976
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
المكربون
وترينا أقدم الكتابات العربية ان العربية الجنوبية حكمها قبل الملوك أناس حكموا حكماً مزدوجاً، أي حكماً دينياً ودنيويأَ، على نحو ما حدث في العراق وفي مصر وفي أماكن أخرى من الشرق، قبل أن ينتقل الحكم إلى الملوك، ويتحول. الى حكم زمني، ينصرف فيه.الملك إلى الأمور الزمنية لرعيته، تاركاً الشؤون الدينية لرجال الدين، حكموا الأرض باسم ألسماء،وحكموا حكم الساسة والحكام،.ونطقوا باسم الآلهة، فحكمهم حكم إلهي مقدس، على أتباعهم ومن يؤمن بهم إطاعتهم، لأنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض.
ويعرف هذا الكاهن الملك ب "مكرب"، أي "مقرب". وقد حصانا من كتابات المسند على أسماء عدد من "المكربين"، غير ان تلك الكتابات خرساء، لم تبح لنا بشئ ما عن أصول حكمهم للمعابد ولإدارة الدولة ولا عن كيفية تلقيهم الأوامر الإلهية التي يطلبون من أتباعهم تنفيذها، هل كانت وهل وحياً من الآلهة، يحملها اليهم ملائكة مقربون، أو إلهاما يتجلى في نفوسهم فينطق به المكربون ويبلغونه للناس،أو صوتاً يخرج منَ رئِيّ أو صنم أو ما شاكل ذلك يسمعه "المكرب" فيفسره للناس على طريقة الكهان ? وليس في نصوص المسند تعليل ما للدوافع والاسباب التي حملت آخر "مكرب" في كل دولة من الدول العربية الجنوبية على تغيير لقبه القديم، الموروث عن ابائه، واتخاذ لقب جديد، لقب "ملك"، وهو لقب يشير إلى الحكم الدنيوي فقط، والى ابتعاد الملك عن الحكم الديني وتركه لغيره. غير اننا نستطيع أن نقول باحتمال تأثر هؤلاء "ألمكربين" بالمظاهر الخارجية اإني كانت عند الدول المعاصرة التي لقبت حكامها بلقب ملك، وهي دول كبيرة ذات جاه وسلطان فأراد أولئك الحكام، حكام حكومات اليمن، التشبه بهم، ومحاكاتهم في المظهر، فغيروا لقبهم، ليظهروا أنفسهم انهم مثلهم، وانهم ليسوا أقل شأناً من أقرانهم الملوك.
ولا يظن أن التغيير الذي حدث فأدى إلى إبدال حكم "المكربين"بحكم الملوك كان تغيراً قسربا، أي نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة، ذلك لأننا نعلم أن آخر مكرب من مكربي سبأ كان هو المكرب "كرب ال وتر" "كرب ايل وتر". وقد كان هذا المكرب أول من افتتح العهد الملكي في سبأ، وأول من حمل لقب "ملك وذلك يدل على أنه هو الذي اختار اللقب الجديد، واستبدله بالقب القديم.
ولم يكن "المكرب" رجل دين بالمعنى المفهَوم من الجملة، أي عالماً بأمور الدين فقيهاً بها كرس وقته لها، ومتولياً إمامة الناس في صلواتهم وفي أداء الشعائر الدينية للارباب في معابدها، مقدماً القرابين بنفسه اليها، بل يرى بعض الباحثين أنه مجرد منصب له صبغته الدينية، وأنه يشبه منصب "الخليفة" في الإسلام "، حيث كان الخليقة يعد "أمير المؤمنين" ورئيس المسلمين. ولم يكن مع ذلك أعلم المسلمين بأمور الدين ولا أفقههم بالأحكام، وإنما هو "خليفةالله" في أرضه. وكذلك كان المكربون خلفاء الالهة على الأرض.
وقد استتبع انتقال الحكم من "المكربين" إلى الملوك، حدوث تغيير في أصول الحكم. فانقطعت صلة الملك بالمعبد، ولم يعد الرئيس المباشر له ولرجال الدين، وإن بقي الملك حامي الدين والمعبد. لما للمعبد من ارتباط بالدولة ولما للاثنين من مصالح مشتركة مترابطة، إذا اختلت أصاب الأذى الجهتين. وانصرف رئيس المعبد إلى ادارة المعبد وأملاكه الكثيرة الواسعة، والى جباية الضرائب الدينية، أي حقوق الالهة على الناس. وهي حقوق واجبة مفروضة. وانصرف الملك إلى ادارة الدولة، وجباية حقوقه على شعبه. وادارة املاكه الخاصة وأملاك الدولة،.التي هي أملاك الملك أيضاَ. حيث لم يفرق الملوك بين جيبهم الخاص وبين جيب الدولة. لأن الدولة الملك، والملك الدولة. وبيت المال هو بيت مال واحد، للملك أن يتصرف به كيف شاء.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق