978
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
الأمراء
والأمير ذو الأمر، اي الآمر. وأولو الأمر: الرؤساء واهل العلم. وذكر ان الأمير الملك لنفاذ أمره، والجمع امراء، وهو يأمر إمارة. ولما كان الخليفة في الإسلام اميراً على المسلمين، نعت ب "أمر المؤمنين"، ولم ترد اللفظة في النصوص الجاهلية بمعنى "ملك". ويظهر انها كانت تعني عند اهل الحجاز الرئيس الآمر. وقد ورد في كتب التأريخ ان الأنصار لما اختلفوا مع المهاجرين بعد وفاة الرسول على "الإمارة" واجتمعوا في "سقيفة بني ساعدة" قالوا: " منا أمير ومنكم أمير ". وفي استعمال الأنصار لهذه اللفظة، دلالة على وجودها عند الجاهليين واستعمال اهل الحجاز لها بهذا المعنى في ايام الجاهلية.
ويظهر من الموارد "البيزنطية" ومن روايات اهل الأخبار، أن الملوك الغساسنة والملوك من "ال نصر"، اي ملوك الحيرة، لم يكونوا ملوكاً بالمعنى العلمي الصحيح المفهوم من الكلمة، وإنما كانوا "عمّالاً"، إذا كاتبهم الروم أو الفرس، لقبوهم ب "عامل". إذ عينوهم عمالاً على الأعراب ولم يعينوهم "ملوكاً". فلقب "ملك" من الألقاب الخاصة بملوك الروم لم يمنحوه لغيرهم. وكذلك كان الشأن عند الفرس. نعم لقد ذكر المؤرخ "بروكوبيوس" Procopius ان القيصر "يسطنيانوس" Justinianus منح "الحارث بن جبلة" لقب "ملك" ولقب بعض الكتبة اليونان سادات غسان باللقب المذكور. غير ان هذا التلقيب لا يمكن ان يكون دليلاً على أن الدولة الييزنطية كانت تطلقه عليهم بصفة رسمية وانه كان لقبهم الرسمي المعترف به عند الدول الأجنبية. ومن هنا شك المستشرق "نولدكه" في صحة رواية "بروكوبيوس" بشأن منح الحارث لقب "ملك"، ذلك لأن لقب "ملك" كان خاصاً كما ذكرت بقياصرة البيزنطيين فلا يمنح لغيرهم، ولأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم. ثم إن نص اًبرهة الشهير الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن "ابرهة"، لم يلقب "المنذر" ولا "الحارث بن جبلة" بلقب "ملك"، بل لم يلقبهما بأي لقب، بما في ذلك لقب عامل. وهذا مما يدل على أن "آل نصر" و "آل غسان" وإن لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" أو لقبهم العرب به، إلا ان ذلك التلقيب لم يكن بصفة دولية رسمية، وانما كان بصورة غير رسمية وعلى سبيل التجمل بهذا اللقب
والتشبه بالملوك الأجانب، استعمله الناس من باب التزلف والتقرب إلى اولئك الحكام، أو انهم نظروا اليهم من وجهة نظرهم الخاصة، فدعوهم ملوكاً لأنهم كانوا رعيتهم وكانوا هم مالكي رقبتهم. ومن هنا اعترفوا بهم ملوكاً، أما الدول الأجنبية فقد اعتبرتهم مجرد عمال وسادات قبائل.
والذي صح اطلاقه على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" Patricius، ولقب "عامل" أو رئيس قبيلة Phylarcos=Phylarkos=Phylarchus مقروناٌ بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة "فلابيوس المنذر البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة"، و "المنذر البطريق الفائق المديح،، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة".
ولقب "اليطريق" من ألقاب الشرف الضخمة عند الروم، ولذلك لم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدرلة حتى ان بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر، ويفضلونه على غيره من الألقاب.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا لقب "ملك" على الأمراء العرب، مثل "ماوية" فقد لقبوها ب "ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارك" "فيلارخ" "فيلاركس" "فيلاركوس" التي تعني "العامل" أو "سيد قبيلة". والظاهر انهم نهجوا في ذلك نهج الكتبة "السريان"، فقد لقبوا سادات القبائل العربية بلقب "ملك" على نحو ما نجلد في الشعر العربي. ويظهر ان عرب العراق كانوا قد لقببوا حكام "الحيرة" بلقب "ملك" و "ملوك"، وأن عرب بلاد الشام لقبوا حكامهم الغساسنة بلقب "ملك" كذلك، وذلك على سبيل التفخيم والتعظيم كما ذكرت، وباعتبار انهم حكامهم ومالكو أمرهم. كما لقب من خضع ل "ال آكل المرار " حكامهم من هذه العائلة بلقب "ملك". وكما لقب بعض سادات القبائل أنفسهم بلقب "ملك"، ولم يكونوا ملوكاً، بل كانوا سادات قبائل و "أمراء".
ومما يؤيد أن حكام الحيرة وغسان، لم يكونوا "ملوكاً" في نظر الدول الأجنبية بل عمالاً، ما نجده من اطلاق أهل الأخبار عليهم لقب "عامل" ولقب "ملك" أيضاً. فكانوا إذا تحدثوا عن صلاتهم بالفرس، أو نقلوا من موارد فارسية قالوا لهم "عمالاً"، وقالوا عنهم جملاً مثل: " كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر... وقدر ولاية كل من ولي منهم. وأمثال ذلك من جمل تشعر أنهم كانوا عمالاً وولاة. أما إذا تحدثوا عنهم من ناحية حكمهم للحيرة وللعرب وعن صلاتهم بالشعراء وبمدد حكمهم لقبوهم ب "ملك" وقالوا: "وقد ملك...."، وسبب ذلك أنهم أخذوا أخبارهم من منبعين: منبع اجنبي يوناني وفارسي، وهو منبع وثائقه -مدوّنة ومورودة من الموارد الرسمية التي تنعتهم ب"عمال". ومنبع عربي يلقبهم ب "ملوك"، استند على العرف العربي أي على ما كان يخاطب به العرب أولئك الملوك، فوقع من ثم هذا الالتباس.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق