إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 1 يناير 2016

797 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون عبية الجاهلية


797

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

عبية الجاهلية


ولقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن العقلية العربية بصفة عامة: عقلية العرب أي الحضر وعقلية الأعراب. وأعود في هذا الموضع إلى الحديث عن عقلية الأعراب وما رماهم به أهل الحضر من الغلظة والجفاء والجهالة والعنجهية والكبر إلى غير ذلك من نعوت عرفت عند العلماء ب "عبية الجاهلية". وذلك لما هذه العبية من صلة بهذا الموضوع في هذا المكان.

و إذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما روي من قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان على ما يرويه أهل الأخبار. فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلاً بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان النهار حاراً شديد الحرارة. فقال له معاوية: ألق اليّ نعلك، قال: لا، أني لم اكن لألبسها وقد لبستها. قال فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك.: قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك. ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه. فقال: "إن فيه لَعُبَيَّة من عُبَيّة الجاهلية".

و "العُبَيّة" الكبر والفخر. "وعُبيّة الجاهلية: نخوتها. وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عُبَيّة الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكِبَر". وقد وصفت "قريش" و نعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عُبَيّة قريش". وتجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء و بالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاخر، لانها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذمّ عليه.وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهليين.

ونظراً إلى ما للبداوة من فقر و قساوة و غلظ في المعاشى، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شؤن هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة - نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي. فرح بذلك وهشّ له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له. لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن. متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم. فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحدّ، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، و ظهرت الخشونة في كلماتهم، و إذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم. ولهذا قال الحضر: "أعرابي جلف"، أي جاف. وفي الحديث: "من بدا جفا"، أي غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس. وقالوا: "أعرابي قحّ" و "أعرابي قُحاح"، و هو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط بأهلها. و لهذه الخشونة التي خلقتها طبيعة البادية في الأعرابي، وهو لا دخل له بها بالطبع، كما انه لا يشعر بها ولا يرى أن فيه شيئاً منها، كان العرب، إذا تحدثوا عن شخص فيه عنجهية وخشونة، قالوا عنه: فيه أعرابية. كالذي ذكروه مثلاً عن "عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعاً، دخل على النبيّ من غير إذن وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته و أعرابيته". إلى غير ذلك من نعوت تصف الأعرابي بالغلظ والقسوة والأنانية وما شاكل ذلك من نعوت تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهي حاصل هذا المحيط الذي ولد فيه وعاشى، والظروف التي ألمت به، فعزلته عن العالم الخارجي، وأبعدته عن التحسس بتنوع مظاهر الطبيعة وبتغيرها، فلم ير الثلج في حياته وهو يتساقط من السماء. ولم يتعود على رؤية الأمطار وهي تتساقط عليه على نحو ما يقع في عالم أوربة أو في البلاد الحارة ذات الأمطار الموسمية الواضحة، حتى يستفيد منها في استغلال ارضه، ولم تعطه الطبيعة انهاراً ومياهاً جارية، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنا أثناء كلامي على العقلية العربية في الجزء الأول من هذا الكتاب.

و وصف الأعرابي بالجهل، بل بالجهل المطبق. فهو وثني ولكنه لا يفهم شيئاً من أمور الوثنية، وهو نصراني، لكنه نصرانيّ بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئاً، وهو مسلم ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم. ونجد في كتب آهل الأخبار والأدب قصصاً مضحكاً بمثل هذا الجهل الذيُ رمي به الأعراب في بعضه حق وفي بعضه باطل لأنه موضوع حمل عليهم حملا للانتقاص منهم وليكون قصصاً وتفكهةً وتسليةً يتسلى بها الحضر في مجالسهم في أثناء قتلهم للوقت.

وهو حقود، لا يرى إن يغفر ذنب من أساء إليه. بل يظل في نفسه حاقداً عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي: أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك ? فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار".

ويذكر إن الرسول كان يميز بين الأعراب وبين البادية، وهم الذين كانوا ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم. فما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبناً إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله، لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي. وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: ما هذا ? قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبناً، وكنت نهيتنا إن نقبل من أحد من الأعراب شيئاً. فقال رسول الله: خذوها، فان أسلم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا. ويفهم من هذا الخبر، إن الرسول فرّق بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب. وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر. وهم الذين نهى الرسول عن قبول هدية منهم. وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئاً إلا طمعوا في ردَ ما هو أكثر منهم. لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم. وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن الكريم.

فأهل البادية المجاورون للحضر أخف على النفس، من الأعراب، لتأثرهم بحياة الحضر. ولعل منهم من شارك أهل الحضر في التعاطي والتعامل. ونرى آهل الأخبار يروون إن أهل القرى كانوا أصحاب زرع ونخيل وفواكه وخيل وشاءٍ كثير وإبل، يقيم حولهم أناس بادون. كالذي كان حول مكة ويثرب والطائف وقرى الحجاز واليمن وغير ذلك، فان هؤلاء لم يكونوا أعراباً أي بدواً صرفاً، هجروا الحواضر و أقاموا في البوادي البعيدة، بل هم وسط بن الحفر وبين الأعراب. فأخلاقهم ألين من أخلاق الأعراب وطباعهم أرق.. ويمكن الاعتماد عليهم نوعاً ما، بينما لا يمكن الركون إلى قول أعرابي.

وقد بلغ من استعلاء الحضر على أهل البادية، إن الأعراب لما أرادوا التسمّي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا من ذلك، فأعلموا إن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسميّ بها.

والأعراب أهل منة، إذا فعلوا معروفاً بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قسموه له. وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. وهم خشنون إذا تكلّموا رفعوا أصواتهم. وقد وّبخهم القرآن وأنّبهم لفعلهم هذا. فجاء فيه: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقولِ كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسولِ اللهِ أولئك الذين امتحن اللهُ قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم". وأمر المسلمين بالتأدب بأدب الإسلام. فقال: "واقصد في مشيك واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وقد كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون اصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك، يقول تعالى ذكره "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام وتغلظون له في الخطاب".

و كان من خشونتهم و أعرابيتهم إن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى: يا محمد يا محمد? وذكر إن وفداً من "تميم" وفد على رسول الله، فوجده فيّ حجرته، ونادى مناديه:. اخرج إلينا يا محمد? فان مدحنا زين وذمّنا شين. أو: يا محمد ! إن مدحي زين وان شتمي شين. فأنزل الله: )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم. والله غفور رحيم(.

وقد اتهم الأعرابي بماديته المفرطة وبطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد إن في الجانب الثاني حلاوة، وانه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته. حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه و انتهبوا عسكره، و جاؤوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاءً للرسول، فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وان انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول الله. وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية: )قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا(. فهؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النبيّ، صلى الله عليه وسلم، المدينة، طمعاً في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى الأعراب.. و مثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال: )الأعراب أشد كفراً ونفاقاً(. وذكر عن "قتادة" قوله: "قالت الأعراب آمنّا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب. إنّ من الأعراب مَنْ. يؤمن بالله واليوم الاخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب إمتنوا بإسلامهم على نبيّ الله، صل الله عليه وسلم، فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال الله تعالى: )لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا(". "وقال أخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منّوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإسلامهم. فقال الله لنبيّه، صلى الله عليه وسلم، قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل".

ولا يعرف الأعرابي شيئاً غير القوة ولا يخضع إلا لسلطانها. وبموجب هذه النظرة بنى أصول الحق والعدل، وما يتبعهما من حقوق. كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو فخور بنفسه متباه بشجاعته، لكنه لا يصبر إذا طال القتال وجد، ولا يتحمل الوقوف طويلا في ساحة المعركة، لا سيما إذا شعر إن للقتال غبر متوازن، وان أسلحة تصمه أمض و أقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الأدبار، و لا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئاً ولا عيباً. وفي تأريخ معارك الجاهلية ولا سيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وان لا، فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، و خذلوا المسلمين". فروا وهربوا لأنهم وجدوا إن القتال قد طال وانه قتال جد، ولا قبل للقبائل على القتال الطويل للشديد الجد. فاختاروا الهروب دون إن يفكروا، في شدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك. ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم وزناً ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف. إن رأت هواها في القتال قد تغيّر وتحول، وان الأمر في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافهاً وبغير عذر أيضاً. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه. لأنها وجدت إن الربح من هذا الجانب مضمون، وان ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذك بعد مفاوضات سرية تجرى بالطبع. وهذا ما أزعج الروم والفرس، وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم.، فرموهم بالغدر. فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مراراً إن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكاً في جانب من كان يقاتلون معه أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين. وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان و اللاتين.

وهو صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر، وكأنه يسقع بضحكته هذه ضريبة فرضت عليه. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلاّ لا يليق صدوره من إنسان كريم. بقي هذا شأنه حتى في الإسلام. فما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عمد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر-الصديق" قال عنه: "كان امرءاً صالحاً، وقد كانت فيه دعابة". حتى إن من العلماء من عَدّ "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المرومة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلا لأن يؤخذ عنه الحديث. أي جعلوه شخصا غير موثوق به.

و قد بحث "غوستاف لبون" و "رينان" و "الأب لامانس" في عقلية الأعرابي. وما رأوه فيه من وجود "فردية" متطرفة عنده، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء. ثم ما وجدوه فيه في الوقت نفسه من خوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدكه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن نتائج الأخذ بالثأر. كما بحثوا عن ميل الأعرابي إلى المبالغة. المبالغة في كلامه. والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته و بكرمه و بشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. وهو يحب المديح كثيراً، وهو على حدّ قولهم. إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب إن يطرى عليه، لا سيما إذا كان من شاعر وهو صحافي ومذيع ذلك الوقت.

وللفوارق الموجودة بين العرب والأعراب، بين الحضر وبين أهل البوادي رأى "الأزهري" وجوب التفريق بين الاثنين. إذ قال: "والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي والأعرابي، ربما تحامل على العرب، بما يتأوله في هذه الآية. وهو لا يميز بين العرب والأعراب. ولا يجوز إن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، لأنهم استوطنوا القرى القريبة، وسكنوا المدن. سواء منهم الناشئ بالبدو، ثم استوطن القرى و الناشئ بمكة، ثم هاجر إلى المدينة. فان لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعماً ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجرة. قيل: قد تعربوا أي صاروا أعراباً بعد ما كانوا عرباً. وفي الحديث تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي. جعل المهاجر ضدّ الأعرابي. قال والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. وقال أيضاً المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فتكلموا بلسانهم وحكوا هيآتهم وليسوا بصرحاء فيهم. وتعربوا مثل استعربوا". وقد ذهب هذا المذهب "ابن خلدون"، إذ رأى إن الأعراب يختلفون عن العرب. ولذلك فإن ما أشار إليه "ابن خلدون" من إن العرب إذا دخلوا بلداً أسرع إليه الخراب إنما قصد به الأعراب لا العرب الحضر.

ولكي نكون منصفين في الأحكام عادلن غير ظالمين علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب. فما يقال عن الأعراب يجب ألا يتخذ قاعدة عامة تطبق على العرب. لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة وفي النفسية والعقل. ثم علينا لكي نكون منصفين أيضاً إن نفرق بين عرب وعرب. لما أصاب عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم، ومن امتزاج الأعاجم في العرب ودخولهم فيهم واندماجهم بهم حتى صاروا منهم تماماً. والامتزاج والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها، أضف إلى ذلك عوامل البيئة والمحيط. ولهذا يرى المرء تبايناً بيّناً بين عرب كل قطر، تبايناً يلمسه حتى الغريب. فبين أهل العراق وأهل بلاد الشام العرب، تبابين و فروق في الملامح الجسمية وفي المظاهر العقلية والاجتماعية وغيرها، مع انهم جميعاً عرب يفتخرون بانتسابهم إلى العروبة. وبين عرب العربية الجنوبية وبين عرب عالية نجد فروق واضحة جليةّ. وهكذا قل عن بقية بلاد العرب. بل نجد هذا التباين أحياناً بين أجزاء قطر واحد. فإذا كان هذا هو ما نراه ونلمسه في الجاهلية وفي الإسلام، فهل يجوز لأحد التحدث عن عقلية عامة جامعة تشمل كل العرب? وقد أدرك المتقدمون علينا بالزمن اختلاف العرب في الصفات والشمائل، فتحدثوا عن "حلم قريش"، وعن لينها ورقة ذوقها وعن براعتها في التجارة، وتحدثوا عن عمق تفكير أهل اليمن وعن اشتهارهم بالحكمة، حتى قيل: الحكمة يمانية. وورد إن "علي بن أبي طالب"، لما وافق على اختيار "أبي موسى الأشعري" ليكون ممثله في التحكيم، قال له "أبو الأسود الدؤلي": "يا أمير المؤمنين لا ترضَ بأبي موسى، فإني قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره، فوجدته قريب القعر، مع انه يمان".

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق