821
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والأربعون
الأحلاف
وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة العهدُ بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمن الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثمُ عُبّر به عن كل يمين. والمحالفة إن يحلف كل للآخر. فمعنى الخلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد و التساعد والاتفاق. وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقاً وعهداً، و تآخوا على العمل يداً واحدةّ، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار، أي آخى بينهم.
وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية، ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا. وكانوا ينظرون إليها على إن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويُعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين. وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد.
و "العهد" بمعنى الحلف أيضاً وقيل: العهد كل ما عوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضاً الموثق واليمين. و لذلك ورد: "على عهد الله" و "أخذت عليه عهد الله"، و "ولي العهد"، لأنه وليّ الميثاق الذي يؤخذ على من يابع الخليفة. وعلى من يعطي العهد الوفاء به: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم". "وما وجدنا لأكثرهم من عهد"، أي من وفاء. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله.
ويرد "الميثاق" بمعنى العهد. و المواثقة المعاهدة. و أما "التواثق"،، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم: )الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق( 7 )فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق(، )والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه(. وقد قال العلماء في الميثاق إنه: عقد مؤكد بيمين وعهد. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"، لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين.
و تكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة.
ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعفى، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلوماً بين الناس، وتتحالف القبائل بعضها مع بعض، ويعلن حلفها هذا ليكون معلوماً عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض.
والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بي نهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية، في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل . وأحلاف لتثبيت نظم و إقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم و إنصاف مظلوم.
وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صدّ غزو سيقع عليها أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو. أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها.ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلاً، إذْ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.
والغالب إن الضعيف هو الذي يبحث عن حليف. يحالفه، ليقَوّي بهذا التحالف نفسه، ويعز به مكانه. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضاً على البلاد والمعاش، واستضعاف القوي للضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز وحالف القليلُ منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالِّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم".
لقد دفعت الضرورات قبائل جزيرة العرب إلى تكوين الأحلاف، للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالح المشتركة كما تفعل الدول. و إذا دام الحلف أمداً، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإنّ هذه الرابطة تنتهي إلى نسب يشعر معه أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جدّ واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا تجد في الجزيرة أحلافاً تتكون، وأحلافاً قديمة تنحل أو تضعف.
لم يكن في مقدور القبائل أو العشائر الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي يشدّ أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عدداً قليلاً من القبائل القوية الكثيرة العدد، و كانت تتفاخر بنفسها، لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بفأرهما وتنال حقها بالسيف. ويشرك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على خلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون انهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. و يقال للحلف "تكلع" عند اليمانيين. "وبه سمّي ذو الكلاع، و هو ملك حميري من ملوك اليمن من الأذواء، و سُميّ ذا الكلاع، لأنهم تكلعوا على يديه أي تجمعوا، و إذا اجتمعت القبائل وتناصرت فقد تكلعت".
ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو محتمل، أو لأجل معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف. وتعدّ هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التاريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة، لذلك نجدها تتألف للمسائل الداخلية التي تخص قبائل جزيرة العرب، ولم تكن موجهة للدفاع عن بلاد العرب ولمقاومة أعداء العرب. و لا يمكن إن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية إن يفعل غير ذلك. فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها، ونزلت بأرض جديدة، كانت الأرض الجديدة هي الموطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادات القبائل ، أصبحت حتى اليوم من أهم العوائق في تكوين الحكومات الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية للأعراب.
وخير مثال للقبائل التي اقتضت مصالحها التكتل والتحالف بينها، هو الحلف الذي قيل له "تنوخ". فقد اجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا وتعاقدوا على التناصر و التساعد والتآزر فصاروا يدا واحدةً، وضمهم اسم "تنوخ". وحلف "فرسان"، وهو حلف آخر قديم تكوّن من انضمام قبائل عديدة بعضها إلى بعض للتناصر والتآزر. ولما لم يعرف أهل الأخبار واللغة شيئاً من تلك الأمور العادية، أوجدوا تلك القصص والأخبار والأنساب المدوّنة عن تنوخ وأمثال تنوخ.
ومن هذا القبيل، الحلف الذي قيل له: "البراجم". وهو من عمرو و ظليم وقيس وكلفة وغالب زعم أهل الأخبار، إن "حارثة بن عمرو بن حنظلة"، قال لهم: أيتها القبائل التي قد ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع ولنكن كبراجم يدي هذه. فقبلوا، فقيل لهم البراجم. وهم يد مع عبد الله بن دارم. فنحن أمام حلفٍ من أحياء قلّ عددها وذهب أمرها، وخافت على نفسها، فلم تجد أمامها من وسيلة للمحافظة على حياتها سوى التحالف، فكان من ذلك حلف البراجم.
وتجد لفظة "الحليفان" للدلالة على تحالف قبيلتين، أو "الأحلاف" تعبيراً عن حلف عقد بين قبيلتين أو أكثر، تتردد في كتب أهل الأنساب والأخبار. وقد قصد بها أحلاف عديدة. فقد قيل لأسد و غطفان "الحليفان"، لأنهما تحالفا وتعاقد" وعقدا حلفاً بينهما على التناصر والتآزر، كما قيل لهما "الأحلاف". و الأحلاف أسد و غطفان. وقيل لقوم من ثقيف: "الأحلاف". والظاهر أنهم. كانوا في الأصل طوائف لم تتمكن من البقاء وحدها في وسط عالم لا يعيش فيه إلا القويّ، فتحالفت للدفاع عن نفسها، ويقال لأسد وطيء "الحليفان" ولِفزَارة وأسد "حليفان"، لأن خزاعة لما أجلت بني أسد عن الحرم، خرجت فحالفت طَيّئاً، ثم حالفت بني فزارة.
ولما تحالفت غطفان وبنو أسد وطيء، قيل لهم: الأحاليف، لعقدهم حلفاً على التناصر والتآزر.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق