972
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي والخمسون
فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح
القبر
ويدفن الموتى عادة في حفر تحفر يقال لها: قبر، وجدث، ومقبر،ووجر، ورمس، وجنن. أما في "بطرا"، وفي بعض المناطق الجبلية والصخرية، فقد نقرت المقابر في الصخور، فصنعت على هيأة حجر وضعت جثث الأموات فيها، كما استعملت المقابر المرتفعة في مدينة "تدمر"، وذلك بتشييد مبانٍ وضعت فيها جثث الموتى في حجر صغيرة تعمل في تلك الأبنية.
واستعملت الكهوف مقابر كذلك. ففي المناطق الصخرية توجد كهوف طبيعية سكنها الإنسان، واتخذها مقبرة له. وذلك بدفن الأموات فيها وسدّ بابها. وقد عثر الباحثون والسياح على عدد منها.
والقبر هو التسمية المعروفة الشائعة في أغلب أنحاء جزيرة العرب، وقد وردت في نص النمارة، وجمعها القبور. ذكر علماء اللغة ان "القبر" مدفن الإنسان وان "المقبر" موضع القبر. وأما "المقبرة"، فهي موضع القبور. وقد وردت لفظة "مقبر" و "مقبرت" أي مقبرة، و "مقبرتم " أي "مقبرة" في حالة التنكير في نصوص المسند.
وأما "الجدث" فالقبر، والمجمع أجداث وأجدث، وهو قلة. وورد "الجدف" في بعض الروايات.
.وأما الوجر، فهو كالكهف عند علماء اللغة. فهو يؤدي معنى قبر على سبيل المجاز. وقد ورد في نص مدوّن بالمسند يعود إلى القرن السادس للميلاد، عثر عليه في العربية الشرقية. وهو شاهد قبر رجل اسمه "ايليا".
ويذكر علماء اللغة، ان الجنن: القبر، سمي بذلك لستره الميت، وأيضا الميت لكونه مستوراً فيه، وأيضاً "الكفن" لأنه يجن الميت، أي يستره، فالأصل في الكلمة الستر، ويجمع على أجنان.
وقد وردت لفظة "ضرح"، أي "ضريح" بمعنى قبر في اللغة الصفوية. ولكن من الجائز أن تكون قد وردت فيها بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا. كما وردت فيها ألفاظ أخرى بمعنى قبر، مثل: "نفست" أي، "نفس" و "مقل"، بمعنى "مقيل"، أي موطن الراحة ومحلها، و "نيت". ويظهر ان لفظة "نفست" قد أخذت من أصل إرمي هو "نفسا" "نفشا".
وقد وردت لفظة "نفش" و "نفس" في النصوص النبطية واللحيانية والسبئية وفي نصوصُ دوّنت بلهجات عربية أخرى. ولعل للفظة "نيت"، علاقة ب "منوت" و "منايا" و "منون"، وهي تعني في الصفوية: المسافر والسفر أي في معنى أدبي لطيف، له صلة بالموت، باعتبار ان الميت مسافر من هذا العالم إلى عالم آخر، وان القبر هو مستقر ذلك السفر.
ويلحد أهل الحجاز لحداً في القبر لوضع الميت فيه. ويقال للذي يلحد القبر ويضع الميت فيه "اللاحد". ويقال للذي يعمل الضريح "الضارح". وكان من عادة الجاهليين رجم القبور أي وضع أحجار فوقها، وذلك على سبيل التقدير والتعظيم للميت. فإذا زار قريب أو صديق قبر قريب أو صديق له رجمه، أي وضع أحجاراً فوقه. والرجام الحجارة. والرجمة أحجار القبر ثم يعبر بها عن القبر وجمعها رجام ورجم. وقد ورد في كتب الحديث ان الرسول قال: لا ترجموا قبري، وان "عبدالله بن مغفل المرني" قال: "لا ترجموا قبري، أي لا تجعلوا عليه الرجم. وأراد بذلك تسوية القبر بالأرض"، وعدم نصب أحجار فوقه ليظهر واضحاً شاخصاً.
وتؤدي لفظة "رجم" و "رجمت" و "هرجم" أي "الرجم"، معنى قبر أيضاً. وترد بكثرة في الكتابات الصفوية. ويراد بها الآحجار التي تكوم فوق قبر. والعادة عندهم أن الشخص الذي يمر على قبر ما، أو يزور قبر قريب له، يضع حجراً او أحجاراً فوق القبر، تكريماً لصاحبه وتخليداً لذكره، حتى وان لم يعرفه، لأن ذلك من باب احترام الموت والميت. فالرجام اذن، هي قبور غطيت بأحجار.
وقد عثر على عدد من الرجام المكتوب الذي اتخذ شواخص للقبور فيه اسم الميت ودعاء على من يحاول نقل الرجمة من محلها أو على من يحاول تغيير معالم القبر وازللته أو على من يريد انّحاذه براً له أو لأحد أفراد أسرته أو يسفن أي أحد فيه. وقد أفادتنا هذ الشه س اهد في معرفة لهجة الفوم وفي بعض الأمور التي لها صلة بالأصنام وبالدين.
وقد استعملت اللحيانية لفظة "قبر" ومنها "هنقبر"، أي "القر"، للتعبير عن القبر، كما استعملت لفظة أخرى هي "مثبر" "م ث ب ر" ومنها "همثبر"، أي "المثبر" في معنى قبر. وللثبور بالطبع صلة بالموت. وتعبر لفظة "كهف" في هذه الهجة عن هذا المعنى أيضا.
ويقال للقبر المسوّى مع الأرض "رمس" فإذا كان مرفوعاً عن الأرض فهو قبر مسنم. ويظهر أن الجاهليين كانوا يسنمون قبورهم. وقد ورد في حديث "ابن مغفل": "ارمسوا قبري رمساً". أي سووه بالأرض ولا تجعلوه مسنماً. والرمس تراب التر والمَرْ مَس موضع القبرْ.
ووردت لفظة "مقبر" في الكتابات الصفوية، بمعنى "القبر"، أي الموضع الذي يقبر به. وهم يرصفون القبر، ويعبرّون عن ذلك بكلمة "ارصف". كما يرجمونها بالرجم ويعتبرون ذلك من امارات التقدير والاحترام.
وعرفت مقابر النصارى ب "الناووس". وقد شلك بعض علماء اللغة في أصلها، فذهب الى احتمال، كونها من أصل أعجمي، وهي من أصل يوناني، ومعناها فيها: حجر منقور لدفن ميت، كما أطلقت على مقبرة النصارى وعلى المعبد والكنيسة،لأن كثيراً ما كان النصارى القدامى يقبرون موتاهم في الكنائس. وقد حارب الإسلام عادة أهل الجاهلية في تسنيم القبور ورفعها عن سطح الأرض، وشدّد على ذلك في الحديث، وجعلت القبور المسنمة في حكم الأوثان. ولا بد أن يكون لهذا التشديد سبب، إذ لا يعقل ورود تلك الأحاديث في موضوع طمسها بغير داع ولا أساس. وسبب ذلك هو تقديس أهل الجاهلية لتلك القبور تقديسهم الأوثان وتقربهم اليها، وهو ما لا يتفق ومبادىء التوحيد في الإسلام.
ونهى الإسلام عن تكليل القبور. "أي رفعها تبنى مثل الكَلل، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور. وقيل: هو ضرب الكلة عليها. وهي ستر مربع يضرب على القبور". وقد كانوا يبنون البيوت والأبنية فوق القبور. وقد نادى الشاعر "لبيد" باني قبر عزيز له بأن يضعف من سمك القبر وأن يرفع الحائط أو السقف، حتى يكون هناك متسع من فضاء فوق القبر. وذكرأنه كانت على قبر " أبي أحيحة" قبة مشرفة.
وقد ورد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد بناء أضرحة فوق القبور، ورفع القبر عن الأرض حتى يكون كسنام الجمل بارزا ظاهراً. وقد عبر عن بناء القبر ورفعه عن الأرض وبناء ضريح عليه ب "ارتفد الضريح" والضريح في تعريف علماء اللغة، الشق في وسط القبر، وقيل القبر كله أو قبر بلا لحد. وذلك لأنهم يجعلون اللحد في جانب القبر.
ويظهر أن يهود الحجاز ونصاراه كانوا قد بالغوا في ضرب القباب والأضرحة على قبور موتاهم وفي تعظيم قبور أحبارهم وقسسهم، حتى تحولت قبورهم إلى اضرحة ومزارات. تزار في المناسبات وقد دفنوهم في المعابد. لذلك نهي عن التشبه بفعلهم في الإسلام. وأشير إلى عملهم هذا في القران الكريم وفي كتب الحديث. وقد وضع اليهود والنصارى شعار اليهود والنصارى على قبورهم لتمتيزها عن مقابر الوثنيين.
ويقال للحائرِ الذي يحيط بالقر "الودع". وقيل: الودع القبر، أو الحظيرة حوله، أو المدفن يحير به حائر.
وتعرف علامات القبر ومعالم حدوده به "الآيات"، والاية هي العلامة. وقيل للرجمات التي وضعت على القبر إلأحجار والأطباق والصفيح والصفائح والصفاح. ويراد بالصفائح الحجارة العريضة التي توضع على القبر لتغطيته.
وكان منهم من يضع الجريد على إلقبر، ومنهم من يضعه داخل القبر. وقد تغرز الجريدة في القبر فيكون رأسها بارزاً فتكون علامة تشير إلى القبر. وذكر إذ رسول الله أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. ولا زال الناس يتبعون هذه العادة. وقد استعملوا الأذخر والحشيش في قبورهم كذلك. كانوا يضعون الأذخر في الفرج التي تكون بين اللبنات،ويضعون الحشيش تحت الميت وفوقه.
وعثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر دعاها الباحثون: "تمولي" tamuli لأنها على شكل تلال أو هضاب. وقد اتخذت مدافن. منها "تمولي" البحرين. وسأتحدث عنها في أثناء حديثي عن الفن والعمارة عند الجاهليين.
وقد عثر المنقبون على مقابر جاهلية عامة، على نحو ما نجده من المقابر العامة في هذا الوقت. وقد نبش عدد منها في الإسلام، لاتخاذها أملاكاً أو مساجد، كما حول بعضاً منها الى مقابر اسلامية، دفن فيها المسلمون بعد أن أزيلت ونبشت قبور الجاهليين. وأشير اليها في كتب الحديث. ويظهر ان بعضاً منها كان ذا أضرحة وقبور مرتفعة عن الأرض.
ولا يدفن في المقابر إلا أفراد العائلة التي تمتلكها، أو من يؤذن بدفنه فيها. ويعد الإذن بدفن غريب في مقبرة خاصة من علامات التقدير والاحترام بالنسبة للمتوفى الغريب. وقد تحجز مناطق من مقبرة عامة لتكون مقبرة خاصة،فلايسمح لأحد بالدفن فيها إلا لمالكها. وقد تسور ويعمل لها باب، وقد يقام ضريح أو بناء ضخم، مع ان المقبرة هي جزء من مقبرة عامة. ولا تزال هذه العادة متبعة وقد تشترى، الأرض ممن يتولى أمر المقبرة العامة. ويحافظ أهل المقابر الخاصة على مقابر أسرهم فيتعهدونها بالرعاية والعناية وبإدامتها على خير وجه. وهي تزار في المناسبات تقرباً إلى اصحاب القبور، لئلا تنقطع صلتهم بموتاهم. وورد ان بعضاً من الجاهليين كان يضرب قبة على قبر عزيز له مدة سنة"للاستمتاع بقربه وتعليلاً للنفس وتخييلاً باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحسن. كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البانية ويخاطب المنازل الخالية".
وتراعى القرابة والمنزلة في دفن الموتى في المقابر فتدفن الزوجة على مقربة من زوجها في الغالب والأبن على مقربة من أبيه "، وهكذا فكاًنهم يريدون بذلك جمع شمل العائلة، وإعادتها إلى ما كانت عليه يوم كانوا أحياءّ. وإذا كان المتوفى عظيم وذا مكانة ومنزلة حرص، أقرب الناس اليه من أصحابه على نيل شرف الدفن على مقربة منه عند دنو أجلهم. وقد تتحول أمثال هذه المقابر الى مزارات، خاصة إذا كانت مقابر كهنة وسدنة ورجال دين.
أما قبور الأعراب والفقراء والسواد، فهي بسيطة، حفرة تحفر في الأرض يوارى فيها الميت، ثم يهال عليه التراب أو الرمال أو الحجارة حسب طبيعة الأرض فتكون قبر ذلك الميت. وقد يسوّ ى القبر بالأرض فلا تظهر آثاره ولاتبرز معالمه عن معالم القشرة، وقد يرفع التراب بعض الشيء ليكون علامة عليه.وقد توضع عصي أو أحجار فوقه لتكون إشارة تشير إلى مكانه. وليس في إمكان الأعراب النازلين في البوادي البعيدة عن الحضر، فعل غير ذلك، ولا سما إذا كان الموت قد وقع في حين نزول القبيلة في أرض جاءت اليها في الموسم لترعى العشب أو في أثناء تنقل فإنها لا تستطيع أن تصنع قبراً لميتها غير هذا القبر.
ومدة العزاء عند الجاهليين حولٌ، أي سنة لا يترك أهل الميت فيها ذكرى فقيدهم، فيندبونه في أوقات معينة ويبكون عليه عند قدوم قادم اليهم، وينحرون لذكراه ويكرمون من يأتيهم لتعزيتهم. وقد كانت مدة العزاء حول عند العبرانيين أيضاً وعند غيرهم من الساميين والشعوب الأخرى، يقوم فيها أبناء الميت أو بناته بتلاوة صلوات خاصة في خلالها عاى الميت ليرحمه الله وليغفر له وليسعد روحه. وتكَاد هذه المدة تكون امداً للعزاء ولذكرى الميت عند كل الشعوب إلى هذا اليوم.
وأما مدة المناحة فهي في العادة سبعة أيام. فلما مات "زيد الخيل"، الشاعر الفارس، وهو فيَ طريقه إلى دياره، أقام "قبيصة بن الأسود" المناحة سبعة أيام. ولا تزال هذه المدة مرعية في العراق، حيت تنوح وتبكي النسوة فيها موتاها، ويكون اليوم السابع هو ختام العزاء. أما الرجال، فيقيمون العزاء ثلاثة أيام، ويسمونه "الفاتحة" في الإسلام بالعراق في هذه الأيام. ويجلس أقرباء الميت وأهله عند العبرانيين سبعة أيام في البيت حزناً عليه وتقبلاَ لتعازي الناس. وقد ورد أن مدة النياحة قد تستمر عند الجاهليين فتكون حولاً.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق