825
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والأربعون
الأحلاف
إشارة إلى العهود والرهائن التي أخذت من "بني تغلب" و "بني بكر" للوفاء بما توافقوا وتعاهدوا عليه و دَوّنوه من شروط على "المهارق"، أي القراطيس، توكيداً لما اتفقوا عليه مشافهة. وكان الملك "عمرو بن هند"، قد أصلح بين الطرفين بحلف، سميّ حلف ذي المجاز، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن.
ويوثق ما اتفق عليه عن عهود وأحلاف ومواثيق، رؤساء الأطراف المتعاقدة، بأن تدون أسماؤهم وتختم بخواتيمهم، لتكون شهادة بصحة ما اتفق عليه، كما يفعل المتعاهدون على صحة العقد، وعلى صحة الخواتيم، وبأن مي اتفق عليه كان بجضورهم، وبأنهم شهود على كل ذلك.
وفي أخبار أهل الأخبار شواهد تشهد بتدوين الجاهليين لعقود الأحلاف. ورد في شرح "التبريزي" على المعلقات قوله في معرض شرحه لمعلقة "الحارث بن حلزة اليشكري": إن كانت أهواؤكم زيَّنت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينّات فيما علينا وعليكم? وورد إن أهل الجاهلية "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيماً للامر، وتبعيداً من النسيان". وورد في شعر ينسب إلى "درهم بن زيد الأوسي"، ما يفيد بوجود صحف مكتوية بعهود عقدت بين الأوس والخزرج. ووردت إشارة إلى "الصحف": صحف العهود والمواثيق في شعر للشاعر: قيس بن الخطيم.
وروي انه قد كان عند "عمر بن إبراهيم" من ولد "أبرهة بن الصباح" الحبشي المعروف، كتاباً دوّن "الدينوري" صورته، فيه حلف اليمن و ربيعة في حكم الملك "تبع بن ملكيكرب". وقد دون بشهر رجب الأصم. وهو كتاب يظهر انه دوّن في الإسلام، وان واضعه لم يكن له علم بأحوال اليمن في ذلك العهد. على كلّ، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و "بني المطلب" كتبت كتاباً بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر انه حفظ عند "أم الجُلاّس بنتُ مخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر انه علق في جوف الكعبة.
وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر، معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود، منها ة "شهدتم"، و "شهدوا"، و "أشهد" و "تشهد"، و "تشهدون"، و "شاهد"، و "الشهادة"، وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها: )ولا تَكْتموا الشَهادَةَ، ومن يكتمها فإنه آثم قَلْبّهُ".
ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقدم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهراً من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف، لما للخبز والملح من أثر عند العرب. فعلى من يأكل خبز رجل وملحَه إن يمّر به ويوفي له، ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراع حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم.
يتبين مما تقدم إن الحرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين لم، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين، ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور، يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون أصابعهم في الطيب يلطعون أصابعهم أيضاً، وكان الذين يقسمون على الماء المقدس يشربون من ذلك الماء؛ وكان الذين يجرحون أيديهم ويعقدون الحلف يضعون راحتي المتحالفين اليمنى إحداهما فوق الأخرى، إلى آخر ذلك من مظاهر توحي إن المتحالفين لم يكونوا قد فعلوا ذلك عبثاً ومن غير هدف ولا قصد، بل أرادوا من كل ذلك التأثير في المتحالفين وجعلهم يشعرون بأن حلفهم هذا أي قسمهم على التحالف لتنفيذ ما اتفق عليه قد صار جزءاً من جسمهم، وقد حل في دمهم، كما يحل الدم والخبز في دم الجسم.
وتعقد الأحلاف الخطيرة المهمة أمام الأصنام وفي المعابد في الغالب، وذلك كي تكتسب قدسية خاصة. ويشرف على عقدها سادن الصنم، وقد يساعده مساعدون، ليقوموا بمساعدته في إتمام المراسيم.
ويكون بين قبائل الحلف سلم وود، لذلك يستطيع أبناء القبائل المتحالفة المرور بمواطن هذه القبائل غير خائفين، وتمر قوافلهم بأمان لا يُتعرضُ لها، ولا تجبى إلا على وفق ما اتفق عليه وجرت عليه عادة المتحالفين. وعلى أبناء هذه القبائل حماية من يجتاز بأرضهم وتقديم المساعدات له و إضافته ودفع الأذى عنه، و إذا وقع عليه اعتداء من قبائل غربية فعليه مساعدته والذب عنه واستصراخ قومه لنجدته، لأنهم من حلف واحد. وعلى الإنسان إن يتعصب للحلف تعصبه لقبيلته.
ويلاحظ إن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجاً بين قبائل الحلف، قد يتحول إلى النسب. بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف. وينتهي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة، فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة.
ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة" إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فان القبائل المنحلة تنضم إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفاً من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى، وأخذها نسبها. ومن هنا قال "كولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف، فإنها تكوّن القبائل، لأن أكبر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عدداً من القبائل توحدت مصالحها فاتفقت على عقد حلف فيما بينها على نحو ما مر.
وفي كتب الأنساب والأدب أدلة عديدة معروفة على إنهاء أحلاف، مشت بين الناس وفشت وشاعت حتى صارت كأنها نسب من الأنساب. من ذلك "الأحلاف" و "المطيبون". جاء "ابن صفوان" إلى "عبد الله بن عباس"، فقال له: "نعم الإمارة إمارة الأحلاف، كانت لكم" فقال "ابن عباس": "الذي كان قبلها خيراً منّا. كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف" يعني "إمارة عمر". وقيل لعمر: أحلافي، لأنه عَدَويّ. و الأحلاف صار إسماً لهم كما صار الأنصار إسماً للاوس و الخزرج.
وقد أشرت سابقاً إلى اسم "تنوخ". و "، الأحابيش"، حلف عقد عند جبل حبش بأسفل مكة، فعرف المتحالفون به. وهم "بنو المصطلق، والحَيل ابن سعد بن عمرو، م وبنو الهون بن خزيمة"، و ذلك على حدّ قول اكثر أهل الأخبار.
و "الرباب." حلف أيضاً، ضم خمس قبائل، هي: تيم، وعديّ، و عُكْل، ومزينة وضبة، ولكنه سار بين الناس ومشى وكأنه اسم جماعة ترجع إلى نسب واحد. وأما "الأحلاف"، الذين ورد اسمهم في شعر "زهير ابن أبي سلمي"، فهم "أسد" و "غطفان"، و يقال لحلفهما المذكور أيضاً "الحليفان". و "الأحلاف": كذلك قوم من "ثقيف".
لقد تركت الأحلاف أثراً مهما" في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام وعند العرب في الإسلام كذلك، على الرغم من الحديث المنسوب إلى الرسول الذي يناهض الحلف: "لا حلف في الإسلام". وقد أدرك الرسول، ولا شك، ضررها بالمجتمع العربي إذ كانت من أسباب التفريق، فحلّ الأحلاف وأحل الدولة مكانها، وحتم على القبائل إطاعة الرسول أو من يقوم مقامه من المسلمين.
وأما ما رواه "قيس بن عاصم من إن الرسول قال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، فالطاهر انه قصد بذلك الجوار. وقد أكد الإسلام احترام الجار، ووجوب الدفاع عنه، كما أيد الأحلاف الجاهلية التي تدعو إلى الخير ونصرة الحق. أما الممنوع، فما خالف حكم الإسلام، ودعا إلى الهلاك والضرر والفتن والقتال، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام.
واستعمل الجاهليون لفظة "حبل" و "حبال" للعهود والمواثيق. ف "الحبل" هو العهد والذمة والأمان، و هو مثل الجوار. وكان من عادة العرب في الجاهلية إن يخيف بعضهم بعضاً، فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيّد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثل ذلك أيضاً، يريد به الأمان. فهذا حبل الجوار، أي ما دام مجاوراً أرضه. وفي هذا المعنى جاء قول الأعشى: و إذا تجوّزها حبـال قـبـيلة أخذت من الأخرى اليك حبالها
وجاء في الحديث: "بينا وبين القوم حبال"، أي عهود ومواثيق. وفي هذا المعنى، أي العهد والذمة والأمان، جاء: مازلت معتصما بحبل منكُمُ مَن حَلّ ساحتكم بأسبابٍ،نجا
وقد استفادت قريش من "الحبال" التي عقدتها بينها وبين القبائل، إذ أمنت بذلك على تجارتها، وقد كانت واسعة تشمل كل جزيرة العرب، وتتصل بالعراق وببلاد الشام، فصارت قوافلها العامة والخاصة تمر بأمن وسلام من كل مكان بفضل حنكة سادة مكة وذكائهم في تأليف قلوب سادات القبائل وربطهم بهم بعهود ومواثيق، جعلت التحرش بقوافلهم من الأمور الصعبة، و إذا طمع بها طامع أدبه سيد قبيلته الذي يخضع له.
ولقريش ولغيرها أحلاف مع أسر وأفراد. فقد كان ل "بني دارم" من تميم حلف مع "بني عبد مناف" من قريش. وكان ل "عكاشة بن محصن" حلف مع رجال من مكة. روي إن رسول الله قال: "منا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن. فقال ضرار بن الأزور الأسدي ذاك رجل منا يا رسول الله. قال: بل هو منا بالحلف. فجعل حليف القوم منهم. كما جعل ابن أخت القوم منهم". وكان للأخنس بن شريق، وهو رجل من ثقيف، وكذلك "يعلى بن منبه"، وهو رجل من "بلعدويَّة"، وكذلك "خالد ابن عرفطة" وهو رجل من عذرة جلف مع قريش، فصاروا منها بالحلف. ذلك لأن "حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم".
وقد يقع أسير في أسر آسر، فلا يتمكن من فداء نفسه، ثم يطلب من آسره إن يكون حليفاً له، فإذا قبل آسره منه ذلك، صار في حلفه وفي حلف قبيلته. أي يكون ذلك الشخص حليفاً لقبيلة آسره. ويكون حكمه بالنسبة للإرث، إنه يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها. أما إذا قتل، فديته نصف دية الصريح وكان "معيقيب بن أبي فاطمة" حليفاً لبني أسد، وكان يكتب مغانم الرسول.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق