إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 1 يناير 2016

796 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والأربعون الرعاة


796

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الخامس والأربعون

الرعاة


وندخل في الحضر الرعاة: رعاة الغنم والمعز والبقر، ذلك لأنهم اضطروا بحكم طبيعة حياة حيواناتهم إلى شيء من الاستقرار، والى عدم التنقل مسافات بعيدة طويلة في البوادي على نحو ما يفعل الأعراب. ثم انهم يعيشون على الآبار و برك الماء وعلى مقربة من الحضر، وفي وضع بجعلهم شبه مستقرين في أكثر أيام حياتهم. وهم "أعراب الضواحي"، وعنصر مهم من عناصر تكون القرى والمستوطنات، إذ إن قربهم من الحضر واعتماد حياتهم عليهم، يحملانهم على التأثر بهم، وعلى التقرب منهم ومن مستوطناتهم. فتصير "الخيمة" بيتاً مستقراً، ثم تصير "كوخاً" من طين أو من أغصان شجر، ثم تتحول بيتاً من بيوت قرية أو حيّ من أحياء مدينة، لما في المدينة من وسائل معاشية تستهوي الناس، لا تتوافر في الضواحي البعيدة، فتحول الرعاة قطّان مدن.

ولا يشترط في الرعاة الاقتصار في حياتهم على تربية الغنم، إذ فيهم من يربي الإبل أيضاً، وهم "رعاة الإبل". والفرق الوحيد بينهم وبين الأعراب وهل رعاة الإبل، إن الرعاة يلازمون أرضهم و إذا تنقلوا طلباً للماء والكلأ فلا يذهبون إلى مسافات بعيدة ولا يمعنون في اختراق البوادي، لأنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيراً ولا يستطيعون الاكتفاء بكلأ البادية لوجود ماشية أخرى عندهم لا تستطيع الصبر على الجوع طويلاً، كما إن اتصالهم بالحضر أكثر من اتصال الأعراب بهم. ومنازلهم هي في الغالب خليط من بيوت مدر ومن بيوت وبر. ولكنها ثابتة على العموم وحياتهم وسط بين البداوة والحضارة. والأرض التي يقيمون بها تكون ذات آبار وعيون ومتجمعات أمطار، وهم لا يبتعدون عنها كثيراً ولا يفارقونها لارتباط معيشتهم بها. بينما تكون حياة الأعراب على الغيث في الغالب، وعلى الآبار والتنقل.

وفي العربية لفظة "جشر". ذكر علماء اللغة إنها تعني القوم يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون بيوتهم. والقوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم لا يأوون إلى البيوت. والمال الذي يرعى في مكانه لا يرجع إلى أهله بالليل. وان تخرج بخيلك فترعاها أمام بيتك. إلى آخر ذلك من معان تدل على إن الجشر رعاة يخرجون إلى المجاشر، أي المراعي لرعي إبلهم أو خيلهم بعض الوقت، إذا شبعت إبلهم واكتفت، عادوا بها إلى بيوتهم فأقاموا بها.

الأعراب

أما أهل الوبر، وهم الأعراب، فحياتهم حياة تنقل وارتحال، وعماد حياتهم "الإبل"، ولولا هذا الحيوان الصبور لما تمكن الأعرابي أن يقهر البوادي، وأن يوسع تنقله في أنحائها، وأن يعيش في هذه الأرضيين المقفرة الشحيحة التي يشح فيها سقوط المطر، ويضطر الإنسان فيها إلى ضرب الأرض بأرجل جَمَله بحثاً عن الكلأ والماء. ولهذا صار "الجمل" "المالَ" الوحيد الذي يملكه الأعرابي، به يقدر الأسعار، و به يقدر "الصِداق" و ثراء الإنسان.

وقد سبق لي أن تحدثت عن معنى "عرب"، وعن المراد منها إلى قبيل الإسلام، فلا حاجة لي هنا إلى إعادة الكلام عن شيء سبق إن تكلمت عنه.

أما مصطلح أهل الوبر"، فمعناه "عرب"، أي أعراب بالمعنى الجاهلي القديم. وذلك لأن الأعراب قوم نقل، يتنقلون من مكان إلى مكان، حاملين بيوتهم وما يملكونه معهم، وبيوتهم هي الخيام، وهي مصنوعة من "الوبر" وبر الإبل في الغالب، ولذلك عرفوا بها. وعرفوا في الموارد اليونانية ب "أهل الخيام" و ب "سكنة الخيام"، وقد استعمل أعراب العراق وبادية الشام وأعراب بلاد الشام الخيام المصنوعة من شعر الماعز، وهي خيام لونها السواد، وقد أشير إليها في التوراة وفي موارد تأريخية أخرى.

وذكر علماء اللغة إن العرب: سكان القرى والمدن أي الحضر، أهل الحاضرة. أما الأعراب، فهم سكان البادية من هذا الجيل. ويقال للرجل أعرابياً إذا كان بدوياً همه البحث عن الكلأ وتتبع الغيث والرعي. وأما من ينزل الريف ويستوطن القرى والمدن، فهو عربي، وان كان دون الأعراب في الفصاحة وفي سلامة اللغة. ويقال للأعراب "الأعاريب"، وذلك جمع الأعراب. فالأعرابي البدوي، وهو صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم. ومن نزل البادية، أو حاور البادين وظعن بظعنهم، وانتوى بانتوائهم: فهم أعراب. ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب: فهم عرب، وان لم يكونوا فصحاء.

ويذكر علماء اللغة إن البادية من البروز والظهور. قيل للبرية لكونها ظاهرة بارزة. وان البادية اسم للأرض التي لا حضر فيها، وهي خلاف الحاضرة والحضارة. وقيل لسكان البادية البدو والبداة. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "Bedouin" في الإنكليزية وفي عدد من اللغات الأوربية الأخرى، بمعنى أعراب.

والأعرابي بالمعنى العلمي المفهوم من اللفظة، هو - كما قلت قبل قليل - المتبدي، أي الذي قطن الباديه و عاش معظم حياته فيها وانقطع معظم حياته عن القرى والمدن. مكتفياً باتخاذ الإبل شريكة له في حياته هذه. قاطعاً البوادي الجافة التي يقل معدل سقوط الأمطار فيها عن "4" عقد في السنة، للبحث عن الكلأ والماء. قانعاً بحياته التي يحياها والتي أحبها وتعلق بها على ما فيها من قساوة وضراوة وفقر وشح في العيش. حتى صار لا يفارقها لأنه ولد بها. فهو لا يعرف دنيا غيرها، ولا يعرف إن في الدنيا مكاناً أطيب من وطنه الذي يعيش فيه. وكل مورد على ما يولد عليه.

وتعيش بين الحضر والبادية قبائل، صيّرتها إقامتها بين العالمين عالماً وسطاً، لا هو مجتمع حضريّ ولا هو بدوي أصيل، حافظ على خصائصه البدوية الموروثة من البادية، و اكتسب باحتكاكه بالحضر ما يلائم طبعه وما فرضه عليه محيطه الجديد من حياة أهل الحضر. فصار يزرع بعض الزرع ويرعى البقر والخيل والأغنام والمعز ويأتي إلى القرى والمدن للامتيار، و يستخدم موادّ لا يستخدمها الأعراب لعدم وجود حاجة لهم بها، ولفقرهم الذي لا يسمح لهم بشرائها، وأخذ يبيع لأهل الحضارة ما يفيض عن حاجته من الألبان والزبد والجلود والأصواف والحيوانات. فأهل هذا العالم إذن. هم عالم وسط عالمين، وقنطرة تربط بين العتبة الأولى من عتبات الحضارة والدرجة الأولى من درجات البداوة. وخير مثل على هؤلاء هم عرب مشارف الشام، وعرب مشارف العراق. ويراد بالمشارف القرى والمستوطنات والمضارب القائمة على ما بين بلاد الريف وبين البوادي.

و "الريف" في رأي بعض علماء اللغة الخصب. والسعة في المأكل والمشرب وما قارب الماء من الأرض. أو حيث يكون الخضر والمياه والزرع. ولهذا قيل: "تريف" إذا حضر القرى وهي المياه، و "راف البدوي" يريف إذا أتى الريف. ومن هنا عرف البدويّ بأنه جوّاب بيداء، لا يأكل البقل ولا يريف.

وورد في الحديث: "كنّا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف. أي إنا من أهل البادية لا من أهل المدن". ولكن المفهوم من لفظة "ضرع"، إنها لفظة تطلق على الماشية ذوات الظلف والخف، أو للشاء واليفر، ولهذا فيجب تفسيرها، بإنا من أهل ذوات الظلف والخف، أي من الرعاة لا أهل الزرع، والرعاة هم قُطّان المشارف، القريبين من القرى والريف، ولا يقيمون في البادية، لأن الشاء والبقر وبقية الماشية باستثناء الإبل لا تعيش في البادية وإنما ترعى الأماكن الخصبة من الماء والريف.

والحاضرة خلاف البادية، وهي القرى والمدن والريف، سمّوا بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وذكر إن كل من نزل على ماء عدّ ولم يتحول عنه شتاءَ ولا صيفاً، فهو حاضر، سواء نزلوا في القرى فالأرياف وبيوت المدر أو بنوا الأخبية عند المياه فقرّوا بها ورعوا ما حوليها من الكلأ. ولهذا قالوا: الحاضر: المقوم نزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. وقد يكون ذلك في البوادي. إذ يقيمون حول بر أو ماء دائم، ولا يرتحلون عنه. فهذا نوع من أنواع الحاضرة في جزيرة العرب. وهم بهذا حضر جزيرة العرب، فهم سكان مستوطنات صغيرة ظهرت في مواضع الماء وعند مفترق الطرق، في هذه البوادي الجافة الواسعة.

وفي هذه الحواضر التي أسعفها الحظ بالماء، ظهرت مجتمعات متحضرة، أي مستقرة، استفادت من الماء فبنت بعض البيوت وزرعت بعض النخيل والأشجار. ومقياس هذه الحواضر، هو الماء. فإذا وجد بغزارة أو كان قريبا من سطح الأرض توسعت فيه رقعة الحضارة، بمقدار سعة الماء وسعد الناس بالعيش في بيوت مستقرة دائمة ثابتة، أما إذا كانت الأرض شحيحة بخيلة، لا تسعف من يعيش فوقها بماء، فان الإنسان يتحاشاها بالطبع ويبتعد عنها خلال أيام الغيث. وحواضر البوادي هي المواضع التي يجب أن نوجه إليها أنظارنا للبحث فيها عماّ قد يكون الدهر قد خبأه فيها من كنوز وآثار. وهي منتشرة في مواضع عديدة من جزيرة العرب، لا سيما عند الأودية وقرب الحسي والجعافر والعيون.

و "عرب الضاحية" أو "عرب الضواحي"، هم العرب النازلون بظواهر الريف والحضارة وبظواهر البادية. و "الضاحية" الظاهرة الخارجة من الشيء التي لا حائل دونها، و "الضامنة" ما أطاف بالشيء مثل سور المدينة، أي ما كان داخل شيء. وضواحي الروم: ما ظهر من بلادهم وبرز. ويراد ب "عرب الضاحية"، عرب مشارف العراق وعرب مشارف الشام، لأنهم أقاموا ضواحي العراق وبلاد الشام، وعلى تخوم البادية. وقد تأثر أكثر الأعراب الساكنين بأطراف الحضارة وبأخلاق الحضر، ودخلوا مثلهم في النصرانية، بحكم تأثرهم بهم وبعوامل التبشير والسياسة، إلا أن نصرانيتهم كانت. نصرانية أعرابية مكيفة بالعقيدة الوثنية الموروثة من السنين الماضية التي كونتها طبيعة البداوة في عقلية أهل الجاهلية.

وسوف نجد في بحثنا عن اللغة، أن لغة "أهل المشارف" أو "أهل الضواحي" و "عرب الأرياف"، م قد تأثرت بلهجات "إرم" العراق وبلاد الشام، فظهرت في لغتهم رطانة، وبرزت فيها ألفاظ ارمية وأعجمية، و انحازت في النطق بعض الانحياز عن عربيات أهل البوادي، وكتبوا بقلم نبطي وبلهجات عربية، لا تقرّها عربية القرآن الكريم، التي صارت لسان الإسلام. ولهذا حذر علماء اللغة من الاستشهاد بشعر شعراء القرى والريف وأهل المشارف والضواحي، لاعوجاج لسانهم بالنسبة إلى لسان الإسلام.

فأعراب الضواحي، أو عرب الضاحية، هم أعراب أيضاً، لكنهم لم يعزلوا أنفسهم عن العالم الخارجي، و إنما عاشوا على مقربة منه ومن مواطن الحضر، فصار حالهم أحسن من حال الأعراب الأقحاح، وارتفع مستواهم العقلي عن أولئك المعنيين في حياة الأعرابية. بسبب اتصالهم بالأجانب وأخذهم عنهم واحتكاكهم بالحضر، الذين هم أرقى من الأعراب بكثير. فأخذوا عنهم وتعلّموا منهم أشياء كثيرة، من مادية ومعنوية. سأتحدث عنها في المواضع المناسبة من أجزاء هذا الكتاب.

وقد عرفت الأرض التي تقع بين الفرات وبين بَرّيّة العرب ب "العبر". قال علماء اللغة: "والعبر بالكسر ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب" لأنها المعبر الذي يعبر عليه للوصول إلى البادية، أو الدخول من البادية إلى الفرات. وقد تكونت بها قرى عربية لعبت دوراً مهماً في تأريخ العراق لموقعها العسكري المهم، ولأنها الخط الأمامي الذي كان يواجه الأعراب الغزاة ومن كان يحكم بلاد الشام من حكام. ولكونه المنطلق الذي تنطلق. منه الجيوش التي تريد غزو بلاد الشام، أو صدّ القوات الزاحفة على العراق من الغرب.

والبداوة هي التي أمدت العراق وبلاد الشام وسائر جزيرة الغرب بالحضر، فقد كان الأعراب يأتون الحواضر وينيخون هناك، ويستقرون ثم يتحولون إلى حضر. لذلك تكون البادية المنبع الذي يغذي تلك الارضين بالعرب الحضر.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق