إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

162,206

الجمعة، 1 يناير 2016

781 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثاني والأربعون أغنياء ومعدمون


781

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الثاني والأربعون

أغنياء ومعدمون


كان أهل مكة بين غنيُ متْخم وفقر معدِم. وبين الجماعتين طبقة نستطيع إن نقول إنها كانت متوسطة. وأغنياء مكة، هم أصحاب المال، وقد تمكنوا من تكثيره بإعمال ما عندهم من مال بالاتجار وبإقراضه للمحتاج إليه، وبإعماله بالزراعة، واستغلاله بكل الطرق المربحة التي يرون إنها تنفحهم بالأرباح.

وقد تمكن هؤلاء الأغنياء من بسط سلطانهم على قبائل الحجاز، ومن تكوين صلات وثيقة مع أصحاب المال في العربية الجنوبية وفي العراق وبلاد الشام، بحيث كانوا يتصافقون في التجارة ويشار كونهم في الأعمال، حتى صاروا من أشهر تجار جزيرة العرب في القرن السادس للميلاد.

ويظهر مما جاء في القرآن الكريم إن بعض هؤلاء الأغنياء كان قاسياً، لم تدخل الرحمة ولا الشفقة قلبه. فكان يقسو على المحتاج، فلا يقرضه المال إلا بربىً فاحش وكان يشتط عليه. وكان بعضهم لا يتورعون من أكل أموال اليتيم والضعيف، طمعا في زيادة ثرائه. وكان يستغل رقيقه استغلالاً شنيعاً، حتى انه كان يكره فتياته على البغاء ليستولي على ما يأتن به من مال. وفي ذلك نزل النهي عنه في الإسلام. )ولا ُتكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا(. قال "الطبري": "كانوا في الجاهلية يكرهون إمامهم على الزنا. يأخذون أجورهن. فقال الله، لا تكرهوهن على الزنا من أخل المنالة في الدنيا. ومن يكرههن، فإن الله من بعد اكراهن غفور رحيم لهن. يعني إذا أكرهن". وقال: "كانوا يأمرون ولائدهم يباغين، يفعلن. ذلك، فيصبن فيأتينهم بكسبهن". وروي إن هذه الآية نزلت في حق "عبد الله ابن أبي سلول" وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويثرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس، بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة، على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئاً. وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة. ولعلّ هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال.

وقد حرص هؤلاء الأغنياء على إكثار أموالهم، وعلى توسيع تجارتهم، لذلك كانت هجرة الرسول إلى يثرب وتحرش المسلين بقوافلهم الذاهبة الآيبة بين بلاد الشام ومكة لطمة كبيرة أصابتهم. لقد اجتمع ملأهم بعد وقعة بدر للتداول في أمرهم. فقال قائل منهم: "قد عوّر علينا محمد مَتْجَرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا. قال زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى. قال صفوان؛ من هو? فحاجتنا إلى الماء قليل. إنما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان، فدعواه فاستأجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على "غمرة". وانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبر العير وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية، فخرج زيد بن حارثة، فاعترضها، فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم، فكان الخمس عشرين ألفاً، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الأربعة أخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيّان العجلي أسيراً، فقيل، إن أسلمت لم يقتلك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، أسلم، فأرسله". وقد عرفت هذه الغزوة ب "غزوة القردة". وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة.

وقد أشير في ديوان "حسان بن ثابت" إلى "فرات" هذا، كما أشير إلى رجل آخر هو "قيس بن امرئ القيس العجلي"، استأجرته قريش كذلك، ليكون لها دليلا يهدي قوافلها الطريق.

وقد كانت قريش، كما كان غير قريش، ومنهم المسلمون يستعينون بالأدلاء لإرشادهم الطرق، ولاسيما في أيام الخطر. وأيام جزيرة العرب كلها خطر دائم بالنسبة للتجار، لما كانوا يحملونه معهم من أموال، تسيل لعاب الطامعين في المال، وتنسيهم كل عهد وموثق. لشك كانوا يتحسسون جهدهم الطرق، ولا يسيرون إلا في الطرق الآمنة التي يوثق من ذمم أصحابها ومن قدرة سادتها على ضبطها وعلى إنزال أقصى العقوبة بالخلعاء وبالخارجين على الطاعة والعرف. ويستأجرون الأدلاء أصحاب العلم والدراية العملية بالطرق وبمخارجها وبكيفية الخروج من مآزقها ومهالكها وأخطارها، يتفقون معهم على إرشادهم، على إن يكون لهم أجر حسن إن نجت القافلة من الخطر ووصلت سالمة إلى مكانها المقصود.

وقد استغل تجار مكة أموالهم في الخارج، وامتلكوا الضياع، فامتلك "أبو سفيان ابن حرب" أيام تجارته إلى الشام في الجاهلية ضيعة بالبلقاء تدعى بقبش، فصارت لمعاوية وولده".

ولم يبال رجال مكة من الاشتغال بالصناعات، فقد اشتغل قوم منهم بالبزازة، واشغل بعض منهم بالخياطة، فكان "العوّام أبو الزبير خياطا" و "كان الزبير جزّاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان عامر بن كريز جزاراً، وكان الوليد بن المغيرة جزاراً. وكان العاص بن هشام أخو أبو جهل حداداً، وكان عقبة بن أبي معيط خماراً. وكان عثمان بن أبي طلحة الذي دفع إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفتاح البيت خياطاً، وكان قيس بن مخرمة خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عتبة بن أبي وقاص أخو سعد نجاراً، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله ابن جدعان تخاساً، له جوار يساعين ويبيع أولادهن، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص يعالج الخبل والإبل، وكان النضر بن الحارث بن كلدة يضرب بالعود ويتغنى، وكان الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم حجاماً، وكذلك حريث بن عمرو".

وإذا صح ما ذكرته من كلام نقلته من "الأعلاق النفيسة" لابن رستة، فإن ذلك ينفي ما يذكره أهل الأخبار من عدم وجود "تجار" في مكة كالذي ذكروه من عم وجود تجار بها يوم جددوا بناء الكعبة، فحاروا في كيفية العثور على تجار يقوم بتسقيف البيت، وبقوا في حيرتهم حتى اهتدوا إلى رومي تحطمت سفينته عند الساحل، فجاؤوا به وبخشب سفينته فسقف الروميّ "باقوم" لهم عندئذ الكعبة. وتنقي رواية "ابن رستة" ما ذكره غيره من ترفع ذوي الأسر من قريش من الاشتغال بالحرف اليدوية لأنها حرف لم تخلق للأشراف. ويكون ذلك دليلاً على إن بعض ما يذكره أهل الأخبار عن أهل مكة بعيد عن الواقع وتناقض فيما يروونه، لم يفطنوا إليه، لأنهم كانوا ينقلون الأخبار، ويأخذونها أنىّ جاءت، وغايتهم الجمع، وعلينا الآن واجب التمحيص بين تلك الروايات ونقدها وغربلتها، لاستخراج اللب من القشور.

وعندي إن الإسلام، هو الذي صيرّ قريشاً قريشاً المذكورة في الكتب. وهو الذي سوّدها على العرب، وجعل لها المكانة الأولى بين القبائل، والخلافة فيها، بفضل كون الرسول منها وظهور الإسلام في مكة. ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفصل نشاطها وتقرّب رجالها إلى سادات القبائل وحكام العراق وبلاد الشام واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة بمكة لحج البيت والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله، ومنها أصنام القبائل التي لها تعامل مع مكة، فحصلت على ربح هو "حق قريش" من الغرباء وحق تعشير التجار وتعاطي البيع والشراء معهم.

ويبدو من أخبار الأخباريين عن البيت؛ إن العناية لم توجه إليه إلا قبيل الإسلام. وان الإسلام هو الذي رفع قواعده، وعني بعمارته، وهو الذي فرش مسجد بالرخام، وجعل له أشياء كثيرة لم تكن موجودة في أيام الجاهلية. وقد صرف عليه الخلفاء أموالاً طائلة وذلك قربة لله رب البيت.

والواقع إن في كثير مما يذكره أهل الأخبار عن مكة، ما يناقض بعضه بعضاً، وما لا يلتئم مع ما يذكرونه عنها. وهو في حاجة إلى نقد وغربلة. والظاهر إن الرواة عندما وجهوا عنايتهم نحو تدوين تأريخ مكة، وعمدوا إلى الشيبة يسألونهم عن تأريخها، تكلم كل منهم بحسب ما بقي في ذهنه عنا، وبما سمعه من آبائه، فجاء متناقضاً، لا توافق ولا تناسق فيما بين تلك الروايات التي أخذت من الأفواه. وقد زوَّقها بعضهم بعض التزويق، أو هذّب فيها وشذب، حتى وصلت إلى الشكل الذي بلغته إلينا. وإني أرجو إن يعثر في المستقبل على كتابات جاهلية قد تلقي بعض الضوء على تأريخ هذه المدينة المقدسة قبلة المسلمين، وان يقوم العلماء بتخصيص وقت كاف لدراسة ما ورد في كتب التفسير والحديث والموارد الأخرى عن مكة، لتقديم تأريخ واضح عن مكة.

هذا ما عندي من تأريخ مكة، أما عن "الكعبة." وعن الحج وعن المسائل الأخرى المتعلقة بالدين أو بالتجارة أو بالحكم، وبما شاكل ذلك، فسيكون الكلام عنها في المواضع المناسبة، فإليها المرجع إذن.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق