780
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والأربعون
الرقيق
وقد كانت بمكة جالية كبيرة من اصل إفريقي، عرفت ب، "الأحابيش" وهم سود البشرة، اشتراهم أثرياء مكة للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم. وقد كان هذا الرقيق ضرورة لازمة لاقتصاد مكة ولنظامها الاجتماعي في ذلك الزمن. فقد كان يقوم مقام الآلة في خدمة التاجر وصاحب العمل، فكان مصدراً من مصادر الثروة، وآلة مسخرة تخدم سيدها بأكل بطنها، كما كان سلاحاً يستخدم للدفاع عن السادة في أيام السلم وفي أيام الحرب.
وقد سبق إن أشرتُ إلى وجود "إحابيش" بين أهل مكة، زعم الأخباريون انهم عرب، وانهم إنما عرفوا بالأحابيش، لأنهم تحابشوا، أي تحالفوا وتعاهدوا على التناصر والتأثر عند جبل "حبشي"، فهم على زعم هؤلاء الأخباريين أحابيش آخرون لا صلة لهم بالأحابيش الذين أتحدث عنهم.
وقد أشار أهل الأخبار إلى إن قوماً من أشراف مكة تزوّجوا حبشيات فأولدن لهم أولاداً. ذكروا منهم "نضلة بن هاشم بن عبد مناف" و "نفيل بن عبد العُزّى" و "عمرو بن ربيعة" و "الخطاب بن نفيل"، والد "عمر بن الخطاب"، ويذكر إن "ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري" عيرَّ "عمر بن الخطاب" فقال ل:" يا ابن السوداء"، فأنزل الله: )يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم، عسى إن يكونوا خيراً منهم( و"عمرو بن العاص" وجماعةً آخرين.
وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى من الآلات الحية، هي ادق عملاً وأحسن خدمة وأرقى في الإنتاج من الطائفة الأولى: الأحابيش، استوردت من الشمال من بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الروم أو الفرس أو القبائل المغيرة على اسود، فيباعون في أسواق النعاسة، ومنها ينقلون إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب للقيام بمختلف الأعمال. يضاف إلى هؤلاء، الرقيق المستورد من أسواق اوروبة، لبيعه في أسواق الشرق. وأسعار هذه البضاعة وان كانت أغلى ثمناً من أسعار البضاعة المستوردة من إفريقية، إلا إن الجودة في الإنتاج والتفنن فيه، والبراعة في الصناعات التي لا تعرفها بضاعة الجنوب تعوّض عن هذا الفرق.
ومن جملة ما وُكلَ إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال، إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين: مثل أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة، وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة-وان كانت تابعة، تؤمر فتفعل، وتكلف فتستجيب-كانت بضاعة حيةّ، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد إن تترك أثراً في البيئة التي استوردت إليها. والأخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وان لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نقوس ساداتهم والذين اختلطوا جمهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم إن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب: نتيجة تقول إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثراً ليس إلى إنكاره من سبيل، وان بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم إنها لم تكن عربية، ولاسيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء.
وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الأخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيراً صحيحاً واضحاً، وفيهم من لا يفقه هذه اللغة، لأنه حديث عهدٍ بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة. ومنهم من كان بتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات" )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشرٌ. لسان الذي يلحدون إليه أعجميّ، وهذا لسانٌ عربيٌ مبين(. "وقال الذين نحروا إن هذا إلا إفك ه افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون. فقد جاؤوا ظلماً وزوراً. وقالوا أساطير الأولين اكتتبها، فهيُ تمْلى عليه بُكرةً وأصيلاً".
وقال "ابن هشام" في تفسر الآية: )ولقد نعلم انهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(: "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، كثيراً ما يجلس عند المرْوة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لِبَني الحَضرميَّ، وكانوا يقولون: والله ما يعلّم محمداً كثيراً مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي. فأنزلَ الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهم: ولقد نعلم". وهناك أشخاص آخرون كانوا موالي لا يحسنون العربية ولا يجدون النطق بها.
وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" انه "قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له يسار، والأخر يقال له جبر. وكانا صيقلين، فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما. وكان رسول الله يمرّ بهما فيسمع قراءتهما. فقالوا: إنما يتعلم منها. فنزلت: ولقد نعلم انهم يقولون".
وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قيناً، ذكر إن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا انه كان يتعلم منه. وقيل إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانياً".
وفي جملة من أشار إليهم أهل اليسر من النصارى الذين كانوا بمكة، رجل اسمه "نسطاس"، وكان من موالي "صفوان بن أمية"، ونسطور الرومي، ويوحنا مولى صهيب الروميّ، وصهيب الرومي نفسه، وهو من الصحابة، جاء من بلاد الشام، ونزل بمكة، وتشارك مع مثري قريش عبد الله بن جدعان، ثم استقل عنه، وصار ثرياً من أثرياء مكة. ثم دخل في الإسلام. ومنهم مولى يوناني تزوج سمية أم بلال. وقد بقي نفر من النصارى محتفظين بدينهم بمكة في أيام الرسول.
وفي حديث الأخباريين عن بناء الكعبة إن قريشاً استعانت بعامل من الروم، أو من الأقباط، اسمه باقوم، كان تجاراً مقيماً بمكة، في تسقيف البيت. وفي حديث آخر لهم: إن هذا الرجل كان في سفينة جهزها قيصر الروم لبناء كنيسة، وقد شحنها بالرخام والخشب والحديد، فجنحت عند "الشعيبة" فاستعانت قريش بما تبقى من أخشابها وبخبرة هذا الرومي في تسقيف البيت. وقد دعي ب "بلقوم الرومي" أيضاً.
وفي كتب السير وكتب تراجم الصحابة أسماء جوارٍ يونانيات أو من بلاد الشام أو من العراق، وقد تزوجن في مكة ونسَلن ذرية كانوا فيها قبل الإسلام. وقد كان منهن في مواضع أخرى من جزيرة العرب بالطيع.
ويعود قسط كبير من وجود الكلمات الحبشية والرومية والفارسية في العربية إلى الرقيق الأسود والأبيض. وهذه الكلمات هي مسمّيات لأمور غريبة عن العربية لم يكن لأهل مكة ولا لغيرهم علم بها، فاستعملوها كما وردت وأخذت، أو صقلت حتى لاءمت اللسان العربي، كما حدث ويحدث في اللغات الأخرى، وعربت وصارت من ألفاظ العربية. وقد لاحق قسماً منها علماء اللغة، فوضعو فيها كتباً بحثت في تلك المعربات، وفي القرآن الكريم طائفة منها لم يغفل عنها أرباب اللغة والمفسرون.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق