798
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والأربعون
الحنين إلى الأوطان
ومع فقر البادية وغلظ معاشها وشحها، فإن الأعرابي يحن إليها، ولا يصبر عن فراقها حتى وان أخذ إلى جنان الريف. قال الجاحظ: "وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف". "واعتل أعرابي في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي? فقال: حسل فلاة، و حسو قلات". ويروى إن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتاً في شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها، خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف"، أي حضري سمين من كثرة الأكل. وانتقل أعرابي من البداوة إلى الحضارة، فرأى المكاء في الحضر، فقال يخاطبه: فارق هذا المكان، فإنه ليس لك فيه الشجر الذي تعشش عليه، و أشفق من إن تمرض كما مرضت.
والعربي الذي ألف الحضارة وأمعن في الترف وتفن في العيش بالمدن، لا يفقه سحر البادية الذي يجلب إليه أهل البادية. لأنه يرى إن كل ما فيها ضيق وجوع وحرّ شمس وفقر. فيسخر من الأعرابي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابياً واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه أجابه جواباً خشناً، مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون. ولم يتأثر منه، لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين. وقد سقط حكم القلم عنه.
ويروي أهل الأخبار حديثاً لكسرى أنوشروان مع وفد وفدَ عليه فيه بعض خطباء العرب. فسألهم عن سبب تفضيلهم السكن بالبادية وعن حياتهم بها وعن طبائعهم إلى غير ذلك من أسئلة وأجوبة دوّنوها على إنها أسئلة كسرى و أجوبة العرب عليها. و فيها أمور مهمة عن حياة الأعراب. وقد يكون الخبر قصة موضوعة، غير إننا لا ننظر إليها من جهة تاريخية، إنما نأخذها مثالاً على ما كان يدور في خلد من صنعها عن نفسية الأعراب وعن نظرة الحضر إلى أهل البوادي.
و للمسعودي كلام في اختيار العرب سكنى البادية وسبب ذلك، كما تحدث عن أثر البوادي في صحة أجسام العرب وفي تكوين أخلاقهم، مما جعلهم يختلفون بذلك عن بقية الناس.
والعرب وإن عرفوا بالترحل والتنقل، بسبب البداوة إلا انهم يحنون إلى أوطانهم، ولا ينسون موطنهم القديم. يستوي في ذلك العربي والأعرابي. وهم يرون إن في الغربة كربة، وان الإنسان إذا صار في غير أهله ناله نصيب من العذل. "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفراً تستنشقه عند نزلةٍ أو زكام أو صداع". "وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظلّه? قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلا فيرفضّ عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى".
وجاء إن "الوليد بن عبد الملك" استظرف أعرابياً فاحتسبه عنده وحباه، فمرض فبعث إليه "الوليد" بالأطباء، وعالجوه، ورأى من الخليفة كل رعاية. لكن هواه بقي في وطنه، ولم يطق على هذه المعيشة الراضية الطيبة صبراً، فهلك بعد قليل. إلى غير ذلك من قصص وشعر ورد في الحنين إلى الأوطان، وفي تفضيل الوطن على كل منزل آخر، ولو كان آية في الجمال ومثالاّ من الراحة و الاطمئنان.
وهو يعجب من لغة أهل الحضر، ولا سيما حضر ريف العراق وريف بلاد الشام. ومن الاكرة الذين لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فكان يجد نفسه و كأنه في سجن مطبق، يريد الخلاص منه. حدث ذلك حتى في الإسلام، وقد ذكر "أبو عمان الجاحظ"، انه رأى أعرابياً، وكان عبداً حبشياً لبني أسيد، وقد صار "ناظوراً"، و كأنه اصيب بمس من الجن، فلما رآه، قال له: لعن الله أرضاً ليس بها عرب.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق