975
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
أصول الحكم
المجتمع العربي الجاهلي: بدو و حضر اهل وبر وأهل مدر يتساوى في ذلك عرب العراق وعرب بلاد الشام وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب. وفي كل مجتمع من هذين المجتمعين تكوّن نظام من أنظمة الحكم يتناسب مع المحيط، لأنه نبات ذلك المحيط، وحاصله، وما ينبت في مكان ينبت وقد اكتسب خصائص التربة وخصائص الجو، وما يحيط بالنبات من مؤثرات طبيعية أو بشرية.
ومن هنا صارت "الرئاسة" قاعدة الحكم عند أهل الوبر، و "الملكية" و "رئاسة القرى والمدن"، أداة الحكم عند أهل المدر.
ولا ينال الحكم في المجتمعات البدوية وفي المجتمعات الصغيرة التي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الحضارة، والتي لم تنل حظاً من الغنى والمهارة في العمل وفي كثرة الانتاج وتنويعه، إلا من كان ذا قابلية عالية وذو شخصية قوية، وذو أسرة متجانسة متآلفة متماسكة كثيرة العدد، وذا عشيرة أو قبيلة تندفع في تأييده لمزاياه المذكورة أو لخوفها منه، أضف إلى ذلك العصبية والرغبة في كسب المال عن طريق الاندفاع معه في غزو القبائل الأخرى. فمجتمع من هذا النوع تكون قيادته بيد "سادته"، وقد يفرض أحدهم نفسه على الاخرين، طوعاً أو كرهاً فيكوّن حكومة تنسب في الغالب اليه، قد يطول أجلها إذا جاء من بعده حكام أكفاء لهم قابلية وشخصية، وقد تموت بموته، لعدم كفاءة من يخلفه، ولأنه كون دولته بشخصيته، وليس عن دوافع أخرى مثل ايمان بعقيدة واخلاص لها، أو وجود وعي مشترك وحس بوجوب التكاتف والتآزر، لتأليف مجتمع متكاتف يعيش فيه المواطنون عيشة مؤاخاة ومواطنيه بالعدل والانصاف، حتى يطول عمر تلك الحكومة، ولما كانت تلك الدولة قد كونت إما عن مصلحة أو عن خوف وقهر أو عن طمع، وقد زالت هذه بموت صاحبها، لذلك يصيبها التفكك وانهيار البناء. ومما يؤيد ذلك ردة من ارتد بعد وفاة الرسول عن الإسلام، فقد كانت حجتهم في ردتهم انهم انما بايعوا الرسول وآمنوا به، ولم يبايعوا غيره. وبوفاته انتهى حكم البيعة، فلن يخضعوا لغيره ولن يدفعوا صدقة ولا زكاة ولن يطيعوا أحداً. ولو لم يؤدبهم "أبو بكر"، بأدب القوة، لما عادوا ثانية إلى الإسلام.
وللحكم الملكي صلة كبيرة بحياة الاستقرار والاستيطان، فهو لا ينمو ولا يظهر إلا في المجتمعات المستقرة وفي المواضع الغنية بالماء وفيَ القرىَ والمدن. فنرى ان حكام قرى فلسطين ومدنها كانوا قلى لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" في ايام "ابراهيم" مع انهم لم يكونوا إلا رؤساء قرى أو مدن."ُ قد كان أكثرهم كهنة في الأصل، اي حكاماً حكموا رعيتهم باسم الآلهة، فكان لهم الحكم في الدين وفي تدبير اًمور الرعية من الناحية الدنيوية، ثَم عافوا هذا المركز وتركوا المعبد،وخصصوا أنفسهم بالنظر في الأمور الدنيوية.
ولما تقدمت وسائل الحروب وتفنن الإنسان في صنع الأسلحة، وفي استذلال الحيوان وتسخيره لنقل محاربيه وأسلحتهم ومواد اعاشتهم، توسعت سلطة كبار الملوك، وتضخمت حدود ممالكهم، فظهرت الملكيات الكبيرة: ظهرت على أنقاض "ممالك القرى" و "ممالك المدن". حيث حكم التأريخ بتسلط الممالك القوية على الممالك الصغيرة،وبأكل القوي منها الضعيف، لأن الحق للاقوى والبقاء للقوي المكافح المناضل المكالب في هذه الحياة تكالب الكلاب فيما بينها لمجرد شعور كلب قوي بتفوقه على كلب آخر غريب أو كلاب غريبة عنه.
ولعب "المال" دوراً خطيراً في ظهور "الملوك الكبار" وفي تكوين "الحكومات الملكية الكبيرة "، ونضيف اليه شخصية صاحب المال والطبيعة التي عاش بها، من برودة وحرارة وتبدل في الضغط الجوي، ومن تربة ومعدن ونبات وماء. فالمال وحده لا يكفي لخلق دول كبرى، وهو لا يدوم إذا لم يقرن بعقل فطن. خلاّق يعمل على الإيجاد والتكوين وتسخير الطبيعة في خدمته وخلق قوة تكون سندا له وسداً منيعاً يقف حائلاً منيعاً أمام المعتدين. والاستفادة من المال بتشغيله بحكمة وبعلم، وبإيِجاد موارد جديدة تحل محل الموارد القديمة إن نففت.
وقد كان ظهور الحكومات ألملكية الكبيرة في الأرضين الغنية بخيراتها ذات الماء الغزير والجو المساعد على العمل. فوسعت رقعتها وطمعت في غيرها فابتلعتها وقوَّت نفسها بخيراتها وعبأًت كل قواها لخدمتها، وأخذت تكتسح غيرها وتتوسع وكونت الممالك الكبير المشهورة في التأريخ.وقد سمح بعض ملوك الحكومات الكبيرة لملوك الممالك الصغيرة بالاحتفاظ بحمل لقب "ملك"، على أن يكون ذلك مقروناً باعتراف أولئك الملوك بحماية الملوك الكبار لهم،وبوجوب عدم الخروج على طاعتهم وبلزوم الاشتراك معهم في الحروب إن طلب منهم الاشتراك فيها، وبدفع جزية مرضية لهم. فلم تتمكن الحكومات الصغيرة التي عاشت على التجارة والاتجار من العيش بمأمن وسلام، إذ طمعت فيها الدول القوية، فأرسلت اليها من يخيرها بين الاستسلام والطاعة أو الهلاك واحراق الدور وإنزال الدمار. وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك فيما سلف من هذا الكتاب. من ذلك تهديد حكومات العراق لحكومات مدن الخليج،وتهديد الرومان واليونان للنبط. وحملة "أوليوس غالوس" على اليمن، لضم أصدقاء أغنياء إلى انبراطورية الرومان، يؤدون لها الخراج ويقدمون لها ما عندهم من ذهب ابريز، وإلا فالنار والخراب والدمار والقتل. فلا مجال للحكومات الغنية الصغيرة من العيش بأمن وسلام. وليس عندها سوى الإختيار بين أمر من أمرين. فإما دفع جزية ثقيلة ترضي القوي، واما الاستسلام وإنزال النار بها والدمار.
أما البوادي والأرضين القفرة الفقيرة القليلة الماء، فلا يمكن أن تنبت بها "ممالك" كبيرة،لعدم توفر مستلزمات المعيشة والتجمع الكبير فيها، لهذا صارت حكوماتها حكومات "رئاسات" رئاسة قبيلة أو أحلاف. وقد يحلو للرئيس أن نحتار له "ملك"، لقب لا يعني في الواقع العملي أكثر من سيد قبيلة. وحكومات باطن جزيرة العرب هي من هذا النوع في الأكثر. أما الملكيات فقامت في مواضع الحضارة، حيث التربهّ الصالحة الخصبة المساعدة على حياة التجمع والاستقرار. ووجود حضر َيقبلون بالطاعة والخضوع لحكم حاكم، ومال يجبى من الناس ليستعين به الحاكم على الانفاق على نفسه وعلى جيشه وعلى من ينصبهم لادارة الأمور. قامت تلك الملكيات في العراق وفي بلاَد الشام وفي أطراف جزيرة العرب وفي مواضع الماء من نجد كاليمامة. وقد تكلمت عنها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
أما الرئاسة، فهى درجات تبدأ برئاسة بيت، وتنتهي برئاسة قبيلة. ولكل رئيس سلطان على أتباعه وحقوق وواجبات. وعليه أيضا حقوق وواجبات يجب أن يوفي بها لأتباعه ومن هم في عنقه ويمينه. والرئيس هو "بعل" و "رب" و "سيد" جماعه والمسؤول الشرعي عن أتباعه، وهو ممثلهم ولسانهم الناطق باسمهم وحاميهم في الملمات.
وقد عرف "هشام بن المغيرة" ب "رب قريش" ونسبت قريش اليه في الجاهلية، فقال الشاعر: أحاديث شاعت من معد وحمير وخبّرها الركبان حيّ هشـام
وذلك تعظيماً له واحراماً لشأنه.
ويعرف رئيس القبيلة ب "سيد القبيلة"، وسادات القبائل هم رؤساء القبائل.
وقد ينعت رجل ب "سيد العرب" وب "سيد مضر" وب "سيد أهل الوبر"، وذلك لتعبير عن سلطانه وعن مكانته وعن حكمه لقبائل كثيرة عديدة. فقد نعت "الأفكل"، وهو "عمرو بن جعيد" ب "سيد ربيعة" لرئاسته على ربيعة. وعرف "حذيقة بن بدر" ب "سيد غطفان"، وكان يقال له: "رب معد".
وعرف "قيس بن عاصم بن سنان المنقري" ب "سيد أهل الوبر"،- فلما وفد على رسول الله في وفد "تميم"، قالَ رسول الله: " هذا سيد أهل الوبر". وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، لأنه سكر فعبث بذي محرم له.
وعرف حاكم "تدمر" ب "رش تذمور"، أي "رأس تدمر" و"رئيس تدمر"، في الكتابات التدمرية القديمة. ثم عرف ب "ملك"، في الكتابات المتأخرهَ المدونة وصار اللقب الرسمي لحكام "تدمر" في ايام "الزباّء" فما بعد، إلى احتلاَل الرومان لتدمر وإلغائهم الحكم التدمري.
ولقب "أذينة" ملك "تدمر" نفسه ب "ملك ملكا" أي "ملك الملوك" أيضاً، تشبهاً مملوك الفرس وبملوك حكموا قبلهم مثل الملوك الأشوريين، واتخذ لنفسه ألقاباً يونانية تقليدا للرومان. ولم نعثر في النصوص العربية الجنوبية على لقب "ملك الملوك". ويظهر ان الملوك العرب لم يتلقبوا بهذا اللقب الأعجمي.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق