إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 5 يناير 2016

829 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون العصبية


829

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

العصبية


وأساس النظام القبلي هو العصبية، العصبية للآهل والعشيرة وسائر متفرعات الشعب أو الجذم أو القبيلة، أو العشيرة. ومن شروطها إن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له إن يتساءل: أهو ظالم أم مظلوم، وهي ضرورية للقبائل، لأنها لا تستطيع إن تدافع عن نفسها إلا إذا كانت ذات عصبية ونسب، وبذلك تشتد شوكتها، ويخشى جانبها، كما انه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مع وجود العصبية. وتقوم العصبية على النسب، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب، ولذلك تجد عصبيات مختلفة. و تقوم العصبية الصرحاء والموالي والجيران.

وتشمل العصبية أهل المدر كذلك، فأهل المدر وإن تحضروا واستقروا و أقاموا في بيوت ثابتة، إلا إن نظامهم الاجتماعي والسياسي بني على العصبية أيضاً، فتألفت المدن والقرى من "شِعاب"، وتكوّنت الشعاب من جماعات بينها روابط دم و وشائج قرابة. والشِعْب هو وحدة، وهو الذي يأخذ حق المظلوم من الظالم، و بظلامة من تقع عليه ظلامة. وغالباً ما تكون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، و إذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبّت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يُرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب، هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة.

وفي المعنى المتقدم من العصبية، ورد قول الشاعر: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظـالـم  على القوم، لم أنصر أخي حين يظلَم

فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته. وهي "النصرة على ذوي القربى وأهل الارحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة".

وفي هذا المعنى أيضاً ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول: قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهـم  طاروا إليه زُرافات ووحدانـا

لا يسألون أخاهم حين يندبـهـم  في النائبات على ما قال برهانا

فهو يهبّ إذا سمع نداء العصبية حاملاً سيفه أو رمحه أو أي سلاح بملكه، وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ? فليس من العصبية والاخوة القبلية أن "تسأل أخاك عماّ وقع له، بل عليك تلبيَة ندائه و تقديم العون له، معتدياً كان أم معتدى عليه.

و العصبية صلة كبيرة بالمسؤولية و بالعقوبات. فعلى درجة العصبية تقع المسؤولية. فأقرب الناس إلى الجاني، يكون أول من يتناوله الأخذ بالثأر، ثم الأبعَد فالأبعد. ومن هنا كان الطالبون للثأر يبدأون بالجاني أولاً. فان فاتهم أخذوا أقرب الناس رحماً به، فان فاتهم أخذوا الذي يليه أو من هو في درجته وهكذا.

وكلما بعدت العصبية عن دم الأبوين، خفت حدتها، وطبيعي ألا تكون العصبية إلى القبيلة مثل العصبية إلى الآهل في الشدة. ولهذا فان العصبية ترتبط بدرجة الدم والتحام النسب ارتباطاً طردياً. وهذا شيء طبيعي، وهو حاصل هذه الحياة.

ولا تمنع العصبية بطون القبيلة من مخاصمة بعضها بعصاً ومن القبائل فيما بينها، بسبب تغلب المصالح الشخصية على عاطفة "العصبية". ومتى اصطدمت المصالح بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور، والحاجة أقوى منها. وهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غريبة عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها و للتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء و تحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب. تقاتلت لظهور مصالح تغلبمت على العصبية و على الشعور بالاخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية من التغلب عليها.

وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته وعلى رأسها الأبوان والاخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد، حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدها. فإذا ما حلّ حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دماً إليه أن يهب لإسعافه والآخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه. ولهذا صارت درجات العصببة متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب.

وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلاٌ. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معدّ أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك، وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر، ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط. لمصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم.

وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل، والوفاء بالعهد، و إلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضاً، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضاً. وبالمطالبة بديات من يُقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل لو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.

وتشمل العصبية كل منتمٍ إلى القبيلة، تشمل أحرارها أي أبناءها الخلصّ الصرحاء، و تشمل الموالي أي الرقيق وكل مملوك تابع لحر، كما تشمل أهل الولاء والجوار. فالعصبية لا تعرف تفريقاً في هذه الناحية، فعلى كل من ينتمي إلى قبيلة ويحمل اسمها أن يتعصب لقبيلته ويذود عنها، وان كان عبداً مملوكاً، ذلك قانون وأمر محتوم، لا جدال فيه ولا نقاش، من حيث وجود حقوق أو عدم وجودها، ومن حيث إن اصل هذا حرّ واصل هذا عبد. لأن ما يصيب الحر يصيب المولى والجار، وما يصيب المولى والجار يؤثر على الحر، لأنه مسؤول عن مولاه وعن جاره بحكم التملك والجوار، وعلى الرقيق والجار تبعة الدفاع عن الصريح وعن القبيلة التي ينتمي إليها الصريح.

وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها وإجابة الصارخ بالعصبية، ليس له إن يسأل عن السبب، ولا إن يعتذر عن تلبية النداء، و إنما عليه إن يعمل بقول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبـهـم  في النائبات على ما قال برهانا

و إذا قتل قتيل لزم الأخذ بثأره، و إذا كان القتيل سيد قبيلة وجب على القبيلة الأخذ بثأر سيدها، وهيهات إن تسكت عن قتله، وعلى كل فرد من أفراد تلك القبيلة واجب الأخذ بثأره ممن قتله.

ويفرض قانون العصبية على القبيلة تحمل التبعة، إذ جعلها تبعة جماعية. فإذا جنى رجل جناية قتل، تكون قبيلته مسؤولة عن جنايته، وعليها تقع تبعة قتل القاتل إذا تعذر الأخذ بالثأر منه أو تعذر تسليم القبيلة له، كما يقع على القبيلة دفع الدية إذا عجز القاتل أو آله عن دفعها، وذلك لتوزيعها على المتمكنين من أفرادها، أو بقيام ساداتها أو سيدها بدفعها كاملة أو يدفع ما تبقى منها.

ومن هنا خضعت فردية الأعرابي المتطرفة لقانون الجماعة، أي لسلطان العصبية فصار واجباً عليه إن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة، وذلك بتلبية ندائها حين يبلغه ذلك النداء، وتقديم نفسه طائعاً مختاراً لإمرة القبيلة ليدافع عنها أو ليشترك معها في الغزو، ليس له إن يفرّ أو يعتزل أو يتلكأ، فهذا واجب مفروض عليه، إذا خالفه خالف جماعته وخسر حمايتها له، وصار مَسْبُوباً من الناس.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق