783
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفضَل الثالث وَالأربعون
الطائف
والطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلاً تقريباً إلى الجنوب الشرقي من مكة. وهي على عكس مكة أرض مرتفعة ذات جوّ طيب في الصيف فيه زرع وضرع، وغنى جادت الطبيعة به على أهله. وقد كان وما زال مصيفاً طيباً يقصده أهل مكة مراراً من وهج الشمس.
وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان، وهر أبرد مكان في الحجاز، وربما جمد الماء في فروته في الشتاء، وليس بالحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع. وبينها وبين مكة واد اسمه نعمان الأراك. وهي كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها الزبيب والرمان والموز والأعناب، ولا سيما الصديفي، وفواكه أخرى عديدة. وهي تموّن مكة بالفواكه والبقول. وتحيط بها الأودية. ومن مواضعها، "الوهط"، وهو واد، أو مكان مطمئن من الأرض مستوّ، تنبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط، وقد اتخذ بستاناً، صار ل "عمرو ابن العاص"، ثم لابنه. وقد عرف بكثرة كرمه وأنواع أعنابه.
والى الشرق من الطائف واد يقال له "لِيّة"، ذكر بعض أهل الأخبار إن أعلاه لثقيف وأسفله ل "بنٌي نصر بن معاوية" من هوازن.
وتأريخ مدينة الطائف تأريخ غامض، لا نعرف من أمره شيئا. إذْ لم تمس تربتها أيدي علماء الآثار بعد، كما إن السياح لم يجدوا في الطائف كتابات قديمة نجد. ولكن مكاناً مثل الطائف لا بد إن يكون له تأريخ قدم، ولا يعقل إن يكون من الأمكنة التي ظهرت ونشأت قبيل الإسلام. وليس لنا من أمل في الحصول على شيء من تأريخ الطائف إلا بقيام العلماء بمناجاة تربتها واستدراجها لتبوح لهم بما تكنهّ من كتابات مسجلة في الألواح يتحدث عن تأريخ هذا المكان المهم.
وقد عثر الباحثون فعلا على كتابات مدوّنة على الصخور المحيطة بمدينة الطائف الحديثة وفي مواضع غير بعيدة عنها. وقد تبين إن بعضاً منها بالنبطية وبعضاً آخر بالثمودية، وان بعضاً بأبجدية أخرى، وان بعضاً بأبجدية القرآن الكريم، أي بقلم إسلامي. ولا يستبعد عثور العلماء في المستقبل على كتابات ستكشف عن تأريخ هذه البقعة، وعن تأريخ من سكنها قبل الإسلام وقبل ثقيف. وُذكر إن بعض كتابات يشبه شكلها شكل الأبجدية اليونانية، وكتابات أخرى يشبه خطها الخط الكوفي عثر عليها في "بستان شهار" على مسافة كيلومترين إلى الجنوب من الطائف. غير إنها لم تدرس حتى الآن. ومكان مهم بالنسبة للطرق التجارية ولموقعه المعتدل الجمبل، لا بد وان يكون قد لفت أنطار سكان العربية الغربية قبل الميلاد فسكنوه، ولا أستبعد إمكانية تدوين تأريخ صحيح لهذه المدينة إذا ما قام المنقبون بالبحث فيها وفي الأماكن القريبة منها لاستنطاقها، لتتحدث لهم عما عرفته من أخبار تلك الشعوب التي سكنت هذا الموضع قبل ثقيف.
ويزهم أهل الأخبار إن الطائف إنما سميت طائفاً، بحائطها المطيف بها. اما اسمها القديم، فهو "وجَّ". ولهم روايات عن كيفية قيام ذلك الحائط. وقد حاول بعض أهل الأخبار إعطاء الطائف مسحة دينية، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم، وإنها قطعة من أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعمت إن جبريل اقتطعها من فلسطين، وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف. وهكذا أكسبت هذه الروايات قدسية، وجعلت لها مكانة دينية. وهي روايات يظهر إنها وضعت بتأثير من سادات ثقيف المتعصبين لمدينتهم، والذين كانوا يرون إن مدينتهم ليست بأقل شأناً من مكة أو يثرب. وقد كان بها سادات وأشراف كانوا أصحاب مال وئراء.
وقد زعم بعض أهل الأخبار إن الذي أقام حائط الطائف رجل من الصدف، يقال له "الدمون بن عبد الملك"، قتل ابن عم له يقال له "عمرو" بحضرموت، ثم فرّ هارباً، ثم جاء إلى "مسعود بن معتب الثَّقفيّ" ومعه مال كثير، وكان تاجراً، فقال: أريد إن أحالفكم على إن تزوجوني وأزوجكم وأبن لكم طوفاً عليكم مثل الحائط لا يصل اليكم احد من العرب، فوافقوا على ذلك، وبنى لهم طوفاً عليهم، في ميت الطائف، فزوّجوه.
وقد كان لأهل. الطائف معبد يحجون إليه، هو معبد "اللات". وكانوا يعظَّمنونه ويتبركون به. ويذكر أهل الأخبار إن اللات كان صخرة مربعة يلت يهودي عندها السويق. وكان سسَد نته "بنو عتاب بن مالك"وهم من ثقيف. وقد بنوا له بناءً ضخماً. وكانت العرب، ومنها قريش، تعظمه، وتحجّ إليه وتطوف به. وقد هُدم في الإسلام عند فتح الطائف ودخول أهلها فيه. وقد هَدم الصنم" المغيرةُ بن شعبة، وأحرقه بالنار. ويقع موضعه تحت منارة المسجد، الذي بني على أنقاض ذلك المعبد، وهو مسجد المدينة. فمسجد الطائف إذنْ هو معبد اللات القديم، وهو في الطائف نفسها.
ويُرجع أهل الأخبار زمان الطائف إلى العمالقة، ويقولون: إنها إنما سميت "وَجّاً" بوجّ بن عبد الحيّ، من العماليق، وهو أخو "أجأ" الذيُ سمي به جبل "طيّ". ثم غلب عليها "بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان ابن مُضَر"، ثم غلبهم "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذلك بعد قتال شديد. ثم استغلّت ثقبف الظروف، فاستولت عليها، وأخذتها من "بني عامر"، فارتحل "بنو عامر" عنها، ونزحوا إلى تهامة، وتحكم بها بنو ثقيف.
ويذكز بعض أحل الأخبار إن أول من ملك الطائف "عدوان بن عمرو بن قيس ابن عَيْلان بن مضر". فلما كثر "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوازن"، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. وقد كانت مواطن "بني عامر" بنجد. وكانوا يصيفون بالطائف، حتى غلبتهم ثقيف. فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم "عامر بن الظرب العدواني" أحد الحكماء العرب.
وقد ورد في بعض الأخبار إن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرُى، بسبب منازعة القبائل لهم، ومن ثم ربط رواة هذه الأخبار نسب ثقيف بثمود. وقد صيرّ بعض أهل الأخبار ثقيفاً مولى من موالي هوازن، ونسبهم آخرون إلى إياد.
وجاء في رواية أخرى إن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان، وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها. وقد سكنرها قبل الطوفان. فلما وقع الطوفان، كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية. فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانىء بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد "عمرو بن عامر"، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف.
وصيرّ بعض أهل الأخبار ثقيفاً رجلاً منتشرداً، اتفق مع ابن خاله النخَّعَ على الهجرة في طلب الرزق والعيش، فذهب النخَّعَ إلى اليمن، فنزل بها، وذهب "ثقيف" إلى وادي الفُرى، فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها، واتخذها ثقف أماً له. فلما حضرها الموت، أوصت له بما كان عندها من دنانير وقضبان، ثم دفنها وذهب نحو الطائف. فلما كان على مقربة منها، وجد أمة حبشية ترعى غنماً، فأراد قتلها ليستولي على ماشينها، فارتابت منه، وأخبرته بأن يصعد إلى الجبل، فيستجير ب "عامر بن الظَّرِب العدَْواني" فإنه سيجيره ويغنيه، ويربح، أكثر من ربحه من استيلائه على هذه الغنمْ. فذهب إليه، وأجاره، وأغناه، وأنزله عنده، وزوّجه ابنة له، وبقي مقيماً في الطائف، وتكاثر ولده، حتى زاحموا بني عامر، وتلاحيا ثم اقتتلا، فتغلبت ثقيف على بني عامر، واستولت على الطائف.
ويذكر هؤلاء الرواة إن ثقيفاً اتفقوا مع "بني عامر" على إن يأخذوا الطائف لهم ويرحل بنو عامر منها، فيدفعوا لهم نصف ما يحصلون عليه من غلات. وقد بقوا على ذلك أمداً، حتى ثبّتت ثقيف نفسها في الطائف وقوّت دفاعها وأحكمت مواضعها، ثم امتنعت عن دفع أي شيء كان لبني عامر، فوقع قتال بين الطرفين انتهى بانتصار ثقيف. وصارت بذلك سيدة الطائف بلا نزاع.
وقد حسدهم طوائف من العرب، وقصدوهم لما صار لهم من مركز ومن رزق رغد وأثمار وجنان، ولكنهم لم يتمكنوا من الظفر بطائل، وتركوهم على حالهم.
وذكر بعض أهل الأخبار إن "عبد ضخم" كانوا فيمن سكن الطائف. وقد كانوا من عادٍ الأولى، وهلكوا فيمن اهلك من عاد ومن أقوام بائدة.
وذكر انه كان بالطائف قوم من يهود، طردوا من اليمن ومن يثرب، فجازوا إلى الطائف، وسكنوا فيها، ودفعوا الجزية لساداتها، ومن بعضهم ابتاع "معاوية" أمواله بالطائف.
وقد كان لوقوع الطائف على مرتفع، ولحائطها المزود بأبراج واستحكامات الفضل بالطبع في صد الأعراب ومنعهم من نهبها وغزوها. والظاهر إن أهل الطائف كانوا قد اقتفوا أثر اليمن في الدفاع عن مدنهم وقراهم، حيث كانوا يبنونها على المرتفعات في الغالب، ثم يحيطون ما يبنونه بأسوار ذات أبراج لمنع العدوّ من الدنوّ منها، ولا سيما الأعراب الذين لم يكونوا بحكم طبيعة معيشتهم في ارض منبسطة مكشوفة، ولفقرهم وعدم وجود أسلحة حسنة لديهم يستطيعون مهاجمة مثل هذه التحصينات، وأخذها على غرة حيث تقفل أبواب الأسوار وتغلق ليلاً، وفي أوقات الخطر-فلا يكون في استطاعة أحد ولوجها، لذلك صارت هذه التحصينات من اثقل الأعداء على قلوب الأعراب.
ولما هَمَّ "أبرهة" بالسير إلى مكة، كانت الطائف في جملة المواضع التي نزل بها في طريقه إليها. وقد خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة، وبعثوا معه "أبا رغال" دليلاً، فأنزله المغمّس بين الطائف ومكة، فهلك "ابو رغال" هناك وقبره في ذلك الموضع.
وعند ظهور الإسلام كان أغلب سكان هذا الموضع ينتسبون إلى قبيلة ثقيف. وترجع هذه القبيلة نسبها مثل القبائل الأخرى إلى جدّ أعلى، يقولون إن اسمه "قسيّ بن منبه"، ويقول الأخباريون إنما دعي قسيًّاً لأنه قتل رجلاً، فقيل قسا عليه، وكان غليظاً قاسياً.
والنسابون يختلفون في نسبه، فمنهم من ينسبه إلى إياد، في جعله قسيّ بن نبت ابن منبه بن منصور بن مقدم بن أفصى بن دُعْمِيّ بن إياد بن معد، ومنهم من يجعله من هوازن، فيقول" قسيّ بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.
ونحن إذا درسنا ما رواه أهل الأخبار عن نسب ثقيف، وعن القبائل التي اتصلت بها، نجد إنها كانت ذات صلة وثيقَة بقبائل "قيس عيلان" من مجموعة مضَر. ومعنى هذا إنها كانت على مقربة منها، وإنها كانت من قبائل مضر. كما نجد في الوقت، نفسه إنها كانت على صلات وثيقة مع بعض قبائل اليمن. فسرت هذه الصلات بوجود نسب لثقيف باليمن. وهذا النسب المزدوج، هو كناية عن الصلات التي كانت تربط بين "ثقيف" ومجموعة. "مضر"، وبينها وبين قبائل اليمن. وهو تعبير عن موضع الطائف.المهم الوسط، الذي يربط بين اليمن والحجاز والطرق المارة إلى نجد. مما جعله وسطاً وموضعاً للاحتكاك بين قبائل هذه الأرضين.
وصروا ثقيفاً في رواية اخرى ابناً لأبي رغال، ثم رفعوا نسب الابن والأب إلى قوم ثمود، وجعله حمّاد الرواية ملكاً ظالماً على الطائف، لا يرحم أحداً، مرّ في سنة مجدبةٍ بامرأة ترضع صبيّاً يتيماً بلبن عنز لها، فأخذها منها فبقى الصبي بلا مرضعة، فمات، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، وصار رجم قبرهُ سنة للناس. فهل تجد رجلاً ألأم من هذا الرجل على هذا الوصف?.
وقد قيل في "أبي رغال" انه كان رجلاً عشّاراً في الزمن الأول، جائراً، وقيل كان عبداً لشعيب، وقيل: اسمه "زيد بن مخلف" عبدٌ كان لصالح النبيّ، وأنه أرسله إلى قوم ليس لهم لبن الا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى إن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها نحايي بها هذا الصبي، فأبى، "فيقال" انه نزلت به قارعة من السماء، ويقال" بل قتله رب الشاة. فلما فقده صالح، قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه، فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس".
وفي رأيي إن معظم هذه الروايات التي يرويها الأخباريون عن ثقيف إنما وضعت في الإسلام، بغضاً للحجاج الذي عرف بقوته وبشدته، فصيروا ثقيفاً عبداً لأبي رغال، وجعلوا اصله من قوم نجوا من ثمود. وأبو رغال نفسه جاسوس خائن في نظر الأخباريين، حاول إرشًاد أبرهة إلى مكة، فكيف يكون أذن حال رجل من قوم فَسقَة كفَرَة، ثم صار عبداً لجاسوس لئيم وقد رأيت إن من أهل الأخبار من صيَرّ "ثقيفاً" رجلاً مهاجراً، هاجر في البلاد يلتمس العيش حتى جاء واديَ القُرَى، فتبنًّته عجوز يهودية، وعطفت عليه، حتى إذا ما ماتت اخذ مالها، وهاجر إلى الطائف، وكان لئيماً فطمع في غنمِ لأمَةٍ حبشية، وكاد يقتلها لولا إشارتها عليه باللجوء إلى "عامر بن الظَّرِب"، الجواد الكريم وصاحب الطائف، فأعطاه وحباه، ولكن أبى لؤم ثقيف إلا إن ينتقل إلى ولده، فتنكروا لبني عامر وأخرجوهم عن الطائف، واستبدوا وحدهم بها.
وبنو ثقيف حزبان: الأحلاف ومنهم: "غيلان بن سلمة" و "كنانة بن عبد ياليل" و"الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب"، و"ربيعة بن عبد ياليل" و "شرحبيل بن غيلان بن سلمة"و "عثمان بن أبي العاص" و "أوس بن عوف" و "نمير بن خرشة بن ربيعة"، وقد ذهب هؤلاء إلى الرسول وأسلموا، فاستعمل عليهم "عثمان بن أبي العاص". وأما القسم الثاني، فعرف ب "بني مالك"، وقد ذهب نفر منهم مع هذا الوفد إلى الرسول، فضرب لهم قبة في المسجد. وأما الأحلاف، فنزلوا ضيوفاً على "المغيرة بن شعبة" وهو من ثقيف. ومن الإخلاف في الإسلام: المختار بن أبي عبيد، والحجاج بن يوسف.
ومن زعماء الأحلاف عند ظهور الإسلام" أميةّ بن أبي الصلت، والحارث. ابن كلدة، ومعتب، وعتاب، وأبو عتبة، وعتبان.
ويذكر أهل الأخبار إن حربا وقعت بين "مالك" والأحلاف، فخرجت الأحلاف تطلب الحلف من أهل يثرب على "بني مالك"، وعلى رأسها "مسعود ابن معتب" رأس الأحلاف. فقدم على "احيحة بن الحلاّج"، أحد بني عمرو بن عوف من "الأوس". فطلب منه الحلف. فأشار عليه "احيحة"، إن عليه إن يعود إلى الطائف ويصالح إخوانه، فان أحداً لن يبر له إذا حالفهم، فانصرف "مسعود" عن "عتبة" بعد إن زوّده بسلاح وزاد وأعطاه غلاماً يبني الأسوار. فلما وصل، أمر الغلام ببناء سور حول الطائف. فبناه له، وأحيطت الطائف بسور قوي حصين، وأمنت بذلك على نفسها من غارات الإعراب.
ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة، وعن الأعراب من حيثُ ميلهُم إلى الزراعة واشتغالهم بها وعنايتهم بغرس الأشجار. وقد عرفت الطائف بكثرة زبيبها وأعنابها واشتهرت بأثمارها. وقد كان أهلها يعُنون بزراعة الأشجار المثمرة، ويسعون إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة لها، فقد استوردوا أشجاراً من بلاد. الشام ومن أماكن أخرى وغرسوها، حتى صارت الطائف تموّن مكة وغيرها بالأثمار والخضر.
وثقيف حضر مستقرون متقدمون بالقياس إلى بقية أهل الحجاز. فاقوا غيرهم في الزراعة اذ عنوا بها كما ذكرت مع واستفادوا من الماء فائدة كبيرة، وأحاطوا المدينة ببساتين مثمرة، كما فاقوا في البناء فبيوتهم جيدة منظمة، وكان لهم حذق ومهارة في الأمور العسكرية. وقد تجلى ذلك في دفاعهم عن مدينتهم يوم حاصرها الرسول وتحصنهم بسورهم، ورميهم المسلمين بالسهام وبالنار من فوق سورهم، يوم لم يكن لمكة ولا للمدينة سور ولا خنادق.
كذلك اختلف أهل الطائف عن غيرهم من أهل الحجاز في ميلهم إلى الحرف اليدوية مثل الدباغه والتجارة والحدادة، وهي حرف مستهجنة في نطر العربي، يأنف من الاشتغال بها. ولكن أهل الطائف احترفوها، وربحوا منها، وشغّلوا رقيقهم بها. وقد استفادوا من خبرة الرقيق، فتعلموا منهم ما لم يكن معروفاً عندهم من أساليب الزراعة وأعمال الحرف، فجددوا وأضافوا إلى خبرتهم خبرة جديدة.
وقد عاش أهل الطائف في مستوى هو أرفع من مستوى عامة أهل الحجاز، فقد رزقوا فواكه أكلوا منها، وجففوا بعضا منها مثل "الزبيب"، وأكلوا وصدروا منه ما زاد عن حاجتهم، كما اقتاتوا بالحبوب واللحوم. حتى حظ فقراء الطائف، هو أرفع وأحسن من درجة من حظ فقراء المواضع الأخرى من الحجاز.
وقّد ذهب المفسرون إلى أن كلمة القريتين الواردة في القرآن الكريم، تعني مكة و الطائف. )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم(.
و كان رؤساؤها من المثرين الكبار، لهم حصون يدافعون بها عن أنفسهم وعن أموالهم، ولهم علم بالحرب. ولحماية مدينتهم أقاموا حصوناً على مسافات منها، وحوّطوا مدينتهم بسور حصين عال، يردّ من يحاول دخولها، وجمعوا عندهم كل وسائل المقاومة الممكنة التي كانت معروفة في ذلك العهد، مثل أوتاد الحديد التي تحمى بالنار لتلقى على الجنود المختفين بالدبابات، وغير ذلك من وسائل المقاومة والدفاع، كما كانوا قد تغلّموا من أهل اليمن مثل مدينة "جرش" صناعة العرادات والمنجنيق والدبابات.
وكان أغنياء "الطائف"، كأغنياء مكة وأغنياء المواضع الأخرى من جزيرة العرب أصحاب ربا، ولما اسلموا اشرط عليهم الرسول أن لا يرابوا، ولا يشربوا الخمر.وكتب لهم كتاباً. وكانت لهم تجارة مع اليمن، ولكننا لا نسمع شيئاً عن قوافل كبيرة كقوافل أهل مكة، كانت. تتاجر مع بلاد الشام أو العراق. ولعلهم كانوا يساهمون مع تجار مكة في اتجارهم مع تلك الديار.
وقد اشتهرت الطائف بدباغة الجلود، وذكر أن مدابغها كانت كثيرة، وان مياهها كانت تنساب إلى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية. واشتهرت بفواكهها وبعسلها.
وقد استغل أثرياء قريش أموالهم في الطائف، فاشتروا فيها الأرضين وغرسوها واستثمروها، واشتروا بعض المياه، وبنوا لهم منازل في الطائف ليتخذوها مساكن لهم في الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف في أعمال تجارية رابحة، وربطوا حبالهم بحبالهم، وحاولوا جهد إمكانهم ربط الطائف بمكة في كل شيء.
ولما فتحت مكة، وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين، وصارت أرض الطائف مخلافاً من مخاليف مكة.
وقد كان بين أهل مكة وأهل الطائف تنافس وتحاسد، وقد حاول أهل الطائف جلب القوافل اليهم، وجعل مدينتهم مركزاً للتجار يستريحون فيه، وقد نجحوا في مشروعهم هذا بعض النجاح يوم استولى الفرس على اليمن، وتمكنوا فيه من طرد الحبش عن العربية الجنوبية، فصارت قوافل "كسرى" التجارية و "لطَائم" ملوك الحيرة تذهب إلى اليمن وتعود منها من طريق الطائف، ونغصت بذلك عيش أهل مكة، غير إن أهل مكة تمكنوا من التغلغل إلى الطائف ومن بسط سلطانهم عليها، بإقراض سادتها الأموال، وبشراء الأرضين. فبسطوا بذلك سلطانهم عليها، وأقاموا بها أعمالاً اقتصادية خاصة ومشتركة، وهكذا استغل أذكياء مكة هذا الموضع المهم، وحوّلوه إلى مكان صار في حكم التابع لسادات قريش.
ومن سادات الطائف: "عبد ياليل" وأخوته "حبيبا" و "مسعودا" و "ربيعة" و "كنانة" وهم "بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي"، وكانوا أثرياء أجواداً يطعمون بالرياح. وأمهم "قلابة بنت الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" الثقفي. وبيت "بني علاج" من البيوت القديمة المعروفة بالطائف.
وقد لقي الرسول مقاومة عنيفة من أهل الطائف حين حاصرها وأحاط بها، فقد تحصن أهلها بحائطهم وبحصونهم، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وصنعوا الصنائع للقتال. إما من كان حول الطائف من الناس، فقد أسلموا كلهم. ولما ضيق المسلمون الحصار عليها، وقربوا من الحائط، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبّابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد فحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالاً، فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف،كي يحملهم على فتح أبواب مدينتهم ومهادنة الرسول، للإبقاء على أموالهم، غير انهم لم يبالوا بما رأوا من قطع أعنابهم وتخريب بساتينهم، وبقوا على عنادهم، مما حمل الرسول على ترك حصارهم والرحل عنهم انتظاراً لفرصة أخرى.
ويذكر أهل الأخبار، إن "سلمان الفارسي"، اتخذ منجنيقاً نصبه المسلمون على الطائف، وان المسلمين كانت لهم دبّابة، جاء بها "خالد بن سعيد بن العاص" من "جرش".
ويذكر الطبري إن عروة بن مسعود، وهو من وجوه الطائف، كان قد تعلم مع غيلان بن سلمة صنعة الدبابات والضّبور والمجانيق من أهل جرش. وقد اشتهرت هذه المدينة بصنع آلات الحرب.
ولما انصرف الرسول عن الطائف، اتبع أثره "عروة بن مسعود بن معتب" حتى أدركه قبل إن يصل إلى المدينة، فأسلم. فلما رجع إلى الطائف على أمل إقناع أهلها بالدخول في الإسلام، لمكانته فيهم، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سمم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهراً، ثم انهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فأرسلوا وفداً إلى المدينة لمفاوضة الرسول على الدخول في الإسلام. فلما دخلوا عليه أبوا إن يحيوّه إلا بتحية الجاهلية، ثم سألوه إن يدع لهم "الطاغية"، وهي اللات لا يهدمها إلى أجل، لأنهم أرادوا بذلك "فيما يظهرون إن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون إن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا إن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية إن يعفيهم من الصلاة، وان يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه. وأما الصلاة، فلا خير في دين لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة".
فلما وصل الوفد ومعه أبو سفيان والمغيرة بن شعبة، إلى الطائف، وأرادا هدم الصنم، "أراد المغيرة إن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول، وقام قوم دونه-بنو مُعتب -خشية إن يرمى أو يصاب... وخرجن نساء ثقيف حسّراً يبكين" "ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهاً لك. فلما هدمها المغيرة، أخذ مالها وحُليهَّا، وأرسل إلى أبي سفيان وحليهّا مجوع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان إن يقضي من مال اللات دين عروة. والأسود ابني مسعود، فقضي منه دينهما".
وذكر عن "عروة بن مسعود الثقفي" انه كان من الرجال الذين كانوا عندهم عشر نسوة عند مجيء الإسلام، وانه نادى على سطحه بالطائف بالأذان أو التوحيد، فرماه رجل من أهل الطائف فقتله، وان الرسول، قال فيه: "مثله مثل صاحب ياسين". "ويقال إنه الذي ذكره الله عز وجل في التنزيل من القرينين عظيم. وذكر بعض أهل العلم إن أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام" عروة بن مسعود، والجارود واسمه: بشر بن المعلى، وجرير بن عبد الله، وسراقة بن جعشم المُدْلجي".
وثقيف أقرب في الواقع إلى اليمن منهم إلى أهل الحجاز. وتكاد تكون ثقافتهم ثقافة يمانية، وحياتهم الاجتماعية حياة اجتماعية من النوع المألوف في اليمن. حتى في الوثنية نجد لهم معبداً خاصاً بهم، يتقربون إليه ويحجون له. ولعلّ هذه الاختلافات وغيرها هي من جملة العوامل التي صَيرت ثقيفاً مجتمعاً خاصاً معارضاً لمجتمع مكة، وجعلت أهل الطائف يكرهون أهل مكة الذين امتلكوا أملاكاً في الطائف، وكانوا يأتون إليها في الصيف هرباً من جوّ مكة المحرق.
ومن بطون ثقيف، "بنو الحطيط" و "بنو غاضرة". ومن " بني الحطيط "مالك بن حطيط"، وكان من ساداتهم في الجاهلية، ومن ثقيف الشاعر أمية بن أبي الصلت. "وكان بعض العلماء يقول لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف إن أمية نبيّ، لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم ودارس اليهود وكل الكتب قرأ. ولم يسلم ورثى قتلى بدر. ومن رجالهم "أبو محجن"، كان شاعراً فارساً شجاعاً شهد يوم القادسية، وكان له فيها بلاء عظيم، وقد شهد يومئذ "عمرو بن معد يكرب" وغيره من فرسان العرب، فلم يبل أحد بلاءه. و "الأخنس بن شريق"، وتزعم ثقيف انه أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما في القرآن، على رجل من القريتين عظيم: "الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة. وقد كان حليفا لبني زهرة. وقد خنس ببني زهرة يوم بدر.
ومن ثقيف "بنو علاج"، ومنهم "الحارث بن كلدة". "كان طبيب العرب في زمانه وأسلم ومات في خلافة عمر". والمغيرة بن شعبة.
ومن بني ثقيف عثمان والحكم ابنا أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، كانا شريفين عظمي القدر، ولى "عمر" عثمان عمان والبحرين وأقطعه الموضع المعروف بالبصرة ب "شط عثمان". ومنهم "تميم بن خرشة بن ربيعة"، أحد وفد ثقيف إلى رسول الله، ومن فرسانهم في الجاهلية" "أوس بن حذيفة" وأدرك الإسلام، و "ضبيس بن أبي عمرو"، و "همام بن الأعقل" وآخرون.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق