784
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الرابع والأربعون
مجمل الحالة السياسة في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام
استعرضنا في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام على قدر ما أدّى إليه بحثنا، وساعفتنا عليه الموارد. أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسي، فنستعرض حالة العرب السياسية في القرن السادس للميلاد بوجه عام،
والقرن السادس للميلاد، فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الانبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224 م" أو "226 م"، ثم لم تلبث إن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيد لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعاًل في السياسة العالمية. وفي هذا القرن أيضاً برزت الأمراض العديدة التي ألمّت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنج منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له، فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حلّ بها، ومن هول ما أصيبت به بذلك البتر.
وفي النصف الثاني من هذا القرنُ ولدَ الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخي خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي إن أثره قائم حتى الآن، وانه سيقوم إلى ما شاء. الله، وانه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وانه بشر برسالة قائمة على إن الدين لله، وان الناس أمامه سواء، لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على اخر، ثم لم يلبث إن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الانبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد، واستأصل الأعضاء الثمينة من الانبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله.
وقد ابتلي هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت في مشكلاته الكثيرة التي ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكانّ مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه ُمني العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطاً ومجاعةً وفقراً في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة.
ولا ريب إن ظروفاً هذه حالتها، لا بد إن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيوماً تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من قرى ومدن، ويوماً تغزوها جيوش الروم فتستولي على ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال. وفي ظروف هذه شأنها لا بد إن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصاً مواتية لا يفرط فيها للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق ثانية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم. وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فراراً من هذا الوضع إلى المدن الكبيره البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار،. فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى اًرضين مجدبة، نتيجة لهذه الهجرة، ولتراكم الأتربة في شبكات الري. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلكُ حكاماً حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناساً كان لهم حسّ وشعور بما وصلت إليه الحالة فنادوا بالإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون. ثم إن الحمل كان ثقيلاً، والأخطاء كثيرة، والأمراض، عديدة لا يقومها طبيب واحد أو أطباء معدودون.
لقد عزم "كسرى" الأول "531-579م" المعروف ب "كسرى أنو شروان"، على إصلاح الحال في مملكته، فأمر بوضع دستور جديد للجباية يخفف عن كاهل الدافعين بعض الثقل، وأمر بإصلاح الأرض وتوزيعها على شعبه بالعدل وبالإنصاف بين الناس حتى عرف لذلك بالعادل، واستعان بمستشارين حكماء كانوا يعظونه ويرشدونه بطريقة الحكم والأمثال والعظات إلى كيفية سياسة الرعية وتدبر أمورها، كما ولى النواحي الروحية عنايته كذلك، فأعاد الزردشتية القديمة، وقاوم الحركة المزدكية التي قام بها "مزدك" في عهد والد "قباد الأول" "483 - 531م" "488 - 531م"، وهي حركة تدعو إلى الغاء الملكية، والى الإباحية، والى القضاء على امتيازات النبلاء ورجال الدين على ما تقوله الموارد التأريخية العربية المستندة إلى موارد "فهلوية" شجعها "قباذ" لما وجد فيها من مبادئ توافق سياسته الرامية إلى مقاومة تلك الطبقات المتنفذة التي عارضت في انتقال العرش إليه، والتي اجتمعت كلمتها برئاسة "موبذان موبذ" والعظماء على إنزاله من عرشه، لما بدا لهم من ازوراره عنهم، وانحرافه عن الزردشتية إلى تعاليم مزدك المناهضة للموابذة ولعظماء المملكة الذين كانوا يتمتعون في المملكة بنفوذ واسع حدّ من سلطان "شاهنشاه".
ورسالة مزدك وتعاليمه، غامضة، لا نعلم من حقيقتها شيئاً، فقد أبيدت كتبهم وطمست معالم دينهم في.عهد "أنو شروان"، ولم يبق منها إلا هذه النتف المدوّنة في الكتب العربية عن موارد "فهلوية" دوّنت في أيام محفة المزدكية وبعدها. ويظهر من هذه النتف إنها حركة دينية اجتماعية سياسية تدعو إلى توزيع الثروات بين الناس بالتساوي. والى انتزاع الأموال والأرضين من الأغنياء لإعطائها للمقليّن، حىّ من كان عنده جملة نساء تؤخذ منه لتعطى لغيره من المحتاجين، فهي على هذا التعريف فكرة اشتراكية متطرفة عارضت النظم الاجتماعية القائمه، وهددت الدين القائم، وجرّأت العامة على تلك الطبقات، كان الملك في حاجة إليها للانتقام ممن عارضه فأيدها.
هذا وحيث أننا قد تعلمنا من التجارب التي تجري في الوقت الحاضر ومن دراستنا للموارد التأريخية القديمة، إن ما يكتب عن قوم غضب الحاكمون عليهم لا يمكن إن يكون مرآة صافية يعبر عن وجه أولئك القوم وعن ملامحهم الحقيقية، لذا فإننا لا نستطيع إن نقول ان ما وصل إلينا عن المزدكية بمثل رأيها وعقيدتها تمام التمثيل، إذ يجوز إن يكون منه ما هو مصنوع موضوع حمل عليهم، وان رواة الأخبار قد غرقوا منه، ودوّنوه على نحو ما وصل إلينا في كتبهم. لذلك يجب الانتباه على هذه الملاحظة.
وحمل عدل الملك الساساني وحلمه وتسامحه مع رعيته ومساعدته للخارجين على الكنيسة الرومية الرسمية "من الفلاسفة والمثقفين بالثقافة الإغريقية القديمة ممن كانوا هدفاً لهجمات الكنيسة الأرثودكسية في الانبراطورية البيزنطية" على الهجرة إلى المملكة الساسانية، طامعين في عدل الملك وحمايته، وفي بيأة تكون فيها الحربة الفكرية مكفولة مضمونة، لا ضغط فيها ولا إكراه. ولكنهم ما لبثوا إن وجدوا إن الزردشتية التي نصرها وأيدها "كسرى أنو شروان"، وهي ديانة المملكة غير ملائمة للفلسفة، وأنها ليست أرحب صدراً من "الأرثُودكسية"، وانهم لم يكونوا على صواب بمجيئهم إلى هذه الأرض، فرجوا من "ملك الملوك" الترفق بهم، بالسماح لهم بالعودة إلى بلادهم. فلما كانت الهدنة، طلب "كسرى" من قيصر في سنة 549م إباحة العودة إلى ديارهم والتلطف بهم والعفو عما بدر منهم من الذهاب إن مملكته.
وكان مما فعله "كسرى أنو شروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان" "يسطنيانوس" "جستنيان" "527 - 565م"، واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها. والحبش هم حلفاء البيزنطيين وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوّا النجاشي على فتح اليمن بعد إن يئسوا من الاستيلاء عليها ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب.
واتبع "كسرى الثاني" "595 - 628 م" المعروف ب "كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنو شروان"، خطوات جدّه وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "614 م". ثم استولى على مصر في سنة "619 م" ودَوّخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه، فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب.
وقد اضعفت هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثراً كبيراً ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، و "الشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء لأن "الشاهنشاهية"، لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات وبمثيري الفتق والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود، والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقبدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون اذ القتال قسراً، وهم في حالة. سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئاً، وقد جيء بهم إلى الجيش قسراً وعلى طريقة "السخيرة". وهم يحاربون ولا سلاح لهم، لأن الحكومة لا تملك سلاحا، ولا نظام لهم، لأنهم لم يدربوا على القتال ولم يُعَلَّموا أصوله، أجسامهم تقاتل، وقلوبهم مشغولة في مصير أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم، وهم المعيلون لهم، ليس لهم غيرهم من معين.
وحكومة هذا شأنها، لا يرممن لها أن تحافط على حدود طويلة مفتوحة سهلة تقيم عليها قبائل غارية، تترقب الفرص لتجد فرصة تهتبلها لتغير فيها على الحضر، فتنتزع منهم ما قد تقع أيديهم عليه من أي شيء. فصار الأعراب يغيرون على الحدود من كل مع مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، ولاسيما بعد معركة "ذي قار" التي منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين. فما جاء الإسلام من جزيرة العرب صاروا عوناً له في تقويض تلك الدولة، ودالة ساعدته في تفهم مواطن الضعف فيها، ومنها نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين.
وقد طمعت القبائل في حكومة الحيرة أيضاً، هذه الحكومة التي ظهر عليها الوهن كذلك. فأخذت تغير عليها وتتعرض بحدودها، وتتحرش بقوافلها التي كان يرسلها ملوكها للاتجار في أسواق الحجاز واليمن. حتى صارت الطرق التي تسلكها خطرة غير آمنة، لا يتمكن رجالها من المرور بها بسلام. ولم يستطع الساسانيون من مساعدتها وحمايتها، لأن أوضاعهم الداخلية، كانت كما ذكرتُ على غير ما يرام. وهذا مما زاد في تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد. ولعل هذه الغارات، كانت في جملة الأسباب التي حطمت "كسرى" على القضاء على النعمان وعابر إنهاء حكم "آل نصر"، إما بسبب ما رآه "كسرى" من عدم تمكن الملك "النعمان" من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي أخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الفرس، وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه. وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم. فأراد لذلك القضاء عليه وعلى الأسر الحاكمة، قبل أن يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين.
وهناك روايات يشتمّ منها أن "النعمان"، قال لسادات القبائل" "إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكتُ وعززتُ بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم... ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث". وروايات تفيد أن "كسرى" إنما قتل "النعمان"، لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين. ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والآيبة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة من منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك "النعمان" على الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف، الذي كان يهدده خصوم له. لعلّ هذه الأسباب وغْيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت "كسرى" على القضاء على "النعمان" وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائياً إلى قائد فارسي، يحكمها حكماً عسكرياً.
وقد نصب الفرسُ حاكماً منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، وجمع الأعراب من دخولها. لقد اجتازوها ثم جاوزوها إلى مسافات بعيدة في الإسلام، أوصلت العرب إلى الصين والهند وتركستان الصينية. ذلك لأن الفرس كانوا منهوكي القوى في الداخل وفي الخارج، وقد أتعبتهم الأوجاع، بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، وباعتماد على النفس، من أن النصر سيكون لهم حتماً. لقد بدأ هذا العزم قبل "ذي قار"، ثم تجسم في "ذي قار"، فكان نصر العركة في هذا الموضع، ناقوس النصر، و "الهرمون" الذي بعث الحيوية في جسم القبائل، فجعلها تشعر أن في استطاعتها أن تفعل شيئاً، لو وحدت نفسها، وعملت عملاّ إيجابياً منتظماً، بعد دراسة وتفكير، وباعدت نفسها عن الهياج والحماس والكلام الكثير، الذي يذهب بعد تكلمه مع الهواء.
ولم تكن مشكلات الروم أقل خطورة أو عدداً من مشكلات الساسانيين. لقد تمكنت النصرانية، بعد عنت واضطهاد ومقاومة، أن تكون ديانة رسمية للحكومة والشعب. وكان المأمول أن تتوحد بذلك صفوف الأمة، غير أن التصدع الذي أصاب هذه الديانة لم يحقق لهما ذلك الأول، فتدخلت المذهبية في السياسة، في المذهبيّات. وتولدت من هذا التدخل مقاومة رسمية من الحكومة للمذاهب المعارضة، واضطهاد لكل من يعارض مذهب القيصر. وظفرت كنيسة شرقية وكنيسة غربية، وتجزأ النصارى الشرقيون إلى شيع وفرقُ عدّ بعضها خارجاً على تعاليم الحق والأيمان، هي في نظر "الأرثودكسية" مذاهب الحادية باطلة، فعوملت كما عاملت وثنيةُ روما النصرانية حين ظهورها، فحوربت بغير هوادة واضطر الكثير من المخالفين إلى التكتم أو الهرب إلى مواضع ليس للبيزنطيين عليها سلطان.
والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين، والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإنبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوربة لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه انتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسرهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الانبراطوريتين تقليداً موروثاً، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطراراً، ولا تعقد هدنة بينهما الا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب. يدفعها المغلوب صاغراً بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملاً تحسن الموقف للانتقام من الخم. فتأريخ الساسانيين والروم، هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار. وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار ? %)165(
لقد وجد "كسرى أنو شروان" "531ه- 579م" في انشغال "يوسطنيان" "جستنيان" "Justinian" "527 - 565م" بالحروب في الجبهات الغربية فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإنبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم، وهاجم الإنبراطورية منتحلاّ أعذاراً واهيةً، واشترك في قتال دمويّ مرّ بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس" "Belisarius" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدما خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثمُ مددت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عاماً حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م". تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد للنصارى، وبالسماح للروم في الإتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين.
و "يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه إن الملك يجب إن يكون دليلا وقدوة ونبراساً للناس، وانه لا يكون عظيماً شهيراً لحروبه ولكثرة ما يمكله من سلاح وجند، إنما يكون عظيماً بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيماً للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حامٍ للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه إن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة. ولذلك فإن من واجب كل انبراطور إن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه بسنّ القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الانبراطورية الرومانية كثيرة جداً، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت الإحكام. لذلك رأى إن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيأة دستور الانبراطوري يسير عليه قضاة الانبراطورية في تنفيذ الإحكام بين الناس، وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان" "Tribonian" من المشرعين المعروفين في أيامه. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدوّنات، ورتبها في كتب وأبواب، وكان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع.
ويعد هذا العمل مم الأعمال العظيمة في تاريخ التشريع، ولم يكن "يوسطغيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدوّنة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الانبراطورية. فَعُدَّ صنيعه هذا إصلاحاً كبيراً يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنو شروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا إننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى" وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أو هي صدى للعسل الذي قام به "يوسطنيان"، ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات? وفكرة إخضاع الانبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى إن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وان الكنيسة إنما هي سلاح ماض يعين الحكومة في تحقيق أهدافها، لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المنوفيزيتية" ""Monophysites" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس" "Ariaus" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة وكذلك اليهود.
وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنية في حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأًييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي إن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وان من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضتوه من رجال المذاهب الأخرى، لأنه خالفهم، وجاء بتفسرات لم ترضي أي مذهب منها. واضطر أخيراً على الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي إن ما يراه في الدين، هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة. فخلق. معارضين له. وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، واصدر أمراً بمنع الوثنين و. كل من ليس نصرانياً من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته ولدولة من جاء بعده من قياصرة.
وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير إن إصلاحاته هذه لم تنفذ، إذ. لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من "لحدّ من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ.
واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة. والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولاسيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوباً فيها في أوربة ومطلوبة، تجني الحكومة منها أرباحاً كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال التي ترد إلى الانبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلافي إقبالاً كبيراً من أثرياء الانبراطورية ومن أثرياء انبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوربة.
وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهض حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان إن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من الموات التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد إن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقبة الأوربيين.
وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية، ولهذا كانت تتصل دوماً بالانبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكرها من هذه الانبراطورية، إذْ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الانبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوربية.
هذا طريق. وهناك طريق آخر هو طريق البحر. يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة" "Taprobane" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتُحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم.
ولما كانت علافات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحرب بين الانبراطوريتين متوالية صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والإنقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما إن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضربية المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف، ولهذا فكر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين.
والخطة التي اختطها "يوسظيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانينن عليها، هي الاتصال بالأسواق البيزنطية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الانبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعاً لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم" "Clysma" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة" "Iotabe" وهي جزيرة "تاران" "تيران"، فقد كانت مركزاً مهماً لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها، ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ.
ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر "مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام، لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررا بالغاً بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان.
أما العمل العسكري، فلم في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت، لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية. لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول إلى اليمن، حيث الحبش هناك، أخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة، أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكاً، وان القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبداً، لذلك تركوا هذا المشروع. فلم يبق أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا إن هذا التنفيذ غير ممكن أيضاً، لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قوياً، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة. فتركوه، ولو إلى حين، مفضّلين عليه العمل السياسي.
أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الاخوّة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المتنصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضاً. وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير،سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك. وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام.
وأرسل "يوسطنيان"-كما سبق إن بينا ذلك-رسولاً عنه يدعي "يوليانوس" "جوليانس" "Julianus" إلى النجاشي والى "السميفع أشوع" "Esimphanus" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد اليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم إن يكوّنا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وان يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "Kaisos" أي "قيس" عاملاً "فيلارخ" "Phylarch" على قبيلة عربية تدعى "معديني" "Maddeni"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين، وقد رجع السفر فرحاً مستبشراً بنجاح مهمته، معتمداً على الوعود التي أخذها من العاهلين. غير أنهما لم يفعلا شيئاً، ولم ينفذا شيئاً ما مما تعهدا به للسفير، فلم يغزوا للفرس، ولم يعين "للسميفع فوع" "قيساً" "فيلارخاً" عاملا على قبيلة معدّ.
وورد أيضاً إن القيصر جدّد في أيام "ابراموس" "Abramos" الذي نصب نفسه في مكان "Esimiphaeus"، طلبه ورجائه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير انه تراجع بسرعة.
ويظهر إن اتصال البيزنطيين ب "ابراموس" "Abramos" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس إذْ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمرّ بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال. فلما تمكن "ابراموس" من التحكم في شؤون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكماً عاماً على اليمن وصارت الأمور بيديه تماماً، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين.
وقد تحرش "ابراموس" بالفرس، غير انه لم يستمر في تحرشه بهم. فما لبث إن كف قواته عنهم. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "ابراموز" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار هذا الهجوم.
و "ابراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن. أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل، فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر، وإخضاع العربية الغربية بذلك على حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر ة ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية. ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.
اما "Kaisos" "Caisus"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكربيوس" شجاعاً ذا شخصية قوية مؤثرة حازماً من أسرة سادت قبيلة "معدِّ". وقتل أحد ذوي قرابة "للسميفع أشوع" "Esimaphaios" "Esimiphaeus"، فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية. فأراد القيصر الشفاعة له لدى "Esimaphaios"، والرجاء منه الموافقة على أقامته رئيساً "Phyarch" على قبيلته قبيلة معدّ.
ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة. ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على أقامته رئيساً على قومه. وبهذا يكسب القيصر رئيساً قوياً وحليفاً شجاعاً يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.
ونحن لا نعرف ن أمر "قيس" هذا في روايات الأخباريين شيئاً غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملا له على مضر، وأن "قيساً" كان يرافق أخاه محمداً حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فَرّا إلى "ابرهة". وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة: "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب بن مرّة بن هلال بن فالح ابن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل.
فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس" ?. اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه? أو هو رجل آخر لا علاقة له ب "قيس" الذي يذكره "ابن إسحاق"? وقد زار والد "نونوسوس" "Nonnosos" "قيساً" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "535م" وزاره "نونوسوس" نفسه في إثناء حكمه. وأرسل "قيس" ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعلم أخاه ثم ابنه الأمارة. وعينه القيصر عاملاً "Phylarch" على فلسطين.
وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب" "Abochorabus"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعاً وكرهاً في تبعية الرئيس القوي.
أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات تخيل كثيرة، عرفت عند الروم ب "فوينيكون" "Phoinikon" "واحة النخيل"، أو "غاية النخيل". وهي أرض بعيدة. لاتبلَغ الا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، اذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعن هذا "الشيخ" عاملاً "فيلارخا" على عرب فلسطين.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" "Amorkesos" وكان "Amorkesos" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على. جزيرة "تاران" "Iotaba" وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473 م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له إلى القسطنطينية، ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملاً "Phylarch" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية %)175( ابن المنذر، حليف الفرس. بمعنى أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة? و "Maddenoi" هي قبيلة "معداية" "Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" "John of Ephesus" مع "طياية" "طيايا"" "طيايه" "Tayaye" "Taiyaya" في كتابه الشي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" "Beth Aresham"، ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين.
وقد تحدثتُ سابقاً عن ورود اسم قبيلة "سدّ" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328 م" حيث ورد أن "امرئ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معدّ" وعلى قبائل أخرى ذكرها النصى، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الأخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معدّ، وظالما ذكروا إن ملوك الحيرة غزوا معدّ، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معدّ. فهي تذكر انهم هم الذين كانوا يعينون أولئك السادهّ، فينصبونهم "ملوكاً" على معدّ. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجأوون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معدّ اً كانت قبائل متبدية: منتشرة في ارضين واسعة تتصل باليمن، وقد. كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبياً من محاربي معدّ ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيماً ولا تشكيلاً ولا توزيعاً للعمل. وكل ما عندهم هو كرٌَّ وفرٌّ، إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق