970
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي والخمسون
فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح
الأتراح والأحزان
وإذ كنت قد تحدثت عن ألأفراح في جياة الإنسان، وما كان يفعله أهل الجاهلية فيها، فلا بد لي من الحديث هنا عن الأتراح والأحزان عندهم، وما كانوا يفعلونه عند نزول مصيبة بهم أو وقوع حادث محزن مفجع لهم، فأقول: يلعب الحزن دوراً كبيراً في حياة الشرقيين، بل نستطيع أن نقول إن الحزن أظهر في حياتهم من الفرح وأن المبالغة في إظهاره عندهم هي من المظاهر البارزة في مجتمعاتهم. وطالما يلجأ الحزين إلى المبالغة في حزنه، ليظهر نفسه وكأنه كان أكثر الناس تحملاً للمصائب والأهوأل والنكبات: وما قصة "أيوب" الواردة في التوراة إلا نوعاً من هذا القصص: قصص الحزن وتحمل الصبر من شدة البلاء.
وفقدان المال بعد ثراء وغنى وجاه والعلل والأسقام التي تنزل بالانسان، والكوارث والموت وأمثال ذلك، هي مما يثير الحزن والأشجان في النفس، فتجعل الإنسان يحزن على ما أصابه ويظهر جزعه أو تحمله للالام أمام الناس، وذلك بمختلف أساليب التعبير عن الحزن الذي نزل بالحزين.
والحزن: الهمّ. وقيل: خلاف السرور. وقد فرّ ق بعضهم بين الهمّ الحزن. وقال بعض علماء اللغة: الحزن: الغمّ الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي ويضاده الفرح. وقد سمى رسول اللّه العام الذي ماتت فيه "خديجة" وعمه "أبو طالب" "عام الحزن"، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، لمآ أصابه فيه من همّ وغمّ.
وللعرب كَما لغيرهم من الشعوب مصطلحات وتعابير خاصة، يعبرون بها عن آلامهم وأحزانهم وما يجيش في صدورهم من أحزان. منها تعابير يستخدمها المحزون نفسه تعبيراً عن حزنه وآلامه الشديدة، ومنها تعابير بستعمل ألمحزون في الرد على من يتفضل عليه بمواساته للتخفيف عن آلامه،بأن يدعو لهم ويشكرهم على تكليف أنفسمهم مشقة المجيء اليه لمؤاساته أو مشاركتهم له في حزنه. ومنها تعابير يقولها المؤاسون للشخص المحزون للتخفيف عن مصابه وللترويح عنه ولاظهار حزنهم له ومشاركتهم له في أحزانه.
كما أن لهم كما لغيرهم علامات وشعارات يظهرونها للناس لإشعارهم بأنهم مصابون بالام وأحزان، وبحلول نكبات وكوارث بهم. وذلك مثل لبس ألبسة خاصة تكون شعاراً خاصاً بالحزن، وذرّ الرماد أو التراب على الرأس و الوجه بالطين، وترك الشعر ينمو دون حلق ولا إِجراء تعديل فيه أوترك دهنه مدة معينة إظهاراً للحزن على ميت، وما إلى ذلك من علامات، هي ضرورية ولازمة جداً، بالنسبة لمحزون أو للمحزونين والمفجوعين ولأصدقائهم، إذ أن اهمالها وتركها هو في نظرهم عيب ومنقصة على المفجوع وعلى أصدقائه وعلى آله على حد سواء. ثم هي تقاليد لا بد من مراعاتها والمحافظه عليها.
ومن ذلك أيضاً: النداء. وذلك بإعلان شخص عن المصيبة بصوت عال يسمع حتى يشاركه الناس مصيبته أو ليحصل منهم على ما يرجوه من مساعدة.
مثل واسوء صباحاه: في المصيبة التي تقع في آخر الليل وأول النهار. أو أن يعلن عن وفاة كبير وذلك بأن ينادي بصوت عال في الأحياء وفي الاماكن العامة عن موت ذلك الكبير بعبارات مؤثرة وبصوت رخيم. ليكون ذلك معلوماً لأهل المكان، فيتجمعون حول المفجوع ويشاطرونه حزنه ويشتركون في تشييع ألجنازة.
ويعبر عن الكوارث والآفات والمصائب بلفظة "لمت"، في بعض اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة: "كل لمت لمت "، ومعناها من كل ملمة ألمت، أو من كال نازلة نزلت. وفي هذا المعنى أيضاً جملة: "بعد حدثت حدثت"2 أيما بعد حادثة حدثت، أو بعد الحادثة إلتي حدثت، أو بعد الفاجعة التي حدثت.
ويقال لما يصيب الناس من عظيم نوب الدهر: "دواهي الدهر". وإذا نزلت بشخص مصيبة قالوا: "دهته داهية"، وقد يقولون "داهلية دهياء" على سبيل التوكيد والمبالغة. ويقول الشخص: دهيت. وزتمول ما دهاك ? أي ما أصابك.وكل ما أصابك من منكر من وجه المأمن فقد دهاك دهياً.. والدهياء: الداهية من شدائد الأمر.
أخو محافظه، إذا نزلت به دهياء داهية مـن الأزم
والاصطلاح الشائع عن هلاك الإنسان وفقده الحياة هو "الموت". وقد وردت هذه اللفظة في لهجات عربية أخرى، مثل اللهجه الصفوية واللحيانيةْ وهنأك ألفاظ أخرى تؤدي معنى الموت والهلاك. مثل الهلاك والمنايا والاحداث والحمام والأجل و الحتف والقدر والمنون وألزمان والسأم والنحب وغير ذلك. وهي مصطلحات جاهلية، بعضها من المصطلحات القديمة، لها معان أوسع من مصطلحات الموت. ولكن ربط بينها وبين هذا المصطلح لما لها من صلة بهلاك الإنسان وبمصيره،فجعلت تؤدي معنى الموت.
وهلك بمعنى مات. معروف عند أهل اللغة. وقد وردت اللفظة بهذا المعنى في نص النمارة الذي يعود تأريخه الى سنة 328 م. وأما المنية، فالموت كذلك في نظر علماء اللغة، لأن المنى القدر والموت قدر علينا. وأما الحتف، فهو الموت أيضاً، وجمعه حتوف. وهو معنى مجازي جاهلي متأخر. ورد في المثل: "مات حتف أنفه" 0 اي على فراشه من غير ضرب ولا قتل ولا غرق ولا حرق، وخص الأنف لأنهم كانوا يتخيلون أن روح الرجل تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته. وهناك مثل آخر يشبهه وهو "مات حتم فيه" لأن الفم مجرى النفس كذلك.
وترادف لفظة "الميت" و "ميت" لنظة "جنز" في ألعربيات الجنوبية. وذكر علماء العربية ان الجنازة الميت، فهي في معنى لفظة "جنز" ا اَوارسة في المسند.
وقريب من معنى "مات حتف نفسه"، ماورد في بعض النصوص الصفوية من تعبير "رغم مني"، فإنه يريد ان الشخص لم يمت قتلاً، وانما مات رغماً منه، مات بمنيته وبأجله.
و يعبر مصطلح "مات بحد السيف" أو "مات صبراً"، عن معنى ان الوفاة لم تكن طبيعية، وانما كانت قتلاً، إما بضرب عنقه، وإمها بوسائل أخرى من وسائل، التعذيب، صبر عيها ذلك الشخص حتى مات.
وورد: " الموت الأبيض" و "الموت إلأحمر" 0 الأبيض الفجأة، أي ما يأتي فجأة، ولم يكن قبله مرض يغير لونه. والأحمر الموت بالقتل لأجل الدم.
والانتحار، أي قتل الإنسان نفسه، معروف عند الشعوب القديمة، ويكون إما بإزهاق الإنسان روحه باستعمال آلة حادة، مثل، سكين أو خنجر وما شابه ذلك، وإما برمي الشخص نفسه من محل مرتفع، أو بإغراق نفسه، أو بإحراق نفسه بنار، وما إلى ذلك. ويعد من الأعمال الشريرة في الأديان. ويعبّر في العربية ب "قتل نفسه" عن "الانتحار".
ومن الألفاظ التي تعني الموت: القشم. يقال: قشم الرجل قشعاٌ، أي مات. وأم قشعم، فإنها تعني المنية، كما تعتي الحرب والداهية. والحمام،لأنه قضاء الموت وقدره. و "أم اللهيم": يراد بها "الحمى"، ويكنى بها عن الموت، لانها تلتهم كل أحد. وقيل: هي "المنية"، وكنية الموت، لأنها تلتهم كل أحد.
ويعبّر عن الحالات التي يكون فيما المرض قد اشتد بالمريض حتى صار يشرف على الموت بتعابير خاصة مثل: "سكرات الموت" و "الحشرجة" ويراد بها تردد النفسْ.
ويعبّر عن القتل المعجل بالتصص، فيقال مات فلان قصصاً، إذ أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه. ويقال ضربه فأقصصه، أي قتله في مكانه.
وللدهر والحدثان والزمان والقدرصلات قوية بالموت، إذ تنسب اليها إماتة الإنسان. والدهر على الأخص مسؤول في نظر أهل الجاهلية عن قوارع الزمان وحوادثه التى تنزل بالانسان. انه هو المبيد، وهو المهلك، وهو المفقر، فهو اذن بالنسبة إلى الجاهليين رأس كل بلاء. ولكنهم بدلاً من التقرب اليه والتودد له ليبتعد عنهم، وليرأف بحالهم كانوا لا يستطيعون ضبط أعصابهم عند نزول الشدائد بهم، فيسبونه، لذلك ورد ان الرسول نهى عن سب الدهر فقال: "لا تسبوا الدهرَ، فإن الله هو الدهر". وجعل الدهر في الإسلام من أسماء الله الحسنى، وذكر انه ورد في الحديث القدسي: " تؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وانما أنا الدهر ".
والموت في نظر الجاهليين مفارفة الروح للجسد لسبب من الأسباب التي تؤول إلى هلاكه. تخرج الروح من الأنف أو من الفم وذلك في الموت الطبيي وفي موت الفجأة. أما إذا كَان الموت بسبب جرح، فإن الروح تخرج على ما ذكره الأخباريون من الجرح. والروح قد تتحول وتصير طائراً يرفرف فوق قبر الميت يسمى "الهامه" في حالة كون الميت قتيلاً.
واعتقد بعض الجاهليين ان الموت أجل مثبت وأمر معين محتم، وهو لا يأتي إلا في حينه. فإذ! جاء الأجل كان حذر الإنسان وجبنه غير دافع عنه المنية إذا حلت به. وذكر ان أول من قال ذلك "عمرو بن مامة" في شعره. وفي حديث عامر بن فهيرة: والمرء يأتي حتفه من فوقه
ولحنش بن مالك بيت في الحتوف، إذ يقول: فنفسك احرز فإن الحـتـو ف ينبان يالمرء في كل واد
وكامة "الروح" من الكمات المعروفة عند الجاهليين. وقد صورتها بعض الأخبار الإسلامية حفظة على الملئثكة " وجعلت لها وجهاً كوجه الإنسان وجسداً كجسد الملائكة،ولا يمكن رؤيتها كما لا يمكن رؤية الملائكة. بها يعيش الإنسان وبها حياة الانفس. وقد سأل الجاهليون الرسول على ماهية الروح،فنزلت الآية: " يسألونك عن الروح قل: الروج من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم الاّ قليلاً". ويذكر المفسرون أن سائليه هم اليهودْ أو ان اليهود علموا المشركين أن يسألوه عن الروح محاولين بذلك إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد.
ويظهر من تمحيص الأخبار الواردة عن الموت والقبر وأشباه ذلك أن عقيدة الجاهليين ان الروح متصلة بالجسد ملازمة له في أثناء الحياة، فإذا وقع الموت انفصلت عن الجسد وفارقته. ثم اختلفو فيما بينهم في مصير الروح، فمنهم من تصورها وهي ملازمة "قبر صاحبها لا تفارقه، وكأنها لا تريد أن تفارق الجسد الذي كانت مستقرة فيه". فصارت المقابر موضع تجمع الأرواح، ومنهم من ذهب الى هلاكها بهلاك الجسد أو تحولها أرواحاً تسبح في عالم الأرواح. ونجد في حديث "مجاهد" أن "الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك". تفسيراً لرأي بعض الجاهلين في مدة بقاء الروح حول القبر. وهناك أحاديث أخرى يظهر منها ان الروح تلازم القبور فلا تفارقهم.
وهندك كلمة أخرى لها صلة وعلاقة متينة بهذه الكلمة. هي لفظة "النفس". وهي من الكلمات الجاهلية القديمة التي وردت في النصوص، معناها الروح والشخص والذات والجسد. وقد ذكر لها علماء اللغة جملة معان استعملت في الأكثر على سبيل المجاز. ولم يفرق بعض هؤلاء بين الروح وًالنفس. ويظهر من بعض التعابير والجمل التي كان يستعملها الجاهليون مثل "خرجت نفس فلان"و"فاظت نفسه" "فاضت نفسه" أن المراد بالنفس الروح. وقد تصور بعضهم أن النفس الدم، وإنما سمي الدم نفسا لأن النفس تخرج بخروجه. وفي الحديث: " ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه " لا ولبعضهم آراء في التفريق بين الاثنين نشأت في العهد الإسلامي. ولا سيما من ورود استعمال الكلمتين في معان متعددة في القرآن الكريم وفي الحديث.
ويُعدّ "المرض" من جملة الآثام التي تنزلها الآلهةبالإنسان، لخروجه على أوامرها ولعدم أداء ما عليه من واجبات وفروض تجاهها، ومنها الحقوق التي فرضتها عليه، وفي رأسها النذور والصدقات والزكاة التي امرت الآلهة بتقديمها إلى معابدها. ولهذا نجد المريض يتوسل بآلهته لكي تصفح عنه وتعفو عن تقصيره تجاهها، وأن تعيد اليه ما اخذته منه من صحة وعافية في مقابل تقدم نذر لها ووفائه يقيامه بكل ما أمرت به من واجبات تجاهها. وفي المتاحف الخاصة والعامة مئات من الكتابات الجاهلية في هذا المعنى، ومئات أخرىَ،كتبت شكرا وحمداً للالهة، إذ سمعت توسلات عبيدها بأن تمن عليهم بالصحة والعافية، فمنت عليهم ولهذا فإنهم كتبوا كتاباتهم تلك للتعبير عن شكرهم لها، ولمناسبة تقديمهم النذر الذي نذروه لمعابد الالهة.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق