883
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثامن و الأربعون
تغلب
وقد أدت عنجهية "كليب" وغطرسته إلى مقتله، وسبب ذلك على ما يقوله أهل الأخبار إن ناقة كانت للبسوس خالة "جَساّس"، أو إلى "جليلة أخت جسّاس" على رواية، أو إلى رجل إسمه "سعد الجرهمي" واسم الناقة "السراب" كانت قد اختلطت بإبل "كليب" وأخذت ترعى معها، فلما رآها كليب، أنكرها واستعظم أمر دخولها المرعى مع إبله، فرمى ضرعها بسهم فنفرت وهي ترغو. فلما رأت "البسوس"، أو "جليلة" أو رأى "سعد الجرمي" الناقة وقد أصيبت بهم كليب، عز على صاحبها ذلك، أو على صاحبتها حسب اختلاف الروايات، وذهب أو ذهبت كل واحدة منهما إلى "جساس"، صارخاً أو صارخة، وكل منها في جواره وعند فناء بيته، فثار الدم في رأسه، وأخذته العزة، وذهب غاضباً إلى "كليب" ومعه "عمرو بن الحارث" فكنماه، وأظهر جسّاس ما حلّ به من ذل وإهانة برمي "السراب" بالسهم، فلم يبال بهما، فطعنه "جساس" وضربه "عمرو بن الحارث"، فقتل كليب.
وقد أثار مقتل "كليب وائل" هذا حرباً استمرت أربعين سنة على ما بذكره أهل الأخبار عرفت ب "حرب البسوس". وهي في الواقع معارك وغزوات وقعت في أوقات متقطعة وقعت بن "تغلب" و من حالفها وبين "بكر".
أثارها وأشعل نارها "مهلهل" أخو "كليب" أخذاً بثأر أخيه من "بني بكر" قوم "جساس". وأعلنها دون اهتمام لتوسط عقلاء "بكر" بحلّ القضية حلاً سليماً حقناً لدماء الطرفين. بتأدية دية الملوك، وهي ألف ناقة سود المقل، أو إن يأخذوا أحد أبناء "مرة بن ذهل" والد جساس، فيقتلوه بدم "كليب".
وأبت بعض قبائل بكر الدخول في حرب مع "تغلب"، واعتزلت عن "بني شيبان" قوم جساس، ومن هؤلاء "بنو لجيم" و "بنو يشكر". وانسحبت "الحارث بن عباد". وعشائر أخرى. وتولى "مرة بن ذهل" قيادة قومه من "بني شيبان" من بكر فكانت معارك وملاحم ذكر أسماء هي أهل الأخبار. منها "يوم النهى"، وهو أول بوم من أيام حرب البسوس على رواية، ويوم عنيزة، و هو أول يوم من هذه الأيام على رواية أخرى.
ثم وقعت أيام أخرى منها يوم الذنائب، وهو يوم قتل فيه: "شراحبيل بن مرّة بن همام" والحارث بن مرة، وهمام بن مرّة أخو جساس من أمه وأبيه. وعمرو بن سدوس بن شيبان. وهو من بني ذهل بن ثعلبة، وسد بن ضبيعة، وهو من بني قيس بن ثعلبة وآخرون. وقد قيل إن منهم من قتل في أيام أخرى.
ومن بقية الأيام: يوم واردات، ويوم عويرضات، ويوم الحنو ويوم أنيق، ويوم ضرية، ويوم القصيبات، ويوم العصيات، ويوم قضة، وهو يوم التحالق، وفيه حَلَقَ رجال بكر لمتهم، وذلك ليميز البكريون عن غيرهم، إلى غير ذلك من أيام تجد أسماءها في كتب الأخبار والتأريخ والأدب.
وقد توسط رؤساء بكر عند "مهلهل" بأن يوقف القتال، بعد إن سقط القاتل وهو "جسّاس" قتيلاً في معركة من هذه المعارك، يقال إنها معركة "يوم واردات" لكنه لم يقبل وأبى إلا الاستمرار في القتال حتى يشفي نفسه من "بني بكر"، فتدخل "الحارث بن عياد" عندئذ واشترك مع البكريين، وتولى أمر "بني بكر"، ووقعت أيام أخرى أثرت في "بني تغلب". وقد وقع "مهلهل" في يوم "قضة" وهو يوم "تحلاق اللمم" أسيراً في أيدي "الحارث ابن عباد" ولم يكن يعرفه. فسأله الحارث عن مكان "مهلهل" قائلاً له: دلني على عدي بن ربيعة "وهو اسم مهلهل" وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه? قال: نعم. قال: فأنا عدي. فجزَّ ناصيته وتركه. وقال فيه: لهفَ نفسي على عديّ ولم أعرف عديّاً إذ امكـنـتـنـي الـيدان
وورد في بعض الأخبار. إن الذي قتل "جساساً" هو "الهجرس"، وهو ابن كليب، وابن أخت جساس، إذ إن أمه هي "جليلة". وكان جسّاس قد سباه، ثم زوجه ابنته ولكنه أبى إلا إن يقتل خاله، أخذاً منه بدم والده. ويقال، إن جساساً لم يقتل و إنما مات حتف أمه.
وفي هذا الأسر وجز الناصية كانت نهاية زعامة "مهلهل" على قومه، فقد ترك أهله، وفرّ إلى "مذحج"، حيث نزل ب "بني جنب"، فخطبوا إليه ابنته وقبل أخته فمنعهم، فأجروه على تزويجها، وساقوا إليه جلوداً من أدم. وكان قد كبر وتقدم في السن وضعف حاله فجاءه أجله بعد مدة غير طويلة، ويقال إنْ عبدين من عبيده اشتراهما "مهلهل" ليغزوان معه، سبأ منه، فلما كانا معه بموضع قفر أجمعا على قتله، فقتلاه، وبذلك انتهت حياته، وحياة حرب البسوس.
ويذكر أهل الأخبار إن العرب صارت تضرب المثل في شؤم "البسوس" وفي شؤم "سراب"، فقالت "أشأم من البسوس" و "اشأم من سراب".
وقد أقحم الرواة شعراً في قصصهم عن هذه الحرب، وذلك على عادتهم في رواية أخبار الأيام، وهو لا يخلو من أثر الإثارة والعواطف القبلية. ونجد في الشعر المنسوب إلى البسوس تحريضاً أثار جسّاساً حتى دفعه على قتل " كليب" دون أن يفكر في سوء عاقبة ذلك القتل. ويعرف هذا النوع من الشعر ب "الموثبات". وهو من شعر التحريض. ومن هذا النوع الشعر الذي تقوله النساء في ندب الموتى لإثارة شجون الحاضرين.
ويعد "مهلهل" في جملة فرسان العرب الشجعان المعروفين. كما يعدّ في جملة الشعراء المتقدمين. لقب ب "مهلهل"، لأنه أول من رقق الشعر، أو لقوله: لما توغل في الكراع هجينـهـم هلهلت أثأر مالكاً أو صنبلا فتدبر
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق