من الاعمال، ثم انتقل ذلك منه الى ورثتهم بالارث او بالاتفاق او بالنص، ثم صار سنة اتفق عليها، كالذي ورد من امر "الرفادة" وهي ما كانت تخرجه قريش من اموالها وترفد به منقطع الحاج. وقد عرفت الرفادة انها شيئ كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل انسان مالاً بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالاً عظيماً ايام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي ايام موسم الحج. وكانت الرفادة لبني هاشم. وذكر ان اول من قام بالرفادة "هاشم بن عبد مناف" وسمي هاشماً لهشمه الثريد.

وكالذي ورد في امر "السقاية"، سقاية الحاج، وقد عرفت انها مأثرة من مآثر قريش في الجاهلية. وهي ما كانت قريش تسقية الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها "العباس بن عبد المطلب" في الجاهلية والإسلام.

وكالذي جاء أمر "السدانة" مع "الحجابة". والسادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام. وكانت السدانة في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرها النبيّ لهم في الإسلام. السدنة هم الذين يتولون فتح باب الكعبة واغلاقها وخدمتها.

وأما "الحجاب" فهم سدنة البيت أيضاً. وذكر ان الفرق بين السادن والحاجب ان الحاجب يحجب وأذنه لغيره، والسادن يحجب واذنه لنفسه والحجبة هم حجبة البيت. ورد في آلحديث: " قالت بنو قصيّ فينا الحجابة، يعنون حجابة الكعبة " وهي سدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفاتيحها". وكالذي ذكر من أمر "الندوة"، والندوة التجِمع والجماعة. و "دار الندوة": دار الجماعه، سميت من النادي. وكانوا إذا حز بهم أمر، ندوا اليها فأجتمعوا للتشاور.

وكالذي روي من أمر "المشورة". وذلك أن رؤساء قريش كانوا إذا أرادوا أمراً استشاروا ذوي الرأي والعقل والحنكة، ومن هؤلاء "يزيد بن زمعة بن ألأسود"، وهو من "بني أسد". فكانوا اذا ارادوا أمراً ذهبوا اليه، وعرضوه عليه. فإن وافقه والاهم عليه وإلا تخير. وكانوا له أعوانآَ. وقد أسلم،واستشهد بالطائفْ.

ومن الاعمال التي كانت في مكة "الاشناق". وهي الديات والمغرم. وكانت لأبي بكر، وهو من "بني تيم" فكان إذا احتمل، شيئا ًفسأل فيه قريشاً صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه. وإن احتملها غيره خذلوه. ويدل حذا على أن تقدير الأشناق لم يكن ثابتاً، بل كان يعود الى تقدير صاحب الأشناق. كمايدل أن غيره قد قام به.

ومن أعمال مكة "السفارة" وذلك أن أهل مكة كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيراً، وإن نافرهم حيّ لمفاخرة جعوا ا لهم منافراً لينافرهم.

وكانت السفارة والمنافرة في "بني عدي" عند ظهور الإسلام. وكان الذي يتولاها إذ ذاك "عمر بن الخطاب". وذكر أهل الأخبار أن "بني سهم" "الحارث بن قيس" " وكانت ا اليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم،والتي كانوا يخصصونها من مغانمهم في السلم وفي الحرب.

ومن أعمالهم "الأيسار"، وهي "الأزلام" " وقد ذكر أهل الأخبار أنها كانت في "بني جمح"، ويتولاها منهم "صفوان بن أمية". فكَان لايُسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي تسييره على يديه.

ومن الاعمال الأخرى التي ذكرها أهل الأخبار "العمارة". وكان الذي يتولاهاعند ظهور الإسلام "العباس". وكان ينهى الناس من أن يتكلم احدهم في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا أن يرفع صوته.

وأشار أهل الأخبار الى ما يسمى ب "حُلوْان النفر" وقالوا إن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحداً، فإن كانت حرب اقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيراً كان أو كبيراً. فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن.

وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم. واهتم أهل مكة بأمر الحروب والدفاع عن مدينتهم. ويقتضي ذلك وجود أناس لهم خبرة وتجربة في الحرب، ولهم رأي في أحوالها وأصولها وحيلها وخدعها.

فالحرب خدعة، ولا بد للقائد من اللجوء إلى الخدع والحيل الحربية للتغلب على خصمه. ونطراً لضرورة التهيؤ للحرب في أيام السلم، أوجد أهل مكة بعض الأعمال وعهدوا إلى أصحابها القيام بها. منها القبة والأعنة وخزن الأسلهحة وحمل اللواء والقيادة.

أما "القبة" فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون اليها ما يجهزون به قريشاً. وأما "الأعنة"، فيكون صاحبها على خيل قريش في الحرب. وكانتا إلى "خالد بن إلوليد" وهو من "بني مخزوم" عند ظهور الإسلام.

وذكر ان قريشاً كانوا يحفطون الأسلحة عند "عبدالله بن جدعان"، فإذا احتاجوا إلى السلاح وزعه فيهم. فبيتهه مخزن قريش للاسلحة. ويذكر ان القبائل كانت إذا حنضرت المواسم أودعت سلاحها "عبدأللّه بن جدعان"، فإذا انتهى الموسم وقررت العودة استعودته منه، وذلك لأمانته ولشرفه ولوثوق الناس به.

ومن الأعمال التي لها علاقة بالحرب: "اللواء". وذكر ان "عثمان بن طلحة" وهو من "بني عبد الدار" كان اليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال: والندوة أيضفاً. و كانت هذه في "بني عبد الدار". وورد في خبر آخر ان راية "العقاب" وهي راية قريش، كانت عند "أبي سفيان" وهو من "بني أمية". و "العقاب" راية للنبي، كَما ورد في الحديث. وذكر ان إلعقأب علم ضخم " يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر.

والقيادة: قيادة جيش مكة. وقد كانت إلى بني أمية في الغالبْ. ولكن العادة ان يتولى سادات مكهً قيادة أحيائهم في القتال. فيقود سيد كل شعب أبناء شعبه ويوجههم حيث يرى في المعركة. أما التنسيقَ بين خطط المقاتلين لانجاح المعَركة فيكون أمره الى من تسلمه قريش قيادتها العامة في الحرب من الرجال المحاربين أصحاب الرأي في الحروب. وكان "حرب بن أمية"قائد قريش في الفجار وفي ذات نكيف.

ويجب ان نضيف الى ما تقدم قيادة قوافل قريش، وقد كان أمر"عير قريش" إلى "أبي سفيان" ضد ظهور الإسلام. و "عير قريش" قافلتها. وقد كانت رئاسة القوافل من الأعمال الهامة في ايام الجاهلية. وعندما تعود القافلة سالمة غانمة يستقبل قائدها استقبال الأبطال. وقد أشير في الكتابات اللحيانية والتّدمرية إلى "رئيس القافلة"،على انه من الشخصيات المهمة ا البارزة في تدمر وعند اللحيانيين.

وكذلك كان أمر قائد قافلة قريش ولا شلك. وورد في الكتابات النبطية لقب آخرغير لقب: "زعيم القافلة" هو "زعيم السوق"، سأتحدث عنه فيما بعد. وذكر ان من أعمال قريش في الجاهلية، عمل يقال له "العمارة". و كَان إلى "العباس بن عبد المطلب"، بالاضافة إلى السقإية. وقد خرجت عليه القرعة يوم الفجار، فنصب رئيساً على "بني هاشم". وكان من عادة قريش والعرب - كما يزعم أهل الأخبار - انهم لم يكونوا يملّكون أحداً عليهم. فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه ألقرعة أحضروه، صغيراً كان أو كبيراً. فلما خرجت القرعة على العباس،وهو صغير،جاءوا به،فأجلسوه على المجن.

و "العمارة" عمارة البيت. وقد عدّت من مفاخر قريش. و قد أشير اليها في القّرآن: )أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله واليوم الآخر(. وقد ورد ان ممن تولاها "العباس بن عبد المطلب " و "شيبهْ بن عثمان ". وذكر ان "المشرَكين قالوا: عمارة البيت وقيام على السقاية خيرٌ ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل إنهم أهله، وعمّاره. فذكر اللّه استكبارهم واعراضَهم".

أما بخصوص نظام الحكم في يثرب، فإنه لا يختلف عن طريقة نظام الحكم في مكة، فلم يكن لأهل يثرب عند ظهور الإسلام رئيس وقد حاول بعض ساداتها من الأوس والخزرج تنصيب أنفسهم ملوكاً على المدينة، غير أنهم لم يفلحوا في مسعاهم فلم ينصبوا ملوكاً عليها. والظاهر أن للمنافسة الشديدة العنيفة التي كانت بين الأوس والخزرج على الزعامة والرئاسة يداً في عدم تمكين أي أحد من سادة أ يثرب من الانفراد بزعامة المدينة وبالسيادة عليها. وقد يكون لوجود اليهود بيثرب يد في تعميق الخلاف بين "أولاد قيلة"، إذ لم يكن من مصلحتهم اتفأقهم واجماعهم على اختيار رئيس واحد قوي. فالرئيس القوي سيبسط نفوذه همن غير شك على يهود يثرب أيضاً، ويستذلهم ويجعلهم أتباعاً له. أما في حالة تشتت كلمتهم وتشاحنهم فستكون لليهود إمكانية إثارة فريق على فريق، والاستفادة من سياسة فرق تسد". وبذلك يكون أمرهم ونهيهم في أيديهم بدلاّ من أن يكون في أيدي "صاحب يثرب".

وقد حاول أهل يثرب من الأوس والخزرج حل " مشكلة الحكم في مدينتهم حلاً وسطاً، على قاعدة:أن من الأوس أمير ومن الخزرج. أمير. يحكمان حكما مشتركاً، أو على التوالي، كأن يحكم سيد الأوس سنة، تم يترك الحكم لسيد الخزرج يحكم السنة التالية " ثم يعود فينسحب ليتولى الحكم سيد الأوس وهكذا، غير أن الحل لم ينجح ايضأَ، وبقيت المشكلة: "مشكلة الحكم" مستعصية غير محلولة حتى دخل ألرسول يثرب، فحلّها حلاً أزعج بعض من كان طامعاً في الحكم وكان يرغب ان يكون سيد يثرب.

هذا ولم نعثر في الأخبار الواردة الينا من يثرب، على خبر يفيد وجود "ناد" في هذه المدينة على شاكلة "دار الندوة" أو نوادي الملا. والظاهر أنه قد كان للنفرة الشديدة الني كانت بين الحيين: الأوس والخزرج يد في عدم ظهور مجلس حكم موحد في هذه المدينة. فبغض كل حيّ للحيّ جعل الاتفاق فيما بينهما على تكوين مجلس واحد من "ملا" المدينة أمراً صعباَ، على حين كان ذلك ممكناًً بالنسبة لأهل مكة، لأنهم كانوا كتلة واحدة، ومصلحتهم في حكم مشترك هي مصلحة عامة. ولم تكن المنافسات عندهم بين الأسر شديدة حادة، لذلك كان من الممكن اجتماع سادات الأسر في مجلس واحد، لا سيما وهم تجار، ومن مصلحة إلتاجر تْمشية الأمور وتصريفها بالطرق السلمية، وحلها بغير تعنت ولا تشدد وغطرسة.

وكان أمر "الطائف" في أيدي "ملا المدينة". يديرون شؤونها في أيام السلم والحرب، ولم يرد في الأخبار أن أهل الطائف توجوا رجلاً عليهم، فجعلوه ملكاً، ولم يرد فيها أيضاً انهم رأسوا رئيساً عليهم، بل كانت الرئاسة في عدد من الرؤساء، هم سادات البطون والأحياء. ولكَل رئيس كلمته في حيّه الذي يقيم فيه.



 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق