955
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي والخمسون
فقر وغنى وأفراح ؤأَتراح
الوأد
والوأد من ذيول الفقر. وقد جاء ذكره في الاية: "وإذا الموؤودة سُئلت: بأي ذنب قُتِلَتٌ". والوأد على ما يذكر علماء التفسير وأهل الأخبار هو دفن الينات وهنّ أحياء، وذلك خوفاً من العار أو لوجود نقص فيها أو مرض، أو قبح كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العربْ، أو خوفاً من الفقر والجوع، أو مخافة العار والحاجة.
ورجع "القرطبي" أسباب الوأد لخصلتين: "إحداهما، كانوا يقولون إن الملائكة بنات اللّهِ، فألحقوا البنات به. الثانية، إمّا مخافة الحاجة والإملاق وإما خوفاً من السَبي والإسترقاق". وذكر غيره أن سنين شديدة كانت تنزل بالناس تكون قاسية على أكثرهم، ولا سيما على الفقراء، فيأكلون "العِلٌهِز" وهو الوبر بالدم، وذلك من شدة الجوع. فهذا الفقر وهذه الفاقة وذلك الإملاق، كل ذلك حملهم على وأد البنات حذر الوقوع في الغواية، فتلحق السُّبَّة بأهل البنت وبعشيرتها وقبيلتها. وذكر أيضاً أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء واًمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب.
وذكر بعض أهل الأخبار، ان بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكنّ على هذه الصفة. وذكروا ان والد "سودة بنت زهرة" الكاهنة وهي عمة "وهب"، والد "آمنة" أم الرسول، أرسل بها إلى "الحجون" لوأدها، للصفة المذكورة، ثم تركها في قصة يروونها، وصارت كاهنة شهيرة. فسبب الوأد عند هؤلاء، هو هذه العقيدة القائمة على التشاؤم من البنت الزرقاء والشيماء.
ويذكرون انهم كانوا يحفرون حفرة، فإذا ولدت الحامل بنتاً ولم يشأ أهلها الاحتفاظ بها رموا بها في الحفرة، أو انهم كانوا يقولون للأم بأن تهيىء ابنتها للوأد وذلك بتطييبها وتزيينها. فإذا زينت وطيبت، أخذها أبوها إلى حفرة يكون قد احتفرها، فيدفعها فيها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي الحفرة بالأرض. وذكر أيضاً، ان بعضهم كان يغرقها، أو يقوم بذبحها، ليتخلص بهذه الطرق منها.
وذكر ان الرجل منهم كان إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن اراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها احماتها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها اليئر، فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وروي عن ابن عباس انه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها، وإذا ولدت ولداً حبسته. ومنه قول الراجز: سمّيتها إذ ولدت: تـمـوت والقبر صهرٌ ضامن زمّيتُ
الزمّيت الوقور.
وفاعل العمل هو "الوائد" والبنت المدفونة وهي حية "الموؤودة"، والعادة "الوأد".
ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ الوأد إلى ايام "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فيقولون إن "بني تميم" منعوا الملك ضريبة الاتاوة الني كانت عليهم فجرّد الملك حملة عليهم كان اكثر رجالها من بني بكر بن وائل، أوقعت بهم وسبت ذراريهم. فلما ارضوا الملك وكلموه في الذراري، " حكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها،ردّ ت عليه، فاختلفن في الخيار. وكانت فيهن بنت لقيس بن عاصم المنقري،فاختارت سابيها على زوجها، فنذر قيس بن عاصم أن يدسَّ كل بنت تولد في التراب، فوأد بضع عشرة بنتاً. وبصنيع قيس بن عاصم وايجاده هذه السنة نزل القرآن في ذم، وأد البنات. ورجع بعض الأخباريين الوأد إلى قبيلة ربيعة. زعموا أن بنتاً لرئيسها وسيدها وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها: فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيتها، فاختارت بيت آسرها، فغضب رئيس ربيعة لذلك، واستنّ هذه السنة، وقلدته بقية العرب حتى فشت بين القبائل، وهي رواية قريبة في مضمونها وفي فكرتها من الرواية الأولى. والفرق بين الروايتين هو في تسمية القبيلة والأشخاص.
وورد أن "قيس بن عاصم" التميمي، جاء إلى النبي، فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال فأعتق عن كل واحدة منهن بدنة. أو: فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة.
ويذكر الأخباريون أن "الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام". وقبيلة كندة وقيس وهذيل وأسد وبكر ابن وائل من القبائل التي عرف فيها الوأد، وخزاعة، وكنانة، ومضر، واشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الاكفاء فيهن. وذكربعض أهل الأخبار ان الوأد كان في تميم، منهم انتقل الى غيرهم. وقيل: إنه كان في تميم، وقيس، وأسد، وهُذيَلْ، وبكر بن وائل، وهم من مضرْ. فهي عادة تفشت في قبائل مضر خاصة. وقيل إنها كانت في غير مضر كذلك. وذكر انها كانت في ربيعة ومضر، اي في العرب الذين تغلّبت الأعرابية على حياتهم.
وذكر "عكرمة" في تفسير الآية: "قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفهاً بغير علم"، انها نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. كان الرجل يشترط على امرأته، ان تستحي جارية وتئد اخرى. فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: انت عليَّ كظهر امي إن رجعت اليك ولم تئديها، فتخدّ لها في الأرض خدّ اً وترسَل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتَداولنها حتى إذا ابصرته راجعاً دستها في حفرتها ثم سوّت عليها التراب".
اما ان اول من سنّ الوأد في العرب، هو "قيس بن عاصم المنقري"، للسبب المذكور، فدعوى من الدعاوى المألوفة عن اهل الأخبار، وقصة من القصص الذي كانوا يضعونه احياناً حين يقفون عند امر غريب عليهم، ليس لهم علم به، فكانوا يوجدون قصصاً في تفسيره وتعليله، وقفنا على كثير منه. والظاهر ان وأد "قيس" لبنات من بناته، ووجوده في تميم خاصة بعد ان خفّ عند بقية العرب، حمل اصحاب الأخبار على ارجاع اصله واساسه إلى "قيس"، مع انهم يذ كَرون حوادث عن الوأد، مثل ما ذكروه عن "سودة بنت زهرة " الكاهنة، تتقدم في الزمن على "قيس". والوأد عند العرب اقدم منه، وربما يعود الى ما قبل الميلاد. وفي القرآن الكريم: "وإذا بُشر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به. أيمسكه على هون ام يدُسُّه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون". وفي هذه الآية وصف للحالة النفًسية التي كانت تعتور الأب عند إخباره بميلاد بنت له، وشرح لبعض الأسباب التي كانت تحمل الآباء على وأد البنات. ويروى إن بعض الجاهلية يتوارى في حالة الطلق، فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن، وبقي متوارياً ايامأ يدبر ما يصنع أيتركه ويربيه على ذلّ، ام يدسه في التراب، بأن يئده ويدفنه حياً حتى يموت، ام يهلكه بأمر آخر، بأن يلقيه من شاهق. روي ان رجلاً قال: يا رسولَ الله والذي بعثك بالحق ما اجد حلاوة الإسلام منذ اسلمت. وقد كانت لي فيَ الجاهلية بنت وأمرت امرأتي ان تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى وادٍ بجد القعر ألقيتها، فقالت: يا ابتِ قتلتني ! فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال الرسول: ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الأستغفار. وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها.
وقد ذكر العلماء في تفسيرهم: " وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا. وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم، وحرّموا ما رزقهم اللّه إفتراءً على الله. قد ضلوا وماكانوا مهتدين". أن الله " أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفهاً خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم".
قال "القرطبي": "إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر اللهُ عزّ وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفهاً بغيرحجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان لا يزال مغتماً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكَ تكون محزوناً ? فقال: يا رسول اللّه، إني أذنبت ذنباً في الجاهلية فأخاف ألاّ يغفره الله لي وإن أسلمت. فقال له: أخبرني عن ذنبك: فقال: يا رسول اللّه، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليّ امرأتي ان اتركها فتركتها حتى كبرت وادركت، وصارت من اجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي ان ازوجها أو اتركها في الييت بغير زواج.، فقلت للمرأة: إني اريد ان اذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة اقربائي فابعثيها معي، فسُرّت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، واخذت علي المواثيق بألاّ اخونها، فذهبت إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية إني اريد ان أُلقيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا ابت ايش تريد ان تفعل بي ? فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمّية، ثَم التزمتني وجعلت تقول: يا ابت لا تضيع امانة أًمي ! فجعلت مرة انظر في البئر ومرة انظر اليها فأرحمها حتى غَلبنى الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا ابتِ، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى اَلله عليه وسلم واصحابه، وقال: لو امرت ان اعاقب احداً بما فعل في الجاهلية لعاقبتك ".
فالفاقة والحمية واعتقاد بعض منهم ان الملائكة بنات ال له، فيجب إلحاق البنات بالبنات، هي عوامل دفعت بالعرب إلى الوأد. فهي بين عامل اقتصادي نص عليه في القران الكريم، وعامل اجتماعي، هو الحمية، وخشية لحوق العار بالانسان من السبي والغارات وعامل ديني، يرجع إلى رأي في دين. لقد تعرض "قتادة" إلى قوله تعالى: "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم" فقال: "هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء. والفاقة ويغذو كلبه. وقوله: وحرموا ما رزقهم الله... الآية وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحامياً تحكّماً من الشياطين في أموالهم". ولكن أغلب الوأد هو عن العامل الأول، وهو الخشية من العيلة والفقر والإملاق. وهو ما نُصّ عليه في الآيات المتعلقة بالوأد وبقتل الأولاد. وورد أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء. خصوصاً كندة، خوف العار، أو خوف الفقر والإملاق.
ومن النساء من تكون خصبة في ولادة البنات، فيجلب لها هذا الخصب هجر زوجها لها وفراره منها ومن رؤية بناته. يحدثنا الأصمعي أن امرأة ولدت لرجل بنتاً سمتها الذلفاء، فكانت هذه البنت سبباً في هرب الرجل من البيت، فقالت: ما لأبي الذلفاء لا يأتـينـا يظلّ في البيت الذي يلينا?
يحرد أن لانلَدَِ البـنـينـا وإنما نأخذ ما يعـطـينـا
ومثل تلك المرأة المسكينة كثير من النساء هجرهن أزواجهن لكثرة ماكن يلدن لهم من البنات، ولسان حالهن يكرر كلمات أم الذلفاء.
وبمكة جبل يقال له " أبو دلامة " كانت قريش تئد فيه البنات. وذكرأن هذا الجبل يطل على "الحجون". وقيل كان الحجون هو الذي يقال له: أبو دلامة.
وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادهم خشية الإملاق وخوف الفقر. وهم الفقراء من بعض قبائل العرب وفيهم نزلت الآيات: "ولا تقتلوا اولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم، إنّ قتلهم كان خطئاً كبيراً". و "كذلكُ زُينّ لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليرُدوهم وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله، ما فعلوه، فذرهم وما يفترون". و "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم، وحرّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله، قد ضلوا، وما كانوا مهتدين". و " قل: تعالوا اتل ما حرّم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا اولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم". وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو اناثاً مخافة الفقر والفاقة.
وذكر ان المراد من كلمة "اولادكم" البنات، وان المقصود بذلك الوأد.
أي وأد البنات، لا قتل الأبناء. وذهب بعض العلماء إلى ان المراد بها الأولاد ذكوراً كانوا أو اناثاً. "فقد كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن احدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبدالله". فنحن أمام هذه الآيات تجاه موضوعين: وأد البنات وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين. وأد البنات للاسباب المذكورة الواردة في كتب التفسير والحديث، وقتل الأولاد للاسباب المذكورة في تلك الكتب أيضاً، وفي كلتا الحالتين نتيجة واحدة، هي القضاء على حياة انسان.
وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين هو أقل استعمالاً من وأد البنات بكثير. ويظهر انهَ كان عن عامل ديني في الأغلب، كما يتبين ذلك من قصة إقدام عبد المطلب على قتل ابنه عبدالله بسبب النذر الذي أخذه على نفسه على ما جاء في روايات اهل الأخبار.
وهذا العامل هو الذي يفسر ما جاء في التوراة عن اقدام ابراهيم على ذبح ابنه، ويشير الى وجود هذه العادة عند الإسرائيليين. وسبب قلة قتل الأولاد بالقياس إلى وأد البنات أن الولد عنصر مهم في الحياة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية حيث يكون عدة لوالده ولأهله وعشيرته في الحروب، ثم أن أسره في الحروب لا يعد شائناً مثل أسر البنات. والمرأة بالأسر تكون فريسة للآسرين. والمرأة ليست قادرة كالرجل على اعاشة نفسها وغيرها ولا على الغزو، ولذلك صارت البنت هدفأَ للوأد أكثر من الذكر.
وقد تأثر بعض ذوي القلوب الرقيقة من عادة "وأد البنات"، وسعوا لإبطالها. وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. فكان "صعصعة بن ناجية" جدّ الفرزدق الشاعر المعروف، ومن أشراف تميم، يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل. فجاء الإسلام وعنده ثلاثون موؤودة. وذكر أنه فدى اربعمائة جارية، وقيل ثلاثمائة جارية من الجاهلية حتى مجيء الإسلام. وذكر على لسان الفرزدق أنه قال: "أحيا جدّي اثنتين وتسعين موؤودة". وأنه منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميماً تئد وهو يقدر على ذلك. وذكر أنه قال للرسول إنه اشترى "280" موؤودة، دفع عن كل واحدة منهن ناقتين عشراوين وجملاً. وأنه كان لا يسمع بموؤودة يراد وأدها، وهو يتمكن من احيائها، الا جاء والدها ففداها، وأنه سأل قومه في ترك الواًد، فخفف بذلك منه. وعدّ ذلك مكرمة ما سبقه اليها أحد من العرب.
والى "صعصعة بن ناجية"، أشار الشاعر "الفرزدق"، مفتخراً به في شعره، إذ قال: وجدّي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فـلـم يوأد
وله أشعار اخرى في هذا المعنى.
وكان "عمرو بن نفيل" يحيي الموؤودة لأجل الإملاق. يقول للرجل إذا أراد ان يفعل ذلك: لا تفعل ! أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها اليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.
وذكر "القرطبي" في تفسير الاية: "ويجعلون للهِ البنات، سبحانه ولهم ما يشتهون. وإذا بشّر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم" انها "نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أنّ الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون ألحقوا البنات بالبنات". فنسب فعلهم الوأد الى هذه العقيدة.
ولست استبعد ما ذكره اهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهيين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته، وإرضاء الآلهة هي شعيرة من الشعائر الدينية المعروفة. فليس بمستبعد ان الوأد والقتل من بقايا تلك الشعائر، والغريب في الوأد انه يكون بالدفن، بينما العادة في الضحايا التي تقدم إلى الآلهة ان تكون بالذبح أو بالطعن وبأمثال ذلك، كي يسيل الدم من الضحية، والدم هو الغاية من كل ضحية،لأنه الجزء المهم من الضحايا المخصص بالآلهة. وعلى الجملة إن الوأد هو نوع ايضاً من القتل، وذبح الأولاد وتقديمهم قرابين إلى الآلهة Infantcide، عبادة معروفة عند امم اخرى كانت تمارسها لترضي بذلك الآلهة وتجيب مطالبها.
وعدّ من ا الوأد "العز ل"، وهو ان يعتزل الرجل امرأته لئلا تنجب له أولاداً. وقد عرف في الإسلام ب "الوأد الخفي" وب "الوأد الأصغر ".
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: ذلك "الوأد الخفي"، وفي حديث آخر "تلك الموؤودة الصغرى". وقد بحث عنه في كتب الفقه والتفسير. وروي ان رسول الله قال في ناس: " لقد هممت ان أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم في يغيلون اولادهم، ولا يضر اولادهم ذلك في شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك إلوأد الخفي وهو الموؤودة سئلت. والغيلة إذا اتيت إمرأة وهي ترضع ولدها، وكذلك إذا حملت امه وهي ترضعه. وقد جعل الحديث "العزل" عن المرأة بمنزلة الوأد إلا انه خفي، لأن من يعزِل عن امرأته انما يعزل هرباً من الولد. ولذلك سمّاها الموؤودة الصغرى، لأن وأد البنات الأحياء الموؤودة الكبرىْ.
ولم ينفرد العرب بقتل الأولاد وبوأد البنات، بل تجد ذلك عند غيرهم من الشعوب كذلك، مثل المصريين واليونان والرومان وشعوب استرالية، أما العوامل التي حملت اؤلمك الشعوب عليها فهي عديدة،.منها عوامل دينية مثل الإعتقاد بحلول الأرواح، ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر، ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفاً فيقضي عليه الوالدان.
ومن ذيول الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، انتشار اللصويية والاعتداء على أموال الناس، وابتزازها وقطع الطرق وسلب الناس. وما الذي يفعله الفقير والمحتاج ومن له منعة في الجسم وضعف فى شديد في الجيب لاعاشة نفسه وأهله غير اللجوء الى هذه الطرق في الحصول على لقمة العيش، إن لم يجد له وسيلة كسب أخرى ? واللص، هو السارق. وذكر إن اللفظة من لغة طيء وبعض الأنصار. وتقابل Listis في اليونانية، بمعنى السارق. لذالك ذهب البعض الى أنها من هذا الأصل.
ونظراً لتستر اللص في حرفته، وممارسته لها بتكتم وحذر خوفاً من الفضيحة والقبض عليه مارس عمله بالليل في الغالب، حيث يرقد الناس. مارسه بخفة ومهارة، فكنى عنه بكنى منها: "ابن الليل"، و "ابن إلطريق"، لأنه يمارس اللصوصية بالليل وعلى الطرق.
ويقال لمن يسرق الدراهم بين أصابعه "القفاف". يقال: "قف الصيرفي قفوفاً"، بمعنى سرق الدراهم بين أصابعه. وأظن أن هذا الاستعمال استعمال مولد، ولد في الإسلام.
ويعبر عن السطو والاستيلاء عنوة وعن سرقة أموال الناس، بتعابير أخرى في اللغات العربيه الجنوبية، منها "خرط"، بمعنى سرق، و "حلص"، بمعنى سرق ونهب وسلب، وكل ما يؤخذ حيلة وسرقة.
وتعدّ السرقة عيباً عند العرب،لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته. والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة. أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعدّ نقصاً عندهم ولا شيناً ولا يعدّ سرقة، لأن السالب قد استعمل حق القوة، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب. فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة.لذلك فرقوا بين لفظة "سرق" وبين الألفاط الأخرى التي تعني أخذ مال الغير، ولكن من غير تستر ولا تحايل. فقالوا: " السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز، فأخذ مالاً لغيره. فإن أخذه من ظاهر، فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس فإن منع ما في يده، فهو غاصب.
ولم تعد "الغارة" سرقة ولا عملاً مشيناً يلحق الشين والسبة بمن يقوم به. بل افتخر بالغارات وعدّ المكثر منها "مغواراً". لما فيها من جرأة وشجاعة وإقدام وتكون الغارة بالخيل في الغالب، ولذلك قال علم اللغة: " أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل " . وقد عاش قوم على الغارات، كانوا يغيرون على أحياء العرب، ويأخذون ما تقع أيديهم عليه، ومن هؤلاء "عروة بن الورد "، إذ كان يغير بمن معه على أحياء العرب، فيأخذ ما يجده أمامه، ليرزق به نفسه وأصحابه. بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة، وضاقت بهم الدنيا. فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سبباً من أسباب المعيشة والرزق. وذكر أهل الأخبار أسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب ما يحملونه معهم من مال ومتاع.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق