إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 5 يناير 2016

837 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون الحرية


837

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

الحرية


والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته على إن لا يؤثر ذلك في حريته الشخصية، وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا انهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم بخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفهرس من استعبادهم، وانما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حرباً على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر.

والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر، وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، انه في سجن لا يطاق لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حراً كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة.

ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد، ومنعت من مساعدة القبائل بعضا بعضاً مع وجود،خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد إنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد.

إن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد آثرت كثيراً في الحياة السياسية و التفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الآهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحاداً مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو إن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة. ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها، لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون انه لا يمتاز عنهم. بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته انه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وان من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفاً ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضت لحكم "ملوك كندة" ضعفاً في إلاسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها، وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكوّن سادات القبائل إمارات عديدة، حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفاً في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة وبين الروم، كانوا يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس.

ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة فإذا ارتحلت عنه، وحلت في ارض أخرى أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه. وأما الأوطان الأخرى، ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. و من هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الأيمان بالقوم أي الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشكل الأرضيين التي يستوطنها ذلك الجنس.

وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة، فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من اعنف أعداء القومية العربية، لا في الجاهلية حسب، بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.

فأهم ما يعوز العرب في الجاهلية الشعور بفكرة "الأمة"، التي تسمو فوق القوميات القبلية، وفوق الإقليميات الضيقة التي هي أيضاً صفحة من صفحات الأنانية. والشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحرياّت الآخرين، وبضرورة إطاعة المجتمع في سبيل المصلحة العامة، و إخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والتحديد من أنانيتهم المفرطة ومن البت في أمور الرعية، وكأن الرعية سَواد من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، دون إن يكون لها سق في إبداء الرأي. فان غلطة الاستبداد بالرأي تؤدي إلى أسوأ العواقب، غير أن الحرية المفرطة، أو الأنانية الشديدة بتعبير أصح، التي كادت تجعل المجتمع فوضى، ضبطتها من ناحية أخرى قوة كبحت جماعها، وحدت من حريتها، وأجبرتها على التقيد بقيود، وعدم التحرك إلا بحد وحسود هي سنة وجوب إطاعة أوامر المجتمع، والاستجابة لنداء الجماعة، و لأحكام رؤساء الأحياء والبطون والأفخاذ، والصيحات التي تصرخها القبيلة أو فروعها لتنادي بنداء، "العصبية". و إلا عدّ الخارج على نداء الجماعة والمخالف لقرار رؤساء الأسرة أو الحي أو القبيلة خارجاً على القانون وعلى العصبية فاستحق بذلك واجب خلعه من عصبية القبيلة له وطرده من قومه. وهو اشد عقاب يفرض على مخالف ما. عقاب: الخلع.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق