إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 5 يناير 2016

838 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون الخلع


838

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

الخلع

ويبقى الفرد متمتعاً بعطف قبيلته عليه، وبحمايتها له ما دام قائماً بواجباته المترتبة عليه، شاعراً بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملاً ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيّه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسراً أعراف آله وقبيلته، فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريداً يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه. الفترة من حياة الإنسان شرّ فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفاً أو جاراً يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له، وبالدفاع عنه.

ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له "الخليع"، ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضاً. وقد يقال له "الرجل اللعين" و "اللعين". واللعين هو المطرود "، ولذلك يقال له "الطريد"، إلى غيرها من مصطلحات.

وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشرّ كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرّئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر.

ولا بد من إعلان خلع أقل "الخليع" أو خلع قبيلته له وترثها منه، ليكون ذلك معلوماً عند أفراد قبيلته أو القبائل الاخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلغ، والا بقيت في رقبة أولياء أمره "وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم انه خلع ابنه، بأن يقول: إلا، أني قد خلعت ابني هذا، فان جَرَّ لم اضمن، وإن جر عليه لم اطلب. أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلاناً، فلا نأخذ أحداً بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها.

وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمع، ينادي فيها. المنادي يخلع من براد خلعه. وكان أقل مكة يكلفون منادياً بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى. صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتاباً يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محلّ عام ليقف عليه الناس.

وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يؤويهم خشية إن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلباً للثأر منهم. ولذلك تكتل الصعاليك أحياناً وكوّنوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان. الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة. ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه، ولذلك سُميّ "عروة الصعاليك". ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر، أعطاه فرساً ورمحاً، وقال له: إن لم تستغن بهما فلا أغناك الله.

والصعلوك الفقر الذي لا مالَ له. ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العدّاء. وهو من العدّائين الذين ضرب بهم المثل في العدو. وكان "حاجز بن عوف بن الحرث"، و هو شاعر جاهليّ مقلّ، أحد الصعاليك العدّائين. كان يعدو على رجليه عدواً يسبق به الخيل. وكان يغير على قبائل العرب. وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان. خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها اياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة جمرها أحد عليه.

ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و "تأبط شرّاً". غير إن اعرفهم وأشهرهم  

وحامل لواء الصعلكة فيهم، هر "عروة بن الورد"، الذي نصب نفسه سيّداً على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه. ويبذل جهده لمواساتهم. فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها، ولهذا نعت ب "عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد، لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة، فيرزقهم بما يغنمه. فعروة لم يكن فقيراً محتاجاً معدماً، كما يفهم من لفظة "صعلوك". لقد كان في وسعه إن يجمع مالا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيا. لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجحّ إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له و استئثاره له وحده، لأن له مروءة تأبى عليه إن ينام شبعاناً وجاره فقير جائع. فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة و ضنك، فأراد إن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه. فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك ابن مروان"، فقال: "ما كنت احب إن أحداً ولدني من العرب إلا عروة بن الورد". فعروة صعلوك فلسف، الصعلكة بأن جعلها مثلاً من مُثل الحياة، بينما كانت تعني فقراً مدقعاً و جوعا قتالاً و هياماً على وجه الأرض للاستجداء.

وقد كوّن الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان تسلب المارة و تغير على أحياء العرب، لترزق نفسها و من يأوي اليها. أنضم اليها الصعاليك من مختلف القبائل. و لكون أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم، و من الذين لا يبالون و لا يخشون أحداً، صاروا قوة خشي منها، و حسب لها حسابٌ. خاصة و فيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء و يتقنون فن ثلب الأعراض، و فيها مقاتلون شجعان لا يعبأون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. و خافهم الناس و امتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم و معاداتهم، و منهم من قبل جوار الصعاليك ورد عنهم و أحسن إليهم فأستفاد منهم و استفادوا منه.

وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حَضَوْضى"، و هو جبل في الجزيرة العربية كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها. و قيل جبل في البحر أو جزيرة فيه، كانت العرب تنفي إليه خلعاءها.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق