977
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
الملك
وأما "الملك"، فهو الرئيس الأكبر والإنسان الأعلى في مجتمعه. ولفظة "ملك" من الألفاظ العربية القديمة التي ترد في جميع اللهجات العربية، وهي أيضاً من الألفاظ التي ترد في أغلب اللغات السامية. وقد تلقب بها ملوك العربية الجنوبية، وتلقب بها ملوك الحيرة وملوك آل غسان وملوك كندة، بل طمع في هذا اللقب أمراء وسادات قبائل،اعجبهم فلقبوا أنفسهم به.
ولا يعني هذا.ان حكم الملك كان دائما" "حكما شاملا واسعاً بالمعنى المفهوم من هذا اللقب،فقد كان سلطان الملك في بعض الأحيان لا يتجاوز سلطان سيد قبيلة، أو سلطان صاحب قرية أو أرض. وعلى ذلك نجد في العربية الجنوبية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب عشرات من أمثال هؤلاء الملوك يحكمون قبائلهم أو أرضهم بهذه النعوت والصفات المغرية المحببة الى النفوس والقلوب، ذلك لأنهم أحبوا هذا اللقب، فلقبوا أنفسهم به، وصاروا ملوكاً، وهم في الواقع سادة قبائل أو أرض صغيرة. ونجد في كتب السير والتواريخ اسماء جملة "ملوك" عاشوا قبل الإسلام وعند ظهوره، لم يكونوا في الواقع سوى سادات "شيوخ" قبائل أو قرى، ولم يكن لهم على من حولهم نفوذ أو سلطان.
ومعنى "ملك"، الرأي والمشورة والنصيحة. و "ملَك"، بمعنى قدّ م رأياً أو نصيحة أو مشورة، وذلك في بعض اللغات السامية. وتعني كلمة "شارو" "شرو"، "الملك" في الأشورية، وهي في معنى "الحكيم" في الأصل، أي في المعنى المقدم. وتعني كلمة "مليخ" "ملخ"، أي "ملك" في العبرانية،الحّكيم الذي يقدم رأيا وحكما ومشورة، فهي في معنىCounseller , Adviser الانكليزية إذ كان الملوك بمنزلة الحكماء القضاة فيَ شعوبهم، ثم تخصصت بالحاكم الذي يحكم شعبه على النحو المفهوم من اللفظة عندنا.
وقد وردت لفظة "ملك" في نصوص المسند. وردت على هذه الصورة: "ملكن"، أي "الملك"، و "ملكم"، أي "ملكٌ". ووردت على هذه الصورة: "ملك" في النصوص الثمودية واللحيانية والصصوية. و"ملكو" في النصوص النبطية. أما في النصوص ألعربية الشمالية، فإن أقدم نص وردت فيه هذه اللفضة، هو نص "أم الجمال"،الذي يعود عهده إلى سنة "250" أو "275" بعد الميلاد. وهو شاهد قبر رجل اسمه "نهر بن سلى مربّ جذيمة ملك تنوخ" ونص " النمارة " الذى هو شاهد قبر الملك "امرء القيس"،وقد دون سنة"328" للميلاد.
ولا نعرف في الزمن الحاضر مكانة درجة من يحمل لقب "اخ ملكا" أي "أخي الملك" الوارد في النصوص النبطية. فلسنا ندري أكانت تعني "وصاية" أو "وزارة" أو مقرباً من الملك، ام تعني ان حامله من الأسرة المالكة.
ونطلق لفظة "تبع"، والجمع "التبابعة"، على ملوك حمير، بل تطلقها الموارد الإسلامية في بعض الأحيان على كل ملوك اليمن. فهي في معنى "ملك".
ولا يطلقونها على غيرهم، أي على الملوك الآخرين من ملوك العرب. فهي إذن اصطلاح خاص بأولئك الملوك. كما اصطلحوا على تسمية كل من ملك الحبشة "النجاشي"، وكل من ملك الروم "قيصر"، وكل من ملك الفرس "كسرى". وقد ذكر علماء اللغة في تفسيرها: "وتبع كانوا رؤساء، سمّوا بذلك لاتباع بعضهم بعضاً في الرئاسة والسياسة. وقيل تبع ملك يتبعه قومه والجمع التبابعة". وورد في القرآن الكريم: "وقوم تبع" في جملة الأقوام التي كذبت فحق عليها وعيد.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن العرب لم تكن تسمي أحداَ تبعاً حتى يملك
اليمن والشحر وحضرموت، وقيل: حتى يتبعه بنو جشمَْ بن عبد شمس". فإن لم يكن كذلك سمي ملكاً، وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر"وهو الرائش. ولم يز ل هذا اللقب ملازماً لملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبش اليمن.
وذكر أن العرب كانت تسمي الملك "الحصير" ئ لك. لأنه محجوب عن الناس، أو لكونه حاصراً، أي مانعاً لمن أراد الوصول اليه. قال لبيد.
وقماقم غلب الرقاب كأنهم جنّ على باب الحصير قيام
والمراد به النعمان بن المنذر. وروي لدى طرف الحصير قيام. أي عند طرف بساط النعمانْ.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "حمير" تسمي الحاكم "الفتاح" بلغتها.
والعادة ان الملكية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ويتولاها الابن الأكبر في الغالب. فإذا حكم هذا وتوفي، انتقلت إلى ابنه الأكبر، وهكذا. وبذلك يحرم إخوته الآخرون، إلا إذا نص الأب الملك على خلاف ذلك، كأن يذكر اسم الذي سيخلفه،أو يعين جملة أبناء أو أشخاص يحكمون من بعده على التوالي، فإذا توفي الابن الأكبر مثلا، انتقل الحكم إلى اخيه الذي يليه، وهكذا إلى نهاية الوصية. وقد يوصي المتوفى لأخيه من بعده، أو لإخوته، بدلاً من ابنه أو اولاده، فنظام الحكم اذن نظام وراثي في العادة، ينتقل طبيعة إلى الابن الأكبر للحاكم المتوفى، إلا إذا حدث خلاف ذلك، لوصية يوصيها المتوفى ولرأي يراه، أو لأحوال قاهرة كأن يكون الشخص المتوفى عقيماً لا عقب له، فقي مثل هذه الحالة ينتقل الحكم إلى أقرب الناس اليه، بحسب وراثة الدم، أو بحسب رأي الأسرة التي ينتمي اليها المتوفى.فيكون عندئذ لها وللمدنين والوجهاء الرأي والاختيار.
والعادة ان الحكم يكون في الأسر الكبيرة الرفيعة، ينتقل إما من أب إلى ابن على حسب العمر، وإما إلى أخٍ أو غيره من افراد الأسرة. وقد ينشب خصام بين افراد هذه الأسرة في موضوع تولي العرش، ولا سيما في العهود القديمة، حيث لم يكن العرف قد استقر على ضرورة انتقال الحكم من الأب إلى ابنه الأكبر. فتنقسم الأسرة، وقد يطول انقسامها، عند تكافؤ المتخاصمين واستعانة كل فريق على الاخر بمؤيدين اقوياء، فيدعي حق الحكم له، ويلقب زعيمه بلقب "ملك". وتفتح هذه الخصومات الأبواب لزعماء الأسر الكبيرة الأخرى،لمنافسة الأسر الحاكمة على الحكم، فتدعيه ايضاً لنفسها وقد تنجح مدة وقد تنجح في انتزاعه من الأسر الحاكمة وابتزازه لنفسها.
وقد يقارع تلك الأسر شخصِّ من سواد الناس من المغمورين، وينتزع الحكم من أصحابه، وذلك يفضل كفاية فيه، وقوة شخصية دفعته للتزعم وللطموح. وفي تأريخ الحكم في ألعربية الجنوبية أمثلة عديدة على ذلك. وقد يصر هذا الشخص مؤسس أسرة حاكمة جديدة، إذ ينتقل الحكم منه الى أبنائه أو اعضاء أسرته بعد وفاته، وقد يقتصر الحكم عليه، فإذا توزع وقتل أو مات، قتل حكمه بقتله، ومات اغتصابه له بموته.
وقد أرتنا بعض كتابات المسند أن العرب الجنوبيين، لم يجدوا غضاضة في تلقب أب وابنه أو اب وأبنائه أو أخ وإخوته بلقب "ملك" في وقت واحد، فقد انتهت الينا كتابات عديدة، وفيها أب يحمل لقب ملك، ومعه أبناؤه يحملون هذا اللقب كذلك، كما انتهت الينا كتابات يحمل فيها أخ وإخوته لقب "ملك". وقد يدلّ ذلك على اشتراك المذكورين في الكتابة اشتراكاً فعلياً في الحكم، غير ان ذلك لا يعني الحتمية، فقد يجوز أن يكون "الملك" برد لقب يمنح لذلك الشخص أو لأولئك الأشخاص ليشير إلى صلة الشخص أو الأشخاص به، أو إلى منزلته ومنزلتهم بين الناس.
وقد يكون ذلك.للتخفيف عن أعمال الملك بسبب من كثرة عمله أو من عدم تمشه من القيام بأعمال الملك كلها لضعف شخصيته وقابلياته، أو لمرض ألم به، أو لأن الملك أراد بذكرهم معه تدريبهم على أعمال الحكم، حتى يكونوا قد خبروا أمور الملك إذا انتقل الحكم اليهم، مع بقاء الملك الأصل في عرشه ومكانه، يمارس أعماله على نحو ما يريد.
ولم يصل الينا نص ما من العربية الجنوبية يشير إلى وجود امم ملكة على عرش إحدى الحكومات التي تكونت هناك. اما خارج العربية الجنوبية، وخارج جزيرة العرب، فقد وردت في الكتابات الآشورية وفي كتابات غيرها أسماء ملكات عربيات، وكل ذلك دليل على ان العرب الشماليين لم يجدوا ما يمنعهم من تعيين ملكات عليهم، وان ملكات ولينَ حكومات.
وقد كان ذلك قبل الإسلام بزمن طويل. أما في الأيام القريبة من الإسلام، فلم نعثر على اسم ملكه حكمت فيها، لا في الكتابات ولا في القصص الذي يرويه الاخباريون عن تلك الأيام.
ولا نعرف في جزيرة العرب نظاماً انتخابياً عاماً ينتخب الشعب فيه ملكه على النحو الذي نفهمه في الزمن الحاضر، أو على النحو الذي كان معروفاً عند الرومان أو اليونان في زمن من الأزمان، انتخاباً لأمد محدود معين بسنين أو لأمد طويل يحد حياة الإنسان، فلم يرد نصٌ ما فيه لشيء من ذلك، ولم يرد في قصص الأخبارين ما يشير إلى وجود مثل هذا الانتخاب.
ولا نعرف أيضاً ان المزاود وهي المجالس أو طبقة قادة الجيش أو سادة المدن والقبائل كان لها رأي في تعيين الملوك، أو إقرارهم على نحو ما كان يجري في الدولة البيزنطية. ولا نعرف كذلك اكَان لأحد حق اقالة الملوك وتنحيتهم عن عرشهم إذا تبين انه غير صالح لتولي الحكم لسبب من الأسباب، فإننا لم نتعرف حتى الآن على نصوص تتحدث عن مثل هذه الأمور. وأما قيام شخص من الأسرة المالكة أو من غيرها بمنافسة الملك أو بالثورة عليه وانتزاع الملك مكنه، فإن ذلك شيء آخر، يعود إلى أستعمال القوة والخروج عن الظاعة، وهما بالطبع من الأمور المخالفة في كل عهد وزمان.
لقد تحدث "الهمداني" عن طريقة من طرق تعيين المللك عند "حمير"،فقال: "وبأسفل المعافر قصرُ ذي شمر، ويدخلون في قيالة حمير، وكانت أقوالها تكون في كل عصر ثمانين قيلاً من وجوه حمير وكهلان، فإذا حدث بالملك حدث، كانوا الذين يقيمون القائم من بعده ويعقدون له العهد. وكان قيام الملك من قدماء حمير عن إجماع رأي كهلان، وفي الحديث عن رأي اقوال حمير فقط، وكانوا إذا لم يرتضوا بخلف الملك، تراضوا لخيرّهم، وأدخلوا مكانه رجلاً ممن يلحق بدرجة الأقوال، فيتم الثمانين قيلاً، ولم يكن هذا في حمير إلا مرات يسيرة لأن الملك لم ييكن يعدو الرائش، إلا ان يُتوفى الملك واولاده صغار، أو يكل، فيفعل ذلك حتى يتدبر في سواه من ال الرإئش.
وما ذكرته عن حكاية "الهَمْداني" عن كيفية تعيين الملوك في حمير، يؤيد كون الملكية في اليمن ملكية وراثية تنتقل في الأصل بالإرث من الأب الى الابن، إلا في الحالات الطارئة، مثل موت ملك فجأة وأولاده صغار، أو موته وهو عقيم لا خلف له، ولم يوص لأحد بالحكم من بعده، فيكون الرأي لسادات المملكة الذين جعل "الهمداني" عدة مجلسهم ثمانين قيلاً، فيختارون للملك من يرون أنه أكفأ الناس للملك، وينصبونه ملكاً. وقد رأينا انه نص في حديثه هذا على أن ما ذكره يتناول حالات خاصة، وقد وقع في مرات يسيرة، لأن الملك لم يكن يعدو الإرث المعهود عنهم الذي ينتقل في الأسرهّ المالكة.
ولعلّ هذه الظروف الطارئة هي التي حملت الملك على تنصيب ابن له أو ابنين أو أخ له ملكاً معه يلقب بلقب الحكم في أثناء حياته، ويذكر ويذكرون بعده في الكتابات. وغايته من هذا النص هو أن الشخص المذكور اسمه بعد اسم الملك، هو الذي يرث الملك بعد وفاة الملك لسبب من الأسباب، فلا يقع حينئذ خلاف ما في تعيين الشخص الذي سيلي الملك. ولعل ذلك كان يحدث عند مرض الملك أو عند تقدمه في السنّ وشعوره بالعجز والكلال، أو لكونه محارباً فهو يخشى أن يقتل في المعارك، وما أشبه هذا، فكان يحتاط لذلك بالنص على اسم من يليه وتعيينه معه ليعينه في تحمل أعباء الحكم، حتى إذا حدث له حادث يكون قد تدرب على ادارة الملك.
وذكر بعض اهل الأخبار انه لم يكن لملوك اليمن نظام، وانما كان الرئيس منهم يكون ملكاً على مخلافه لا يتجاوزه. وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير ان يرث ذلك الملك عن ابائه فلا يرثه أبناؤه عنه، وانما هو شأن شذاذ المتلصصة، يغيرون على النواحي باستغفالِ اهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات. وكذلك كان امر ملوك اليمن، يخرج احدهم من مخلافه بعض الأحيان، ويبدو في الغزو والإغارة، فيصيب ما يمرّ به، ثم يرجع عنه، عند خوف الطلب، زاحفاً إلى مكانه من غير ان يدين "له احد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي اليه خراجاً.
وقد اخذوا وصفهم هذا السلوك من الحالة السياسية التي كانت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، ايام تدهور الأوضاع بعد الميلاد، ولا سيما في أوائل القرن السادس للميلاد إلى دخول العربية الجنوبية في الإسلام. فقد استبد الحكام وأصحاب الاقطاع بالمخاليف، ولقبوا أنفسهم بألقاب الملك، وأخذ بعضهم يغير على بعض، ويغزو ارض جاره على طريقة الأعراب.
والسيادة على القبيلة، هي كالملكية تنتقل إلى مستحقها بالوراثة في الغالب. فإذا توفي سيد قبيلة، انتقلت سيادتها إلى ابنه الأكبر. هذا عامر بن الطفيل، وهو ابن سيد قبيلة، وقد صار سيدها بعد وفاة والده، يفتخر بنفسه، ويذكر انه ورث السيادة من وراثة، اذ أتته من والده، هذا صحيح، وليس في ذلك. من شك، لكن قومه لم يسوّدوه ولم يعيّنوه مكان ابيه، لهذا السب، وانما سودوه لأنه كان يحمي حمى قبيلته ويذب عنها،ولأن فيه شروط السيادة وحقوقها، فهو سيد قومه، قبل ان تأتي السيادة اليه من والده: وإني وإن كنت ابن سيد عـامـر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني ني عامر مـن وراثة أبى الله أن أسمـو بـأم ولا أب
ولكنني أحمي حماهـا وأتـقـي أذاها وأرمي من رماها بمنكـب
وهذا "بشامة بن الغدير"، خال "أبي سلمى" والد زهير، يقول في شعر له:- وجدت أبي فيهم وجَدّي كليهمـا يطاع ويؤتى أمره وهوُ محشتبي
فلم أتعمّل لـمـسـيادة فـيهـم ولكن أتتني طائعاً غيرمتـعـب
فهو رئيس ابن رئيس قبيلة،أتته السيادة من أبيه طائعة، لفضل فيه واستحقاق لها، دون ان يعمل وان يركض للحصول عليها. فالسيادة اذن عند العرب، تتبع نظام الارث في الغالب، إلا إذا حدث حادث يجعل أهل بيت السيادة، يعرضون عن الإبن الأكبر الى غيره، كأن يكون الآبن الأكبر معتوهاً أو سفيهاً أو ضعيفاً، واخوته أو أقرباؤه أقوى منه.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق