إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 10 يناير 2016

971 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الحادي والخمسون فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح نعي الميت


971

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
    
الفصل الحادي والخمسون

فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح

نعي الميت

وتكون الاعلان عن موت شخص بالبكاء وبالنعي، ويتوقف نعي الميت والبكاء عليه على قدر منزلة الميت ودرجة أهله ومكانتهم الاجتماعية. ويعد نعي الميت و شق الجيوب عليه من وسائل التقدير والإكرام وتبجيل الميت، ولذلك كانوا يوصون قبل موتهم بنعيهم للناس نعياً يليق بهم، ويقوم بذلك ناع أو جملة نعاة. يركب الناعي فرساً ويسير ينعى الميت بذكر اسمه وتمجيد ليسمع بذلك القوم، قائلا: "نعاء فلان..." وترد كلمة "الناعي" و "النعاة" كثيرا في الشعر وفي النثر. وقد كان الجاهليون يستغلون نعى القتلى للتحريض عاى القتال والأخذ بالثأر، ويقال لذلك: "التناعي".

وقد نهى الإسلام عن "نعي الجاهلية"، وذلك لما كانوا يبالغون من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره ورثاءه رثاء يتجاوز الحد.

والولولة والنياحهَ على الميت من النقاليد التي تشدد فيها أهل الجاهلية وكانت عندهم سمة من سمات التقديس. ولهذا كان أهل الجاه والشراف يستأجرون النائحات للنياحة على الميت فيَ بيته وخلف نعشه إلى القبر وفي مأتمهه، ويبالغون في ذلك تبعاً لمننرلة المتوفى. وتلك عادة متبعة عند غيرهم أيضاً، فقد كان العبرانيون يستاجرون النادبات ليندبن الموتى. كما كان الرومان يتبعون هذه السنة.

وكلمة "الرثاء" من الكلمات الجاهلية وهي تعني بكاء الميت وتعديد محاسنه ونظم الشعر فيه، ويقال للمراة النواحة، والتي ترثي بعلها أو غيره من الأقارب والأعزاء ممن يكرم عندها "الرثاءة" و "الرثاية". وأما "المناحة" فهي إجتماع النساء في مناحة لاظهار حزنه على الميت. ويقال للاجتماع نياحة أيضاً. والكلمة من الكلمات الجاهلية كذلك. ويفهم كَثير من الناس من كلمة "مأتم" المصيبة واظهار الحزن والنوح والبكاء،وليس هو كذلك، وإنما "المأتم" في عرف أهل اللغة المجتمع يجتمع فيه النساء في حزن أو فرح في خير أو شرّ، ويطلق على اجتماعات الرجال والنساء.

وفي الشعر الجاهلي أبيات يحث فيها الشعراء أهلهم ويوصونهم بالبكاء وبالنوح عليهم إذا -ماتوا. قصد ذكروا أن طرفة بن ا لعبد خاطب ابنة أخيه بهذا البيت: ???فإن متُ فانعيني بما أنا أهله=وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبدْ وذكروا أن الشاعر حازم بن أبي طرفة الحارث بن قيس الشدّاخ الكناني، وهو شاعر جاهلي أوصى ابنته لما شعر بدنو أجله بأن تبكي والدها وأن تندبه وتذكر محامده وفعاله، وذلك في هذين البيتين: بنية إنّ المـوت لا بـد لاحـق  بشيخك ماضي الانام المـودّع

فإن قمت تبكيني فقولي أبوالندى  ومأوى رجال بائسين وجـوّعّ

أما الشاعر لبيد فقد أوصى ابنته بهذه الوصية لما حضرته الوفاة: تمنى ابنتايَ أن يعيش أبوهـمـا  وهل أنا إلا من ربيعة أومضر?

فقوما وقولا بالذي تعلـمـانـه  ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر

وقولا: هو المرء الذي لا صديقه  أضاعَ ولا خانَ الأمن ولاغـدر

وهي وصية فيها تعقل واقتصاد بالنسبة إلى طلبات غيره ممن كان يرى البكاء والنياحة وخمش الوجوه وحلق الشعور وإظهار أكثر ما يمكن من مظاهر الحزن والتوجع والتألم وأمثال ذلك، هي سيماء من سيماء التقدير والتعظيم والاحترام للميت بل للاحياء من اَله وأقربائه أيضأ، لأنها دلالة على شدة تألمهم لذهاب فقيدهم، وعلى انهم لا يبالون في الإنفاق في شيء حتى في إيلام أنفسهم وتوجيع أجسامهم وهلاكهم في سبيله، وانهم كرماء لا يبالون في البذل في سبيل من يفتقدونه. وما كان لبيد، ليقنع بهذا المأتم لو كان على رأي أهل ألجاهلية. فمأتمه هذا مأتم بارد لا يليق بمقام رجل جاهلي، ولكنه كان مسلماً، دفعه إسلامه على القناعة في مأتمه وعلى الاكتفاء بهذا القليل. فقد ورد في الحديث " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " وأن الرسول قال: " ليس منّا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية "، وانه " بريء من الصالقة والحالقة والشاقة "، وانه قال: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" إلى غير ذلك من أحاديث تنهى عن هذه المظاهر، التي هي في نظر الإسلام من سيماء أهل الجاهلية.

ويصحب البكاء شق الجيب وتعفر الرأس بالتراب واجتماع النسوة اياماَ لندب الميت وذكر مناقبه. تقوم بذلك نادبات ممتهنات أو غيرهن ممن رزقن موهبة القول في مثل هذه الأحوال من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي أو القرية. وفي بيت ل "طرفة بن العبد" نجده يوصي بنعيه بما يستحقه وبشق الجيب عليه. وقد يمتد نعي الميت ورثاؤه حولاً كاملاً، وهي مدة عزاء أهل الجاهلية. فإذا انتهى الحول وقد بكوه البكاء الذي استحقه الميت عذر أقرباؤه عن الإستمرار في بكائه إلاّ في المناسبات. قال لبيد لابنتيه، لما حضرته الوفاة: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما  ومن يبكِ حولا كَاملاً فقد اعتذر

وتعرف التي ترفع صوتها بالنياحة ب "الصالقة". وأما التي تحلق شعرها عند نزول المصيبة فيقال لها "الحالقة". وأما التي تشق جيبها، فيقال لها "الشاقة". ويقال لتعديد النادبة بأعلى صوتها محاسن الميت النادبة ولعملها الندب. والظاهر أن الندب كان خاصاً بالنساء، وإن وردت كلمة "نادب" عند اللغوبين. وقد نهى الإسلام عن "الصلق"، ورد في الحديث: "ليس منا من صلق أو حلق أوخرق ". أي ليس منا من رفع صوته عند الصيبة وعندالموت. ويدخل فيه النوح أيضاً. و "السالقة"، هي بمعنى "الصالقة"، وهي لهجة ولا شك من لهجات القبائل، وقد وردت قي رواية أخرى للحديث المذكور أيضاً.. ولطم الخدود ونهشها وشق الجيوب وذر التراب أو الرماد أو وضع الطين على الرأس والخدود عادة لا ينفرد بها العرب وحدهم، بل هي موجودة عند غيرهم من الأمم أيضاً. وفي التوراة آيات تشير اليها كلها وتعدّها من دلائل الحزن والأسى الشديد والتوجع على الميت. وهي كلها مذكورة فيها من البكاء والنحيب على الميت إلى ذرّ الرماد والتراب أو وضع الطين على الرأس الى شق الجيوب ولطم الصدر والخدود.

وليست عادة استئجار النادبات بعادة خاصة بالعرب الجاهليين،فقد كان العبرانيون يستأجرون النادبات كذلك ليندبن الميت، وقد أشير إلى ذلك في التوراة،ولعلها من العادات السامية القديمة المعروفة عند بقية إلساميين.

ويقال لمدّ الصوت بالنحيب "النقع" " واْما مدّ اللسان بالولولة ونحوها، فيقال له "اللقلقة".

ويحترم الجاهليون الموت والميت فكانوا يقومون إذا مرت بهم جنازة، ويقولون إذا رأوها: "كنت في أهلك مائتاً مرتين". أما أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه فكانوا يسيرون أمام الجنازة وخلفها الى المقبرة.

وتعفر النساء رؤوسهن بالتراب وبالرماد وبالطين ويلطمن خدودهن بأيديهن، كما كنّ يلطخن رؤوسهن بالطين ويسرن مع الجنازة إظهارللحزن والجزع على الفقيد. وترافقهن النادبات والمولولات، يندبن الميت ويولولن عليه يسرن حافيات مبالغة في إظهار الحزن.

وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قتل قاتل القتيل، بكت عليه وناحت.

ويتبين من حديث "عمرو بن العاص" ان من عادات الجاهليين حمل النار مع إلجنازة تصطحبها اصطحاب النائحة لها، وقد أباح "عمرو" لأهله نحر جزور عند قبره لتوزيع لحمها على المحتاجين، وأن يقيموا حول قبره حتى يستأنس بهم، وينظر ماذا يراجع به رسل ربه. ونجد مثل ذلك في خبر يذكر ان "أبا موسى الأشعري" لما حضره الموت دعا ابنه، فقال: " أنظروا إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحداً ولا يتبعني صوتٌ ولا نار "ْ. ويدل ذلك على ان عادة حمل النار مع الجنازة بقيت زمناً في الإسلام.

ويؤخذ من شعر للأفوه الأودي ان الجاهليين كانوا يغسلون موتاهم قبل دفنهم. وذكر "اليعقوبي"، انه لما مات عبد المطلب "أعظمت قريش موته وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على الأعواد". وسبب ذلك على ما يقوله علماء اللغة أن البوادي لا جنائز لهم، فهم يضمون عوداً إلى عود ويحملون الميت عليها الى القبر وذكر انه أراد بقوله: ولقد علمت سوى الذي نبأتني  أن السبيل سبيل ذي الأعواد

لو أغفل الموت احداً لأغفل ذا الأعواد، وأنا ميت مثله. وذو الأعواد الذي قرعت له العصا، "غويّ بن سلامة الأسيدي"، أو هو "ربيعة بن مخاشن الأسيديَ"، أو هو "سلامة بن غوي" على اختلاف في ذلك. قيل كان له خرج على مضر يؤدونه اليه كل عام فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به في مياه العرب فيجبيها. وفي اللسان: قبل هو رجل أسن، فكان يحمل على محفّة من عود، أو هو جدّ لأكثم بن صيفي المختلف في صحيته. وهومن بني أسيد بن عمرو بن تميم. وكان أعز أهل زمانه، فاتخذت له قبة على سرير، ولم يكن يأتي سريره خائف إلاّ أمن، ولا ذليل إلا عزّ ولا جائع إلا شبع وهو قول أبي عبيدة. وبه فسر قول الأسود بن يعفر النهشلي.

ويحمل الموتى على "الحرج" أيضا. والحرج خشب يشدّ بعضه إلى بعض ثم يحمل فيه الموتى.

وللعلماء آراء في الجنازة. ذكر بعض منهم ان الجنازة من الجنز بمعنى الستر، وذكر بعض آخر ان اللفظة من ألفاظ النبط، وتعني جنز في لغتهم الإخفاء، ويقصدون بالنبطية لغة بني إرم. معنى جملة "جنز الميت" عندهم، وضع الميت على السرير وصلاة الكاهن عليه. وذكر بعض العلماء ان الجنازة بالكسر، الميت وبالفتح السرير، وذكر بعض آخر العكس. وذهب فريق آخر إلى ان الجنازة الميت نفسه، لذلك لا تكون جنازة حتى يكون ميت، وإلا، فهو سرير أو نعش. فالجنازة على هذا الرأي، الميت محمولا على سرير أو نعش، أو تابوت في الاصطلاح الحديث. وبهذا المعنى يعبّر عن الجنازة في الوقت الحاضر.

وصلاة الجنائز، هي الصلاة التي تقام على جنازة الميت، أي الميت وهو في تابوته، ليرسل إلى القبر، وهي صلاة أقرها الإسلام، وقد أفرد لها باب في كتب الحديث والفقه يعرف ب "كتاب الجنائز".

والعادة عند أكثر الساميين السير بسرعة في الجنازة. فيسرع المشيعّون الذين يسيرون مع الجنازة إلى موضع القبر في مشيهم للوصول بالجنازة بسرعة اليه. وقد أشير إلى هذه العادة في كتب الحديث. والظاهر ان لطبيعة الجو دخل في ظهور هذه العادة.

ويقال لتهيئة الميت ودفنه في القبر "تجهيز الميت". ويقوم الأبناء والأقرباء بوضعه في لحده. وإذا كان الميت عزيزاً كريماً في قومه سيداً رئيساً اشترك الرؤساء في إدخاله القبر، وقد يتنافسون في نيل هذا الشرف، وقد يؤدي هذا التنافس إلى وقوع الشر بين المتنافسين، لأن تجهيز الميت ووضعه في لحده من علامات تقدير الميت وتعظيمه، ومن دلائل قرب من دخل القبر من الميت واتصالهم الوثيق به.

ويقال للميت عند وضعه في قبره: "لا تبعد"، أي انه وان ذهب عنهم سيكون دائماً معهم وفي قلوبهم. ولعل هذا التفكير هو الذي حملهم على إخراج حصته مما كانوا يأكلونه ويشربونه يسموّنها بأسم الميت، وعلى زيارة قبور الموتى والجلوس عندهم وضرب الخيام حولها، وعلى مناجاة صاحب القبر بذكر اسمه وتحيته، لأن روح الميت في رأيهم حية لا تموت. ولهذا السبب أيضاً كانوا يسقونها بصب شيء من الماء على القبر، كما كانوا ينضحونه بالدم. وبهذا المعنى يفسر ما ورد في الشعر وفي النثر من سقي الغمام للقبر، ونزوله عليه، وما ورد من شرب الخمر على القبر وسكب بعضه عليه. وقد كان العبرانيون يخرجون حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى. ويذكر أهل الأخبار ان الناس كانوا يسكبون الخمر على قبر "الأعشى" ب "منفوحة" اليمامة، وذلك لولعه بها وتقديراً لذكراه.

ويدفن بعض العرب الميت بملابسه، ويغلى رأسه. ويكفن بعضهم موتاهم ويدفنونهم مكفنين. ويذكر علماء اللغة ان من أسماء الكفن الجنن، واستشهدوا على ذلك ببيت للأعشى. وفي الحديث: "ان ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بالصبر، لئلا يجيفوا وينتنوا. يضعون الحنوط في أكفان الميت".كما وردت كلمة "أكفَاني" في بيت لامرىء القيس، مما يدل على معرفة الجاهليين للكفن. وقد كان قدماء العبرانيين يدفنون موتاهم بملابسهم التي كانوا يستعملونها، أي كما كان يفعل قدماء الجاهليين، ثم كفن المتأخرون منهم موتاهم بكفن مكوّن من قماش أبيض مصنوع على الأكثر من الكتان على هيأة البرد اليماني يلف على جسم الميت، وربطوا الرأس بمناديل، كما ربطوا يدي الميت وقدميه برباط خاص، على النسق الذي أقر في الإسلام.

ويظهر من الأخبار الواردة عن تكفين رسول اللّه، أن أهل مكة أو الحجاز عامة كانوا يفضلون الأكفان السحولية، وهي أثواب بيض سحولية من كرسف، اي من قطن. وقد نسجت في "سحول"، وهي قرية باليمن منها هذه الثياب. وقد كره الإسلام تكفين الموتى بالمصيغّات وغيرها من ثياب الزينة، كما كره التكفين بالحرير، بل حرم بعض العلماء التكفين فيه. وقد كان أغنياء الجاهلية يكفنون موتاهم بالألبسة الغالية، مبالغة منهم في تقديرهم لمنزلة ميتهم عندهم.

وقد ذكر "اليعقوبي"، أن "عبد المطلب" لفّ في حلتين يمانيتين ثمينتين وكانت البرود اليمانية مفضلة على غيرها في التكفين. وذكر أنه كان من المستحسن عندهم الإحسان في الكفن. ورويت أحاديثَ في تحسين الكفن. منها:" إذا كفنّ أحدكم أخاه، فليحسن كفنه".

وذكر أن "التحسيب"، بمعنى التكفين وان لفظة "محسب" بمعنى مكفن. وذكر ايضاً التحسيب دفن الميت بالحجارة.

عند وضع الميت في قبره يقوم من يذكر محاسنه وأعماله، ثم يظهر حزنه وحزن الناس لفراقه، ويقال لذلك "الصلاة". وقد أطلق الإسلام على هذه وعلى الندب والأعمال الأخرى "دعوى الجاهلية"، ونهى عنها.

ويوارى الميت في حفرته ثم يهال التراب عليه. وإذا كان الميت من أصحاب الاسم والجاه فقد يجصص قبره ويبنى عليه، ويكتب على قبره اسم صاحبه وما يناسب المقام. وكثيراً ما نسمع بنحر الإبل أو عقرها على الفور لتبتل بدماء الإبل. ولا سيما إذا كان الهالك من سادات القبائل والأجواد. وإذا حلقت النساء شعورهن حزناً على الميت، وضعن شعورهن على القبر.

وقد اختلف العلماء في سبب عقرهم للابل على القبور، فقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف. وقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك اعظاماً للميت كما كانوا يذبحون للاصنام. وزعم بعض آخر أنهم انما كانوا يفعلون ذلك، لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها. وقيل ان الإبل أنفس اموالهم، فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليه لعظم المصيبة، وقد نهى الإسلام ذلك بحديث: " لا عقر في الإسلام ".

وإذا وضع الميت في لحده، أهالوا التراب عليه، وقد ينظم الشعراء شعراً لهذه المناسبة ينشدونه على القبر اظهاراً لحزنهم ولحزن الناس على فراقه.

وطريقة دفن الميت هي العادة الشائعة المعروفة بين الجاهليين، غير أن هناك من كان يوصي بحرق جثته وذرّ رماده في الهواء، أو بدفن الرماد في الأرض، وطريقة حرق الموتى ليست من العادات السامية أي من العادات المنتشرة بين الساميين إذ يرون أنها تنافي حرمة الميت وأحكام الآلهة. وكانوا إذا سَبوا شخصاً أو أرادوا به سوءاً دعوا له بالحرق، أو قالوا له يا ابن المحروق.

وقد وجد من فحص القبور التي عثر عليها خارج أسوار "مأرب" أن من الموتى من دفن على هيأة انسان نائم أي وضع متمدداً في لحده، كما نفعل في موتانا وأن بعضهم لم يدفن على وفق هذه الطريقة، ولكن دفن قائماً. وقد عثر في بعض هذه القبور على كتابات قصيرة، كما عثر فيها على رؤوس منحوته دفنت مع الميت، لعلها ترمز إلى رمز ديني، أو عقيدة من عقائدهم في الموت، أو تمثل الميت نفسه لتكون شاهداً عليه.

ولم نعثر على جثث في جزيرة العرب محنّطة على طريقة المصريين،والذي نعرفه الآن ان الجاهليين كانوا يضعون الحنوط في أكفان الميت وملابسه ليطيب به جسمه وليحفظه مدة طويلة. ويظهر من التفسير الذي يرويه علء اللغة لجملة "عطر منشم" الواردة في شعر "زهير بن أبي سلمى"، ان "خزاعة" وربما غيرها كانت تشترى "الكافور" لموتاها. وقد كانت قريش تضع الكافور مع الميت، وهي عادة استمرت في الإسلام أيضاً.

ويقال: إن منشماً امرأة كانت تبيع الحنوط في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقوا بينهم عطر منشم، يراد طيب الموتى، مما يدل على ان تطييب الميت عادة جاهلة قديمة، ويقال لطيب الموتى الحنوط. وقد طرح المسك على عبد المطلب لتطييبه، "وكل ما يطيب به الميت من ذريرة أو مسك أو عنبر أو كافور هو قصب هندي أو صندل مدقوق، فهو كله حنوط".

وقيل ان منشماً، هي ابنة "الوجيه" العطارة بمكة من حمير، وقيل من همدان، وقيل من خزاعة وقيل من جرهم. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال وتطيبوا بطيبها كثرت القتلى فيما بينهم. وذكر انهم كانوا إذا قصدوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا. وقال "الكلبي": " جرهمية. وكانت جرهم إذا خرجت لقتال خزاعة خرجت معهم فطيبتهم فلا يتطيب بطيبها أحد إلا قاتل حتى يقتل أو يجرح. وقيل امرأة كانت صنعت طيباً تطيب به زوجها، ثم انها صادقت رجلاً وطيبته بطيبها، فلقيه زوجها فشم ريح طيبها عليه فقتله. فأقتتل الحيان من أجله. قال الكلبي: ومن قال منشم بفتح الشين فهي امرأة كانت تنتجع العرب تبيعهم عطرها فأغار عليها قوم من العرب فأخذوا عطرها، فبلغ ذلك قومها فاستأصلوا كل من شمّوا عليه ريح عطرها. وقد ضرب بها المثل في الشر، فقالوا: أشأم من عطر منشم".

وورد أن "المنشم" عطر شاق الدق أوشيء يكون في قرون السنبل، يسميه العطّارون "روقا". وهو سم سوعة. وقيل: ثمرة سوداء منتنة الريح، أو حبّ البلسان.

ويجعل الحنوط في مرافق الميت وفي بطنه وفي مربع رجليه ومآبضه ورُفْغَيهْ وعينيه وأنفه وأذنيه. يجعل يابساً.

ونظراً لوجود لفظة "حنط" في العربية في المعنى الذي نفهمه من التحنيط، أي حفظ الجسد، ولاستعمال الجاهلين "الحنوط" في تجهيز موتاهم، وهي موإد عطرةْ ذات رائحة طيبة ولورود اللفظة في العبرانية وفي السريانية "حونطو"، نرى أن نوعاَ من التحنيط كان معروفا عند الساميين. وان لم يكن بالشكل الذي كان عند المضربين. ولا يستبعد أن يكون اهل الجاهلية قد مارسوا التحنيط ايضاً، وذلك بالنسبة إلى أغنيائهم واصحاب الثراء منهم. ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه اهل الأخبار من عثور الجاهليين وبعض الإسلامين على جثث عادية كانت محافظة على هيأتها حتى انها تبدو وكأنها دفنت بالأمس، وما رووه من عثورهم على نفائس وأواني وكتابات، إلى جانب تلك الجثث. مما يبعث على الظن بان تلك الجثث كانت محنطة بطريقة ما.

ولم تستعمل التوابيت المصنوعة من الحجارة في نجد والحجاز. أما في يطرا وتدمر فقد اتخذت التوابيت المصنوعة من الحجر والنواويس.

والتابوت، هو الصندوق الذي يوضع فيه الميت. ويصنع من الخشب والحجر. أو من مواد أخرى. وهو "تبا" فىِ العبرانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة، ان "التابوه" لغة في التابوت، والتابوت في الأصل "صندوق من الخشب وقد أشير اليه في القرآن الكريم ".

وقد عرف العرب لفظة أخرى استعملوها في معنى"التابوت" هي لفظه "إران"، ويراد بها صندوق من خشب يوضع الميت فيه. وقد ذكر بعض علماء اللغة ان ان الإران تابوت يضع النصارى فيه أمواتهم ويدفنونه مع الميت. واللفظة عبرانية، وقد وردت جملة "حمل على الإران"، أي حمل في التابوت. وذكر علماء اللغة ان "الإران" الجنازة، وخشب يشدّ بعضه إلى بعض تحمل فيه الموتى، وسرير الموتى، وتابوت الموتى.

والعادة ان تذكر مناقب الميت عند قبره في أثناء الاحتفال بدفنه إذا كان عظيماً سيداً، وأن يعجل بدفنه في مقبرة القبيلة أو القرية أو في بيته. وقد كان من عادتهم دفن الميت في البيوت أو على مقربة منها. أما الأعراب،فقد كانوا يدفنون موتاهم في المنازل التي يكونون فيها، وإذا كانوا في أثناء رحيلهم دفنوهم على قارعة الطرق ولا سيما على المرتفعات المشرفة عليها.

ويعجل العرب بدفن موتاهم. والتعجيل بدفن الميت من الضرورات التي اقتضتها طبيعة الجو. فجو جزيرة العرب لا يساعد على بقاء جسد الميت مدة طويلة، وإلا تعرّض للفساد، ولحق الأذى به ولهذا صار من الاستحباب التعجبل بدفن الميت ليس في العرف حسب، بل من الناحية الدينية كذلك.

ويحلق بعض الجاهليين شعر الرأس كله أو بعضه ويرمونه على القبر. وحلق شعر الرأس أو جزّ الناصية أو حلقها أو حلق الضفيرتين من التقاليد القديمة. وكانوا يقومون بذلك إكراهاً وتعظيماً لشأن الأرباب، وعند الحج إلى بيوت الآلهة، فيرمون يالشعر أمام الأصنام تعظيماً لها وبياناً عن مقدار احترامهم لها حتى ضحّوا بأعز رمز لديهم في سبيلها، ولهذا كان لرمي ضفائر شعر الرأس عند القبر أهمية خاصة في نظر الجاهليين.

وكان في روع الأمم القديمة ان الشعر للفرد قوة وحياة، فحلقه أو جزّ جزء منه، معناه تضحية كبيرة وصلة تربط الميت بالحي.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق