782
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفضَل الثالث وَالأربعون
يثرب والطائف
وكان ليثرب مكان مهم عند ظهور الإسلام، وفيها وفي أطرافها سكنت جاليات من يهود. وهي من المواضع التي يرجع تأريخها إلى ما قبل الميلاد. وقد ذكرت في الكتابات المعينية، وكانت من المواضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين. ولعلّ هذا السكن هو الذي حمل للنسابين على إرجاع نسب أهل يثرب إلى اليمن، فقالوا إنهم من الأزد، وإنهم من "قحطان".
وللأخباريين كعادتهم آراء في الاسم، قالوا إنها سميت "يثرب" نسبة إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل بن أرم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"، وكان أول من نزلها فدعيت باسمه. وقالوا" بل قبل لها "يثرب" من التثريب، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل.
وزعم أهل الأخبار إن الرسول لما نزلها كره إن يسميها "يثرب"، فدعاها "طيبة" و "طابة". وذكروا لها تسعاً وعشرين اسماً، منها: "جابرة" و "مسكينة" و "محبورة" و "يندر الدار" و "دار الهجرة".
ويذكر بعض أهل الأخبار إن أقدم من سكن "يثرب" في سالف الزمان قوم يقال لهم "ُصعل" و "فالج"، فغزاهم النبي "داوود" وأخذ منهم أسرى، وهلك أكثرهم وقبورهم بناحية "الجرف". وسكنها "العماليق"، فأرسل عليهم النبي "موسى" جيشاً انتصر عليهم، وعلى من كان ساكناً منهم ب "تيماء"، فقتلوهم، وكان ذلك في عهد ملكهم الملك "الأرقم بن أبي الأرقم". ولم يترك الإسرائيليون منهم أحداً، وسكن اليهود في مواضعهم.
ونزل عليهم بعض قبائل العرب، فكانوا معهم واتخذوا الأموال والآطام والمنازل. ومن هؤلاء "بنو أنيّف"، وهم حيّ من "بليّ"، ويقال انهم بقية من العماليق، و "بنو مُريد" مزيد "مرثد"، حيّ من "بليّ"، وبنو معاوية ابن الحارث بنُ بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجدمى "الجدماء" حيّ من اليمن، فعاشوا مع من كان بيثرب وأطرافها من اليهود، واتخذوا المنازل والآطام يتحصنون فيها من عدوهم إلى قدوم الأوس والخزرج إياها.
وكان قدوم "الأوس" و "الخزرج" على أثر حادث "سيل العرم"، فأجمع "عمرو بن عامر بن حارثه بن ثعلبة"، الخروج عن بلاده وباع ما له بمأرب، وتفرق ولده، فنزلت الأوس والخزرج "يثرب" وارتحلت "غسان" إلى الشام، وذهبت "الأزد" إلى عمان وخزاعة إلى تهامة. وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثوا معهم أمداٌ وعقدوا معهم حلفاً وجوارا يأمن به بعضهم بعضاً ويمتنعون به ممن سواهم، فلم يزالوا على ذلك زماناً طويلاً، حتى نقضت اليهود عهد الحلف والجوار، وتسلطها على يثرب، فاستعان الأوس والخزرج بأقربائهم على اليهود، فغلبوهم، وصارت الغلبة للعرب على المدينة منذ ذلك العهد، على نحو ما سأتحدث عنه بعد قليل.
وأقدمُ مورد أشير فيه إلى "يثرب"، هو نص الملك "نبونيد" ملك بابل، الذي سكن "تيماء" أمداً، وذكر فجه إنه بلغ هذه المدينة. كما سلف إن تحدثت عن ذلك فيَ أثناء حديثي عن صلات العرب بالبابليين. وقد عرفت ب "يثربه" "Jathripa" في جغرافيا "بطلميوس" وعند "اصطيفان البيزنطي". وعرفت ب "المدينة" كذلك من كلمة "Nedinta" "Medinto" الإرمية، التي تعني "مدينة" في عربيتنا و "هكر" في العربية الجنوبية. وقد ورد اسمها في الكتابات المعينية.
ويظهر إنها عرفت ب "مدينة يثرب" على نحو ما وجدنا في كتاب "اصطيفان البيزنطي"، ثم اختصرت، فقيل لها "مدينتا"، أي "المدينة". ولما نزل الرسول بها، عرفت بأ "مدينة الرسول" في الإسلام.
وولقدم تأريخ "يثرب" ولورود اسمها في نص "نبونيد"، الذي يدل على إنها كانت معروفة اذ ذاك، لا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات وآثار قد تكشف عن بعض تأريخ هذه المدينة في أيام ما قبل الإسلام.
ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود حرم أو بيت بيثرب، كان يتعبد فيه اليثربيون ويتقربون إليه بالنذور، مع انهم أشاروا إلى بيت اللات في الطائف. ويثرب مدينة مثل الطائف ومثل مدن أخرى كانت ذات محمضات ومعابد. وقد كان أهل يثرب مثل غيرهم من العرب مشركين يتقربون إلى الأصنام، وكانوا يحفظون أصناماً لهم في بيوتهم يتقربون إليها، كما كانوا يحجون إلى محجات كانت على مسافة من يثرب ولذلك يبدو غريباً سكوت أهل الأخبار عن ذكر بيت في هذه المدينة، يحج له الأوس والخزرج ومن والاهم من قبائل وعشائر.
وضر في مواضع لا تبعد كثراً عن "يثرب" على كتابات جاهلية، لم تعرف هويتها الآن، لأن الباحثين لم يتمكنوا من فحص مواضعها ومن نقلها إلى العلماء المختصين لقراءتها. كما انهم لم يتمكنوا من تصويرها ولا من التنقيب في تلك الأماكن تنقيباً علمياً. وقد أشار "عثمان ورستم" إلى وجود كتابات من هذا النوع على جبل "سلع"، وعند موضع "بئر عروة" بوادي العقيق وفي أماكن أخرى. أرجو إن يصل إليها الباحثون للتنقيب فيها ولحل رموز هذه الكتابات.
وقد يعثر على كتابات أخرى مطمورة في تربة "يثرب" وفي الأماكن القريبة منها، تكجف للقادمين من بعدنا أسرار هذه المدينة المقدسة.
ويثرب، مثل مكة من شعاب، تسكنها بطون الأوس والخزرج: الأوس في شعاب، والخزرج في شعاب، واليهود في شعاب. وفي الشعاب "حوائط"، بساتين صغيرة، وفي الحوائطَ "آبار" يسفون منها للشرب وللسقي وللغسل، كما كانت فيها دور مبنية بالأجر ودور مبنية باللبن. وبعضها ذو طابقين. وقد احتفر اليهود آباراً، كانوا يبيعون الماء منها بالدلاء، مثل "بئر ارومة"، وكانت ليهوي، وقد أمر الرسول بشرائها، فاشتراها عثمان. ومن آبار المدينة "بئر ذروان"، وهي البئر التي ذكر إن لبيد "ابن الأعصم" اليهودي سحر بها الرسول.
ويثرب على شاكلة مكة، بغير سور ولا حائط يحيط بها، ولا خندق يقف حائلاً أمام من يريد بالمدينة سوءاً. وقد كان عماد دفاع أهلها بالتحصن في بيوتهم وبسدّ منافذ الطرق في أثناء الخطر. والأغنياء الموسرون يعتمدون على آطامهم وحصونهم وقصورهم، يلجؤون إليها عند الشدة ومن معهم من اتباعهم يرمون أعداءهم من فوق السطوح بالسهام وبالحجارة، اذ لا حائط يحيط بها على نحو ما كان لمدينة الطائف. وقد تحارب الأوس والخزرج على الآطام، وأرخوا بتلك الحرب، وصاروا يؤرخون ب "عام الآطام". وذكر إن أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يمتنعون بها، فأخربت في أيام عثمان.
ويظهر من وصف أهل الأخبار ليثرب، إنها كانت تشبه مدينة "الحيرة" بالعراق من حيث خلوّها من سور ومن تكوّنها من "قصور"، هي بيوت السادة ومعاقل المدينة ومواضع دفاعها آناء الشدة وأوقات الحروب. وقد عرفت ب "أطم" و "آطام" عند أهل يثرب. وذكر إن "الأطم" كان حصن بُنِيَ بحجارة، أو كل بيت مربع مسطح. وورد إن "الأطُوم": القصور وحصون لأهل المدينة والأبنية المرتفعة كالحصون.
والمدينة عند "وادي اضم". يقال للقسم الذي هو عند المدينة منه "القناة" والذي هو أعلى منها عند السدّ: الشظاة، اما ما كان اسفل ذلك، فيسمى أضماً إلى البحر. وذكر إن اضم واد يشق الحجاز حتىُ يفرغ في البحر. وأعلى اضم القناة التي تمر دُوين المدينة. وًان المدينة هي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين الماء الذي يقال له "البوا" إلى "زبالة".
وجوّ "يثرب" على العموم خير من جو مكة، فهو ألطف وأفرح. ولم يعانِ أهلها ما عانى أهل مكة من قحط في الماء ومن شدة في الحصول عليه، حتى بعد حفر "بئر زمزم". فالماء متوفر بعض الشيء في المدينة، وهو غير بعيد عن سطح الأرض، ومن الممكن الحصول عليه بسهولة بحفر آبار في البيوت. وهذا صار في إمكان أهلها زرع النخيل، وإنشاء البساتين والحدائق، والتفسح فيها، والخروج إلى أطراف المدينة للنزهة، فأثر ذلك في طباع أهلها فجعلهم ألين عريكة وأشرح صدراً من أهل البيت الحرام.
وتأريخ المدينة مثل سائر تواريخ هذه الأماكن التي نتحدث عنها، مجهول لا نعرف من أمره شيئاً يذكر، وإنما ما يذكره الأخباريون عن وجود العماليق وجرهم بها فأمره وان قالوه، لا يستند إلى دليل، وحكمه حكم الأخبار الأخرى التي يروونها والتي عرفنا نوع اكرها وطبيعته. ولكن الشيء الذي نعرفه بقيناً إن أهل المدينة كانوا ينتسبون عند ظهور الإسلام إلى يمن، وكاوا يقسمون أنفسهم فرقتين" الأوس والخزرج. وبين الفرقتين صلة قربى على كل حال. ثم يذكرون انه كان بينهم يهود، وهم على زعمهم من قدماء سكان يثرب.
ويلاحظ إن الأوس والخزرج لا يدعون أنفسهم بأبناء حارثة، وإنما يدعون أنفسهم ب "بني قيلة" وب "ابني قيلة" ويقصدون بها "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، أو "قيلة بنت هالك بن عُذْرَة" من قضاعة، أو "قيلة بنت كامل بنُ عذْرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف ابن قضاعة". ولا بد إن يكون لهذه الامرأة التي ينتسبون إليها شهرة في الجاهلية حملتهم على الانتساب إليها. وقد ورد إن "قيلة" اسم ام الأوس والخزرج، وهي قديمة.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار إن الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا اتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبعّ يدعوهم إلى طاعته، فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه العشاء ليلاً، فما طال مكوثه ورأى كرمهم رحل عنهم.
ويُرجع الأخباريون مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة. إلى حادث سيل العرم، ويقولون انهم لما جاءوا إلى يثرب وجدوا اليهود وقد تمكنوا منها، فنزلوا في ضنك وشدة، ودخلوا في حكم ملوك يهود إلى أيام ملكهم المسمى "الفيطوان" أو "الفيطون" أو "الفِطيون"، وكان رجلاً شديداً فظاً يعتدي على نساء الأوس والخزرج، فقتله رجل منهم اسمه "مالك بن العجلان" وفرّ إلى الشام إلى ملك من ملوك الغساسنة اسمه "أبو جبيلة". وفي رواية انه فرّ إلى "تبع الأصغر بن حسان". وتذكر الرواية إن أبا جبيلة سار إلى المدينة ونزل بذي حرض، ثم كتب إلى اليهود يتودد اليهم، فلما جاؤوا إليه قتلهم، فتغلبت من يومئذ الأوس والخزرج، وصار لهم الأموال والآطام. ثم رجع "أبو جبيلة" إلى الشام. وصارت اليهود تلعن "مالك بن عجلان". وهم يروون في ذلك أبياتاً ينسبونها إلى شاعر اسمه "الرمق بن زيد الخزرجي". ويذكر الأخباريون إن اليهود صوّرت "مالك بن عجلان" في كنائسهم وبيعهم ليراه الناس فيلعنوه.
وذكر "ابن دريد" إن "الفطيون"، اسم "عبراني"، وكان تَمَلَّك بيثرب، وكان هذا أول اسم في الجاهلية الأولى. وقد شهد بعض ولد الفطيون بدراً، واستشهد بعضهم يوم اليمامة، فمن ولد "الفطيون"" أبو المقشعر، واسمه أسيد بن عبد الله. ويذكر بعضهم إن اسم "الفطيون"، هو "عامر ابن عامر بن ثعلبه بن حارثة بن عمرو بن الحارث المحرق بن عمرو مزيقياء". فهو من العرب على رأي هذا البعض، ومن اليمن، وليس من أصل عبراني.
وأبو جبيلة عند بعض الأخباريين، هو "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج. فهو على هذه الرواية رجل من الخزرج ذهب إلى ديار الشام، فملك على غسان. وذهب بعض آخر من الأخباريين إلى انه لم يكن ملكاً، وإنما كان عظيماً ومقرب عند ملك غسان. ونسبه بعض أهل الأخبار إلى "بني زريق"، بطن من بطون الخزرج. ونعته ب "أبي جبيلة الملك الغساني".
ونحن إذا أخذنا بهذه الرواية، وجب علينا القول: إن أخذ الأوس والخزرج أمر المدينة بيدهم، وزحزحة اليهود عنها، يجب إن يكون قد وقع في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في زمن لا يبعد كثيراً عن الإسلام. لأننا نجد إن أحد أولاده وهو "عثمان بن مالك بن العجلان" في جملة من دخل في الإسلام وشهد بدراً، كما نجد جملة رجال من "بني العجلان"، من أبناء أخوة "مالك" وقد شهدوا "بدراً" ومشاهد أخرى، وهذا مما يجعل زمن "مالك" لا يمكن إن يكون بعيداً عن الإسلام.
ويظهر من دراسة هذه الأخبار المروية عن اليهود وملكهم "الفطيون" وعن الأوس والخزرج وما فعلوه بايهود، إن عنصر الخيال قد لعب دوراً في هذا المروي في كتب أهل الأخبار عن الموضوع. ونجد في القصص المروي عن ملوك اليمن وعن ولعهم بالنساء وعملهم المنكر بهن، ما يشبه هذا القصص الذي نسب إلى "الفطيون". ونجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي ايرويه أهل الأخبار عن ملوك الجاهلية. وما قصة "الفطيون" إلا قصة واحدة من هذا القصص الذي نبد للغرائز الجنسية مكانة بارزة فيه.
ويظهر إن كلمة "الأوس" هي اختصار لجملة "أوس مناة". و "مناة" كما نعلم صنم من أصنام الجاهلية. و "الأوس" هو جدّ الأوس، وهو في عرف النسَّابين "أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن مرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد".
وينقسم الأوس إلى بظون، منهم: عوف، والنبيت، وجشم، وُمرّة، وامرؤ القيس. وقد عرف "بنو مرّة" بالجعادرة كذلك. واتفقت جشم ومرة وامرؤ القيس وكونت حلفاً عرف ب "أوس اللاة". وب "أوس" كذلك. وانقسمت هذه الكتلة إلى أربعة أقسام، هي: ختمة وهي "جشم" في الأصل، وأمية، ووائل وهي مرة، وواقف وهي امرؤ القيس. وانقسمت هذه البطون إلى أفخاذ عديدة، حدثت بينها منازعات وحروب.
ويرجع أهل الأخبار نسب أهل "قباء" إلى "عوف"، ونسب "النبيت" إلى "عمرو"، ونسب "الجعادرة" إلى "مرّة". وقيل انهم سموّا بذلك لأنهم كانوا يقولون للرجل إذا جاورهم "جعدرْ حنث شئت، فأنت آمن. أي اذهب حيث شئت". ومنهم بنو كلفة وبنو حنش وبنو ضبيعة.
ومن الأوس "أحيحة بن الجَلاّح بن الحريش بن جحجبا"، سيد الأوس في الجاهلية شاعر. وكانت عنده "سلمى بنت عمرر النجارية"، وأولاده منها إخوة عبد المطلب. وهو من "بني جحجبا". ومن ولده "المنذر بن عقبة ابن أحيحة بن الحلاّح"، شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة. وله أشعار ذكرها الرواة، منها أبيات في رثاء ابن له.
وأما الخزرج، فانهم إخوة الأوس في عرف النسابين. فالخزرج، وهو جدّ الخزرج، هو شقيق أوس. وهو "الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد" وقد جاء نسله كما جاء نسل الأوس من اليمن بعد حادث سيل العرم، وسكنوا يثرب والى الشمال منها حتى "خبر" و "تيما،". وتأريخهم مثل تأريخ الأوس في رأي الأخباريين بدأ بالاتصال باليهود وبالعيش معهم وبينهم إلى إن تمكنوا منهم بعد الحادث الذي ذكرته وبعد مجيء أبي جبيلة لنصرتهم.
ومن سادات الأوس عند ظهور الإسلام، "سعد بن معاذ"، الذي قتل يوم "الخندق"، وأخوه "عمرو بن معاذ"، وقتل يوم أحد". و "سماك ابن عتيك" فارسهم في الجاهلية، وابنه "حضير الكتائب"، وكان سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث. وابنه "أسيد بن حضير"، شهد بدراً. ومنهم "أبو الهيثم بن التيهان"، وكان نقيباً، شهد العقبة وبدراً. و "قيس بن الخطيم بن عدي." الشاعر. و "سعد بن خيثمة !، وكان نقيباً، وقتل يوم بدر، وأبو قيس بن الأسلت الشاعر. و "شاس بن قيس بن عبادة"، وكان من أشراف الأوس في الجاهلية.
والخزرج أيضاً بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى "تيم الله بن ثعلبة" والحارث، وجعثم، وعوف، وكعب. ويلاحظ إن جشماً وعوفاً هما اسما بطنين أيضاً من بطون الأوس.
ومن الخزرج "أبو أيوب خالد بن زيد"، نزل عليه النبيّ أيام قدم المدينة. و "نعيمان بن عمرو"، وكان النبي يسخف نعيمان، لم يلقه قط إلا ضحك إليه. و "أسعد الخير بن زرارة بن عدس"، شهد العقبة وكان نقيباً، و "أبو أنس بن صرمة" الشاعر، وهو جاهلي، و "ثابت بن قيس بن شاس"، خطيب رسول الله، وعمرو بن الاطنابة الشاعر، جاهلي وهو أحد فرسان الخزرج. و "سعد بن عبادة بن دليم" وابنه "قيس بن سعد بن عبادة" وكان نقيباً سيداً جواداً، وابنه قيس أجود أهل دهره في أيام معاوية، ومنهم "مالك بن العجلان" قاتل "الفطيون"، وأبنه "عثمان بن ممالك بن العجلان"، شهد "بدراً"، و "خالد بن قيس بن العجلان"، شهد بدراً، و "عمرو بن النعمان بن كلدة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة". رأس الخزرج يوم بعُاث. و "رافع بن مالك بن العجلان"، وهو أول من أسلم من الأنصار، و "النعمان بن العجلان". و "مرداس بن مروان"، شهد يوم الحديبية، وبايع تحت الشجرة، وكان أمين النبي على، سُهمان خيبر، و "خشرم بن الحباب"، وكان حارس النبي. و "البرّاء بن معرور"، عقبيّ وكان نقيباً، وهو أول من أوصى بثلث ماله وأول من استقبل القبلة، وأول من حفن عليها. و "أبو قتادة بن ربعي" فارس النبي.
ويذكر الأخباريون انه كان للخزرج رئيس منهم، هو "عمرو بن الأطنّاية"، وقد ملك الحجاز. وكان ملكه على رأيهم في أيام "النعمان بن المنذر"، قتله الحارث بن ظالم قائل خالد بن جعفر بن كلاب. وكانت بينه وبين "عمرو" خصومة. وذكر إن "عمراً"، قال شعراً يهزأ فيه بالحارث جاء فيه: أبلغ الحارث بن ظالم الموُعدَ والنافر الـنـذور عَـلـيَا
إنما تقتل النيام ولا تـقـتـل يقظان ذا سـلاحّ كـمـيّا
وكان عمرو شاعراً ومن الفرسان.
وبالرغم من صلة الرحم القريبة التي كانت بين الأوس والخزرج، فقد وقعت بينهما حروب ترك لا فيها من الطرفين خلق كثير، وأول حرب وقعت بين الأوس والخزرج هي على رواية الأخباريين حرب "سمير" "سميحة". و "سمير" في روايتهم رجل من الاْوس من بني عمرو، شتم رجلاً اسمه كعب بن العجلان، وهو من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان، نزل على مالك بن العجلان رئيس الخزرج وحالفه وأقام معه، ثم قتله. فثارت الثائرة ببن الأوس بسبب هذا القتل وبسبب دفع دية القتيل، ثم وقعت الحرب. ثم اتفقوا على إن يضعوا حكماً بينهم يفصل في الأمر، فوقع اختيارهم على "المنذر بن حرام التجاري الخزرجي". وهو جدّ حسان بن ثابت، فحكم بينهم بأن يؤدوا لكعب دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنّتهم القديمة، وهي دفع نصف الدية عن الحليف. فرضوا وتفرقوا، ولكن بعد إن تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس الطرفين.
واشتعلت نيران حرب أخرى بين الأوس والخزرج لسبب امرأة من "بني سالم". وفد كانت الحرب في هذه المرة بين "بني جحجبا" من الأوس و "بني مازن بن النجار" من الخزرج. وقد وقعت في موضع "الرحابة" انهزمت فيه "بنو جحجبا".
ثم تجددت الحرب بين "عمرو بن عوف" من الأوس وبني الحارث من الخزرج بسبب مقتل رجل من بني عمرو، وقد عرفت هذه الحرب باسم" "يوم السرارة". وقد كان على الأوس "حضير بن سماك". وهو والد "أسيد بن حضير"، وكان على الخزرج "عبد الله بن سلول" "عبد الله بن أبيَّ" المعروف في الإسلام ب "رأس المنافقين". وقد انتهت بانصراف الأوس إلى دورها، فعدت الخزرج ذلك نصراً لها.
ووقعت حرب أخرى لأسباب تافهة كهذه الأسباب. وما كانت لتقع لولا هذه العصبية الضيقة يثيرها في الغالب أفراد لا منازل كبيرة لهم في المجتمع ومنهم من الصعاليك والمغمورين بأمور سخيفة، فإذا وقع على أحدهم اعتداء نادى قومه للأخذ بثأره، فنثور الحرب. ومن هذه الحروب، حرب بني وائل ابن زيد الأوسيين، وبني مازن بن النجار الخزرجيين، وحرب بني طفر من الأوس وبن بني مالك من الخزرج، وحرب فارع، وحرب حاطب، ويوم الربيع، وحرب الفجار الأولى، وهي غير حرب الفجار التي وقعت بين قيس وكنانة، ثم حرب معبس ومضرس، وحرب الفجار الثانية، ثم يوم بعاث. وكان اليوم آخر الأيام المشهورة التي وقعت بين الأوس والخزرج.
وكان رئيس الخزرج في يوم بعاث "عمر بن النعمان بن صلاءة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة". أما رئيس الأوس، فكان "حضير الكتائب بن سحلك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل". وقد ساعد الخزرج في هذا اليوم أشجع من غطفان، وجهينة من قضاعة. وساعد الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس، وقريضة والنضير. وقد قتل فيه "عمرو بن النعمان" رئيس الخزرج. فانهزم الخزرج، وانتصرت الأوس.
وكان "حضير الكتائب بن سماك" سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث. ركز الرمح في قدمه وقل: ترون أفر!? فقتل يومئذ. وابنه "أسيد بن حضير" من الصحابة الذين شهدوا العقبة وبدراً.
وقد تخلل أخبار هذه الأيام كالعادة شعر، ذكر إن شعراء الطرفين المتخاصمين قالوه على الطريقة المألوفة في الفخر، وفي انتقاص الخصم، وفي إثارة النخوة لتصطلم الحرب ويستميت أصحاب الشاعر في القتال. وقد كأن المحلّق في هذه الأيام حسان بن ثابت الشاعر المخضرم الشهير، شاعر الرسول. وهو لسان الخزرج والمدافع عنهم، و "قيس بن الخطيم" وهو من الأوس، ثم جماعة ممن اشتركوا في المعارك، مثل: عامر بن الاطنابة، والربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وعبد الله بن رواحة وآخرون.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يثرب إن الأوس والخزرج، لم يكونوا كأهل مكة من حيث الميل إلى الهدوء والاستقرار، بل كانوا أميل من أهل مكة إلى حياة البداوة القائمة على الحصمومة والتقاتل. وقد بقي الحياّن يتعاصمان حتى جاء الرسول إليهما، فأمرهما بالكفّ عنه، ووجّههما وجهة أخرى أنستهما الخصومة العنيفة التي كانت فيما بينهما. ويظهر من رواياتهم أيضاً إن الأوس والخزرج، كانوا قد تحضروا واستقروا، غير انهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصاً تاماً، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقائل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة بهما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة. ونظراً لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج ب "الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب.
وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجاراً، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام. وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضاً، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدُمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام". وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة.، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول" عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"، وتهيأ لملاقاة المسلين.
ولم يذكرا الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا روماً أم عرباً، أم يهوداً، أم كانوا خليطاً من كل هؤلاء. على كل كانوا تجاراً يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم.
هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعدّ من المواضع المقدسة في الإسلام بد وان يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام. وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق