868
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع و الأربعون
المدح والهجاء
وللمدح وللهجاء شأن كبير عند الجاهليين إذ كان الجاهليون يقيمون وزناً كبيراً للقيم المعنوية. فربّ مدح يخلد الممدوح ويبقي ذكره، ورب هجاء يغض من شأن المهجو ويحط من اسمه ونحن هذا اليوم نقرأ ما ورد عنهم من المدح، ونسمع أسماء الممسوحين وما حصلوا عليه من جاه وفخر بين الناس، ونقرأ ما ورد في ذم أناس وما قيل فيهم من ذمّ و قذع. ولولا الأهمية التي أعطاها الماضون للمدح وللهجاء لما بقي الذم والمديح حتى اليوم.
ومن أَسباب المدح سخاء الممدوح أو شهامته ونجدته وشجاعته وعفته وحلمه وصبره وتضحيته وما إلى ذلك من صفات وخلال حميدة. فكان إذا جاءه ضيف يعرفه أو لا يعرفه قدم إليه واجب الضيافة، وبالغ في إكرامه وان كان فقيراً لا يملك شيئاً. ويقسمه على نفسه وعلى أهله، لأن الضيافة حق وواجب، و على من يقصدَ الضيافة أداء هذا الواجب.
وقد كان الملوك يهبون على المدح ويثيبون المادح على قدر ما جاء في مدحهم لهم من تفن في المدح ومن إطراء زائد ومبالغة في المدح. ولما دخل "النابغة الذبياني" على "النعمان بن المنذر"، وحياه بتحية الملوك، ثم مضى مسترسلا في مدحه، تهلل وجه النعمان سروراً، وأمر إن يقدم له الدرّ، و "كُسيَ أثواب الرضى. وكانت ُجبات أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النعمان: هكذا فليمدح الملوك". وفي كتب الأدب والأخبار أشعار قيل عن كل شعر منها "إنها أمدح بيت قالته العرب". وفيها مبالغات وغلوّ في المدح، تجعل الممدوح شمس والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب. وأمثال ذلك.
و هذا الشعر وشعر الفخر وأمثالهما، يجب إن يكونا موضوعين لدراسات نفسية، لأنهما يمثلان أعمق الأحاسيس النفسية للعرب، ويتحدثان عن المواطن الرقيقة عند العرب، التي تهتز أوتارها بسرعة عند سماعها هذا النوع من المدح. والنواحي العاطفية التي يمكن منها التأثير في العرب. ونحن لا نستطيع بالطبع، إن نأخذ هذا الفخر أو ذاك المدح على انهما يمثلان الواقع و يمثلان الممدوح تمام التمثيل. أو انهما تعبير عن نفس صادقة مخلصة في كل ما قالته أو نظمته. فنحن نعلم إن من الشعراء من يمدح للعطاء ويهجو إذا حرم منه وان الممدوح إذا قطع عطاءه عن الشاعر، كفَّ الشاعر عن مدحه، وربما انقلب عليه فيغسل كل ما قاله في مدحه له، بشعر يشتمه فيه بأبشع أنواع الشتم وأمضه. فشعر مثل هذا، وان كنا نرويه ونتحدث عنه ونحفظه، ولكنا نرويه ونستلذ بروايته، لأنه لذيذ من ناحية الأدب، ولأنه شعر قديم يمثل ضرباً من ضروب الحياة في ذلك الوقت.
وقد يمدح الشخص بنعته بنعوت مشرفة، مثل "فلان أبيض أ و "قوم بيض"، و "البيض المناجيد" وهم لا يريدون من اللفظة بياض البشرة، و إنما يريدون المدح بالكرم ونقاء العرض من الدنس والعيوب. وقد ينعت قوم بالخضرة، ويريدون بذلك إن المنعوتين قوم عرب خلص. والأخضر بمعنى الأسود، والعرب تسمى. الأسود أخضر، يريدون بذلك سواد الجلد، والمراد بسواد الجلد انهم عرب خلص.
و يمدح المحافظون على الوفاء بالعهد والمتمسكون بالودّ، والمحامون على عوراتهم الذابّون عنها. ويعبر عنهم ب "أهل الحفاظ".
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق