839
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السادس و الأربعون
أنساب القبائل
تحدثت في مواضع متعددة من هذا الكتاب عن تقسيم القبائل العربية المألوف عند الأخباريين. أما الحديث في هذا الفصل، فهو عن أثر القبائل العربية في الجاهلية المتصلة بالإسلام. وبعبارة أخرى القبائل العربية التي كانت في القرن السادس للميلاد. ويضيق بنا هذا الفصل لو أردنا الكلام على جميع القبائل وبطونها وأفخاذها وعمائرها، لذلك سأكتفي في هذا الفصل بذكر القبائل الكبرى و بالإشارة إلى بطونها إن كانت مهمة. وفي كتب الأخباريين والمؤلفات المدونة في الأنساب الكفاية لمن طلب المزيد.
والتصنيف المألوف للقبائل هو حاصل عرف جرى عليه النَسّابون، ولا نعرف تدويناً لأهل الجاهلية للأنساب، إنما نعرف إن أول تدوين رسمي كان هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث ظهرت الحاجة إلى التسجيل، فسجلت. ولم تصل ويا للأسف سجلات ذلك الديوان إلينا، ولم يصرح أحد من النسابين انه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. و إنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى هذا التقسيم اعتمد المعنيّون بهذا الموضوع.
و إذا غضضنا الطرف عن التصنيف المتبع في حصر أنساب العرب كلها في أصلين أساسيين قحطان وعدنان، فاننا نرى القبائل كما يفهم من روايات الأخباريين كتلاً، ترجع كل كتلة منها نسبها إلى جدّ قديم تزعم إن قبائلها انحدرت من صلبه. وقد تحدثت مراراً عن طبيعة هؤلاء الأجداد.
ومن هذه الكتل التي كانت عند ظهور الإسلام، كتلة حمير، وكتلة كهلان، وكتلة قضاعة، وكتلة مضر، وكتلة ربيعة. وكل كتلة مجموعة قبائل كبيرة، ترجع في عصبيتها إلى تلك الكتلة.
أما حمير، فقد تحدثت عنها سابقاً، وأشرت إلى ورود اسمها لدى بعض الكتبة الكلاسيكيين مثل "سترابون" والمؤرخ "بلينيوس" وذلك في أثناء كلامه
على حملة "أوليوس غالوس" حيث عدّها من أشهر القبائل العربية التي كانت في اليمن إذ ذاك، كما أشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند التي يعود تأريخها إلى ما بعد الميلاد، وهو اسم أرض معينة واسم شعب. أما الذي نفهمه من الأخباريين، فهو إن حمير اسم واسع يشمل قبائل قحطان عند ظهور الإسلام. وقد يكون مرد ذلك إلى ظهور هذه القبيلة في هذا الزمن وبروزها في هذا العهد في اليمن، فانتمى إليها كثير من القبائل على العادة الجارية في الانتماء إلى المشاهير.
ويرجع النسابون نسب حمير إلى حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب، ويقولون إن اسمه "العرنج" "العرنجج"، وهو في نظرهم والد جملة أولاد، جعلهم بعضهم شعة، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل و "مشروح" مسروح، ومعد يكرب، وأوس، ومرة. وجعلهم بعض آخر أقل من ذلك، أو أكثر عدداً.
و هم أنفسهم أجداد قبائل حمير. ومن نسل هؤلاء: بنو مرة، وهم في حضرموت، والأملوك، و بنو خيران، وذو رعن، و بنو هوزن، و الأوزاع، وبنو شعبان، وبنو عبد شمس، وبنو شرعب، وزيد الجمهور. وبنو الصوّار، و أكثر قبائل حمير منهم. وقد كان الملك فيهم وبقي إلى مبعث الرسول. ومنهم الحارث الرائش الذي غزا - على زعم الأخبارين - الأعاجم والروم، وعرف ب "ملك الأملاك"، وحملت إليه الهدايا من أرض الصين وبلاد الترك والهند، وملك الأرض بأسرها، و أدت إليه جميع الناس الخراج. وقد جعلوا مدة حكمه خمسا وعشرين و مئة سنة، وهي مدة لا أدري كيف اكتفى بها أصحاب الأخبار الذين اعتادوا منح العمر الطويل لملوك هم أقل شأناً ودرجة بكثير من هذا الملك المظفر السعيد.
ويظهر لنا من تدقيق منازل القبائل والبطون المنسوبة إلى حمير، إنها كانت في العربية الجنوبية، و إنها بقيت في مواضعها على الغالب في الإسلام. بينما نجد قبائل "كهلان" وبطونها، وهي فرع سبأ الثاني وقد سكنت في مواضع بعيدة عن اليمن. وهي قبائل ضخمة. اضخم من قبائل حمير. ثم إنها كانت تتكلم بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم في الإسلام. أما بطون حمير، فقد كانت تتكلم بلغة ركيكة رديئة غير فصيحة بعيدة عن العربية على حدِّ تعبير الأخباريين، ويظهر إن هذا التباين كان عاملاً مهما في تمييز حمير عن غيرها وفي حشر البطون في جذم حمير. فمن حافظ على لهجته القديمة، وبقي يستعملها، عدّ في هذا الجذم. ولم محافظ على هذه اللهجات إلا الذين بقوا في أماكنهم وفي مواضعهم، ولم يختلطوا بالقبائل الأخرى التي تأثرت لهجتها بلهجة القرآن الكريم.
وحمير عند الأخباريين أبو الملوك التبابعة والاذواء والأقيال، و هو شقيق كهلان أبي الملوك من الأزد من بني جفنة ومن لخم. ويلاحظ انهم قد حصروا حكم اليمن والقبائل القحطانية المقيمة بها في حمير، على حين جعلوا الملك على عرب الشام وعرب العراق ويثرب في أيدي المنتسبين إلى كهلان، أي انهم خصوا الحكم في خارج اليمن بايدي إخوة حمير، فوزعوا الملك في اليمن وفي خارجها بين الأخوين.و حمير في عرفهم هو الابن الأكبر لسبأ، فلعل هذا الكبر هو الذي شفع له إن يكون الوارث لليمن، والحاكم على قبائل قحطان و عدنان فيها. وأخذ مكانة الأب بعد موته والجلوس على عرشه، ميزة لا ينالها إلا الابن البكر، وقد ملك حمير بعد أبيه على حدّ قولهم أكثر من مئة عام.
ويذكر قوم من الأخباريين إن حكم حمير كان للملوك منها، ثم للاقيال. وللقيل هو الذي يخلف الملك في مجلسه، فيجلس في مكانه، ويحكم فلا يرد حكمه. ومن هؤلاء الأقيال على زعممهم المثامنة، "وهم ثمانية رجال كانوا من حمير، وكانوا ملوكاً على قومهم، وهم من تحت أيدي ملوك حمير، وأولادهم قبائل من حمير، ويسمون المثامنة. وكان من شأنهم لا يتملك ملك من حمير إلا بإرادتهم، وان اجتمعوا على عزله عزلوه. وهم: يزن، وسحر، وثعلبان الأكبر، ومرة ذو عثكلان. هؤلاء من أولاد سبأ الأصغر. ومقار بن مالك من أولاد حمير الأصغر، وعلقمة ذو جدن، وذو صرواح".
ويلي الأقيال في الحكم الأذواء، وهم كثرون منهم: ذو فيفان، وذو يهر، وذو يزن، وذو اصبح، وذو الشعبين، وذو حوال، وذو مناخ، وذو يحضب، وذو قينان.
ولما أعاد "عمر بن يوسف بن رسول" مؤلف كتاب "طرفة الأصحاب في
معرفة الأنساب" المتوفى سنة ست وتسعين وستمائة، وهو نفسه ملك من ملوك اليمن، الحديث عن المثامنة، ذكر انهم ثمانية أقيال استقاموا بعد سيف بن ذي يزن، وهم: آل ذي مناخ، وآل ذي يزن، وآل ذي خليل، وآل ذي مقار، وآل ذي عثكلان ؛ وآل ذي ثعلبان، وآل ذي معافر، وآل ذي جدن. وأعظهم آل ذي يزن لخؤولة أسعد الكامل. وهكذا نجده يرجع تأريخ ظهورهم إلى ما بعد أيام سيف بن ذي يزن، ثم يرجعها إلى ما قبل ذلك، ويغير في الأسماء ويبدل. ولكن علينا إن نعلم إن الأخباريين لا يعرفون التواريخ على وجه صحيح مضبوط، ثم انهم يخلقون من الرجل جملة رجال، فخلقوا من أبرهة مثلاً، وقد عرفنا زمانه، جملة أبرهات، وَزَّعوا أيامها في أزمان تبدأ عندهم قبل أيام سليمان بن داوود وتنتهي بأبرهة الحقيقي حاكم اليمن يعد الميلاد. فلا غرابة إن ذكروا أكثر من سيف بن ذي يزن ورجعوا بتاريخ أيامه إلى الوراء.
وكثر من أسماء البطون والقبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى حمير، هي أسماء وردت في نصوص المسند، ومنها أسماء قبائل وبطون حقاً، ولكنها ليست بالطبع على" الشكل الذي يراه الأخباريون، و لا من حمير بال ضرورة. هي أسماء أقوام ولكنها خالية من الآباء والأجداد. أما الآباء و الأجداد، فهي من مولدات المتأخرين منهم، وأغلب ظني إنها من المستحدثات التي ظهرت في الجاهلية المتصلة بالإسلام وفي الإسلام. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد كبير من البطون والقبائل المنتمية إلى حمير، كان لها شأن كبير في تأريخ اليمن في الإسلام. أما في خارجها، فقد أعطى الأخباريون الأدواء الكرى لأبناء كهلان.
وأما "قضاعة" فللنسابين في أصلها آراء، منهم من أرجع نسبها إلى حمير، فجعل نسبها قضاعة بن مالك بن عمرو بنُ مرةّ بن زيد بن حمير. ومنهم من نسبها إلى معد"، فجعل قضاعة الابن البكر لمعدّ، ومنهم من صيرها جذماً مستقلاً مثل جذم قحطان و عدنان. ومرد هذا الاختلاف إلى عوامل سياسية أثرت تأثراً كبيراً في تصنيف الأنساب، ولا سيما في أيام معاوية وابنه يزيد، اللذين بذلا أموالاً جسيمة لرؤساء قضاعة في سبيل حملهم على الانتفاء من اليمن والانتساب إلى معدّ، لكنونها قوة كبيرة في بلاد الشام في ذلك العهد، ولا سيما إن منهم بني كلب، فذكر إن زعماءها وافقوا تجاه هذه المغريات على الانتساب إلى معدّ، غير إن الأكثرية رفضت ذلك، وأبت إلا الانتساب إلى قحطان. ويرى بعض النسابين والمستشرقين إن انتساب قضاعة إلى يمن غير قديم. "قال أبو جعفر بن حبيب النَسّابة: لم تزل قضاعة في الجاهلية والإسلام،. تعرف بمعدّ حتى كانت الفتنة بالشام بين كلب وقيس عيلان أيام مروان بن الحكم. فمالت كلب يومئذ إلى اليمن، فانتمت إلى حمير، استظهاراً منهم بهم إلى قيس. وذكر ابن الأثير في الأنساب هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمد بن سلام البصري النَسّابة لما سئل: أنزار أكثر أم اليمن? فقال: إن تمعددت قضاعة، فنزار أكثر، وان تيمنت، فاليمن". والظاهر إن اختلاط قبائل قضاعة بقبائل قحطان وبقبائل عدنان هو الذي أحدث هذا الارتباك بين أهل الأنساب، فجعلهم ينسبونها تارة إلى قحطان، وأخرى إلى عدنان. تضاف إلى ذلك العوامل السياسية التي يغفل عن إدراكها أهل الأخبار.
ولا استبعد كون قضاعة كتلة من القبائل كانت قائمة بنفسها. قبل الإسلام. ربما كانت حلفاً كبيراً في الأصل، ثم تجزأت وتشتتت، فالتحق قسم منها بمعد، وقسم منها باليمن.
وقد صرح بعض النساّبين المعروفين إن العرب ثلاث جراثيم: نزار، واليمن و قضاعة. فجعل قضاعة جذماً قائماً بذاته مما يشير إلى أهميتها قبل الإسلام وفي الإسلام، خاصةً إذا ما تذكرنا مكانة القبائل المنتمية إليها وأثرها الكبير في السياسة في الجاهلية وبعدها. ولما للنسب من أثر خطير في الميزان السياسي لذلك العهد، خاصة في أيام معاوية وفي دور الفتن التي وقعت في صدر دولة الأمويين، ولثقل هذه الكتلة، كان من المهم لمعاوية اجتذابها إليه، وضمها إلى معدّ وهو منها، لتقوية هذا الحزب.
وكان قضاعة جد القضاعيين الأكبر على رواية أهل الأخبار، مثل سائر أبناء سبأ، مقيماً في اليمن أرض آبائه وأجداده. ولكنه تشاجر مع وائل بن حمير، وتخاصم معه وآثر الهجرة إلى الشَّحر، فذهب إليها، وأقام في هذه الأرض مع أبنائه، وصار ملكاً عليها إلى إن توفي بها، فقبر هناك فصار الملك لابنه "الحاف" "الحافي"، وهو في زعم الأخباريين والد ثلاثة أولاد، هم: عمرو، وعمران، وأسلم. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل قضاعة. وأما أمهم، فبنت غافق بن الشاهد بن عك. فكان من صلب عمرو: حيدان: وبليّ، وبهراء. وكان من عمران ابنه حلوان، وأمه ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معدّ. فولد حلوان: تغلب، وربان، ومزاحا وعمرا وهو سليح، وعابداً وعائذا وقد دخلا في غسان، وتزيد وقد دخل نسله في تنوخ. وكان من نسل اسلم: سد هذيم، وجهينة، ونهد.
وجعل من رجعّ نسب قضاعة إلى معد، الأرض التي أقام فيها قضاعة وأبناؤه جُدّة وما دونها إلى منتهى ذات عرق، إلى حيز الحرم، من السهل والجبل. وبجُدّة ولد جُدّة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وبها سُميّ على قول أصحاب الأخبار.
أما حيدان، فتنسب إلى حيدان بن عمرو بن الحاف، والد مهرة في نظر النسابين، فهو جدّ قبيلة عربية جنوبية على هذا الرأي، وما زال اسم مهرة معروفاً حتى ألان. ولمهرة لغة خاصة، عني بدراستها المستشرقون. وهم من القبائل العربية القديمة التي ورد ذكرها في مؤلفات "الكلاسيكيين". وقد علل بعض العلماء القدماء بعد لغة جمهرة عن العربية بقوله: "مهرة انقطعوا بالشحَّر، فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم، يتكلمون بها إلى هذا اليوم". وذكر ابن حزم لحيدان أولاداً آخرين، هم يزيد، وعُريب، وعربد، وجنادة.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق