779
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والأربعون
كسب مكة
ومكة كما ذكرت بلد في واد غير ذي زرع، لذلك كان عماد حياة أهلها التجارة، والأموال التي تجبى منً القوافل القادمة من الشام إلى اليمن والصاعدة من اليمن إلى الشام، وما ينفقه الحجيج القادمون في المواسم المقدسة، للتقرب إلى الأصنام. وهناك مورد آخر درّ على أثرياء هذه المدينة المقدسة ربحاً كبيراً، هو الربا الذي كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها من تجار ورجال قبائل.
لقد استفادت مكة كثيراً من التدهور السياسي الذي حلّ باليمن، ومن تقلص سلطان التبابعة، وظهور ملوك وأمراء متنافسين، إذْ أبعد هذا الوضع خطر الحكومات اليمانية الكبيرة عنها، وكانت تطمع فيها وفي الحجاز، لأن الحجاز، قنطرة بين بلاد الشام واليمن. ومن يستولي عليه يتصل ببلاد الشام، وبموانئ البحر الأبيض المهمة. وأعطى تدهور الأوضاع في العربية الجنوبية أهل مكة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها. فصاروا الواسطة في نقل التجارة من العربية الجنوبية إلى بلاد الشام، وبالعكس. وسعى تجار مكة جهد إمكانهم لاتخاذ موقف حياد تجاه الروم والفرس والحبش، فلم يتحزبوا لأحد، ولم يتحاملوا على طرف، وقوّوا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتوددوا إليهم بتقديم الألطاف والمال اليهم، ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السياسة كثيراً.
وفي القرآن إشارة إلى تجارة مكة، والى نشاط أهلها ومتاجرتهم مع الشام، واليمن: )لإيلاف قريشٍ ايلافهم رحلة الشتاء والصيف(. قال المفسرون: إن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، أما رحلة الصيف فكانت إلى بلاد الشام. وانهم كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين تدر على قريش خيراً كثيراً، وتعوضهم عن فقر بلادهم.
ويظهر إن أهل هذه المدينة كانوا يسهمون جميعاً في الاتجار، فيقدم المكّي المتمكن كل ما يتمكن تقديمه من مالٍ ليستغله ويأتيه برزق يعيش عليه. ولذلك يعد رجوع القافلة أمنة مطمئنةُ بشرى وسروراً للجميع.
وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات كبيرة طائلة. وقد أسهم رجل واحد من أهل هذه المدينة هو "أبو أحيحةَ" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالقياس إلى الوضع المالي في تلك الأيام، كذلك كان "عبد الله ابن جدعان" و "الوليد بن المغيرة المخزومي" من أثرياء مكة. وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال.
وكانت لأسر مكة تجارات خاصة مع العراق وبلاد الشمام واليمن ومواضع من جزيرة العرب" تجارات لا علاقة لها برحلتي الشتاء والصيف، وكان لبعضها تجارة مع الأنبار والحيرة في العراق، وكان لبعض آخر تجارة مع "بصرى" و "غزة" وأذرعات في بلاد الشام، وكان لآخرين تجارة مع بلاد اليمن. وكان للأسر الغنية الثرية اتصال تجاري مع كل هذه المواضع. وتعامل مع كل الأماكن المذكورة، ولها وكلاء يبيعون لها ويشترون، كما كانت هي تتوكل لتجار العراق وبلاد الشام واليمن، وتجني من هذا التعامل أرباحاً طيبة.
وقد تحدثت عن النزاع الذي كان قد نشب بين أهل مكة و "أبرهة"، وهو نزاع ذو طبيعة سياسيةّ في الأغلب، وان جعله أهل الأخبار ذا طبيعة دينية. والأغلب إن الروم حثوا أبرهة على السير إلى مكة والاتجاه منها نحو الشمال، للاتصال ببلاد الشام، والاستيلاء بذلك على العربية الغربية، وبذلك يكون لهم سلطان على القسم الغربي من جزيرة العرب، فيأمنون على مصالحهم الداخلية وينزلون بذلك ضربة كبيرة بأعدائهم الساسانيين وبمن كان يساعدهم من سادات قبائل. ولكن اخفق التدبير، ورجع "أبرهة" خائباً لم يحقق شيئاً.
وأدى استيلاء الفرس على اليمن إلى حدوث تطور في علاقات أهل مكة بالفرس وبالروم. وقد اخذ الفرس يتدخلون في تجارة العربية الجنوبية، فصاروا يرسلون ببضائع من أسواق العراق إلى اليمن، ويأخذون في مقابلها بضائع من أسواق أفريقية والعربية الجنوبية، كما اخذ ملوك الحيرة يرسلون ب "لطائمهم" إلى اليمن للبيع والشراء.
وقد اثر هذا الوضع في تجارة أهل مكة أثراً كبيراً، إذ انتزع الفرس وملوك الحيرة من أيديهم قسطاً من أرباحهم، وربما لا يبعد إن يكون الهجوم الذي وقع على "لطيمة" "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، بتشجيع من أهل مكة، ذلك الهجوم الذي عرف ب "الفجار"، وذلك للأضرار بالفرس وبملوك الحيرة، ولتخويف القوافل التي صارت تسلك طريق "الطائف"، ثم منها إلى مواضع في البادية إلى الحيرة متجنبة طريق مكة.
وكانت "الشعيبة" ميناء مكة، إليها ترد السفن قبلُ جدة، ثم أخذت جُدّة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفّان.
وقد قصدت ميناء "الشعيبة" سفن الروم وسفن الحبش، اذ كانت السفن القادمة من إفريقية، لبيع تجارتها لأهل مكة، ترسو في هذا الميناء.
ويظهر من كتب أهل الأخيار إن تجار مكة لم يكونوا يملكون سفناً خاصة بهم، لنقل تجارتهم إلى موانئ إفريقية، أو لنقل ما يشترونه من الموانئ الإفريقية لتصريفه في أسواق العراق أو أسواق بلاد الشام. فنحن لا نكاد نجد في هذه الكتب شيئاً يفيد إن أهل مكة كانوا يملكون سفناً يسيرها بحارة منهم. بل نجد انهم كانوا يركبون سفناً حبشية، عند ذهابهم إلى الحبشة. وهي سفن لم تكن شيئاً بالقياس إلى سفن الروم في ذلك العهد.
ولمركز مكة ونشاطها في التجارة، توافد عليها أيضاً تجار من الخارج من بلاد الشام ومن العراق ومن بلاد الروم والفرس وفيهم. ساكنوا المكّيين، وتحالفوا مع أثريائهم، ومنهم من قام فيها في مقابل دفع جزية لحمايته ولحفظ أمواله وتجارته. وكان تجار بلاد الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمور الجيدة إلى تجار مكة. وقد اتخذوا مستودعات فيها لخزن بضاعتهم هذه ولتصريفها.
ولا يستبعد "أوليري" إن يكون من بين تجار الروم في مكة من كان عيناً للبيزنطيين على العرب، يتجسس لهم، ويتسقط أخبارهم، ويكتب لهم عن صلاتهم بالفرس، وعن أنباء الفرس في جزيرة العرب واتصالهم بالقبائل، لشدة حاجة الروم إلى تلك الأخبار، لإفساد خطط الفرس وإبعادهم عن بلاد العرب وعن البحار. والعالم يومئذ معسكران متخاصمان: معسكر للروم، ومعسكر للفرس.
وقوم هم أصحاب تجارة واتصال بالعالم الخارجي بحكم اتجارهم معه، وذهابهم إليه، لا بد إن يكون لهم اهتمام بما كان يجري ويقع في السياسة الدولية. وكان لهم علم بما يحدث بين الفرس والروم، وبين الحبش وأهل اليمن، لأن لما يحدث علاقةً كبيرة بتجارتهم وبالأسواق التي كانوا يخرجون إليها للبيع والشراء.
ونجد في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك. فلما وقعت الحرب بين الفرس والروم، هذه الحرب التي استولى فيها الفرس على القدس، وعلى "الصليب" المقدس عند النصارى، كان اهتمام مكة بها كبيراً وانقسم أهل مكة فريقين: مؤيد للروم، ومؤيد للفرس، مما يدل على وقوف أهل مكة على ما كان يقع في الخارج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة "الروم".
وقد كان المكّيون يهتمون اهتماماً خاصاً بما كان يقع في بلاد الشام وفي اليمن من أحداث، إذ كانت تجارتهم مرتبطة بهذه البلاد بالدرجة الأولى. فما يقع فيها يؤثر تأثراً مباشراً في تجارتهم. ولذلك حاولوا جهد إمكانهم إنشاء صلات حسنة مع الحاكم على بلاد الشام والحاكم على اليمن، كما كان من مصلحة الروم مصالحة حكام العربية الغربية وترضيتهم، ليأمنوا بذلك على سلامة تجارتهم في البحر الأحمر وعلى وصول بضائع إفريقّية والبلاد العربية الجنوبية والهند إليهم عند تعسف الفرس بالتجارة البرية التي كانت تأتي من الهند ومن الصين لتباع في بلاد الروم، وعند نشوب الحرب، وهي متوالية كثيرة، فيما بينهما، فتنقطع التجارة عندئذ بينهما، وترتفع الأسعار. إما التجارة عن طريق العربية الغربية، فلم تكن تصاب بأذى الحروب وبالنزاع بين الفرس والروم، لأنها كانت بعيدة عن ساحة الحروب، وهي في مأمن من الغارات.
ويظهر من روايات أهل الأخبار إن سادات مكة والمواضع الأخرى من الحجاز كانوا يتوددون إلى الروم والى حكام اليمن ليمكّنوهم من التحكم في شؤون مواطنيهم وللسيادة عليهم. وقد روى "ابنّ قتيبة" إن "قُصياً" استعان ب "قيصر" في نزاعه مع خزاعة. وقد تكَون مساعدة قيصر له، بإشارته على الغساسنة حلفاء الروم لتقديم العون إليه. ولمجوز إن يكون "بنو عذرة" وهم من العرب النصارى النازلين في أطراف بلاد الشام قد ساعدوه بطلب من الروم.
ولا يستبعد إن يكون تجار اليمن في أيام قصي وبعد موته، كانوا يأتون بتجارتهم إلى "مكة"، ثم يقوم تجار مكة بنقلها إلى بلاد الشام، أو بشرائها من تجار اليمن، ثم يقومون هم ببيعها على حسابهم في "بُصْرى" أو غزة من بلاد الشام. وقد كان يقع اختلاف في بعض الأحيان بين تجار اليمن وتجار مكة، وقد يقع اعتداء على تجار اليمن فيصادر بعض أهل مكة أموالهم ويغتصبونها، كالذي حدث لتاجر من تجار اليمن، مما حداه بالاستجارة بأشراف مكة وسادتها لإنصافه، وأدى الحال إلى عقد حلف الفضول.
ولطبيعة أهل مكة المستقرين التجار، لزم الابتعاد عن الحروب وعن خلق المشكلات، وجلّ كل معضلة بالمفاوضات أولاً وبالسلم. كما سعت للاتفاق مع القبائل المجاورة على محالفتها ومهادنتها. وقد أفادت هذه السياسة قريشاً كثيراً، فظهرت زعامة مكة على القبائل بعد تدهور ملك حمير في السياسة وفي الدين والاقتصاد. والارتفاع مستوى مكة الثقافي بالنسبة إلى الأعراب، ولزعامتها الدينية على القبائل المجاورة لها، ولاتصال سادتها بالعالم الخارجي، ولوجود جاليات أجنبية فيها طورت حياتها الاقتصادية والصناعية مما جعل القبائل تعترف لها بالتفوق عليها، وتسير في ركابها، وتتبع تقويمها، ونحضر في مواسمها، حتى صارت مكة عند ظهور الإسلام القاعدة للغربية العربية والزعيمة لها، ولذلك كانت رمز مقاومة الإسلام، والحصن العتيد المقاوم له. فلما دك هذا الحصن، دكت المقاومة دكاً، واستسلمت المواضع والقبائل للإسلام دون مقاومة تذكر.
وبلد مثل مكة فيه تجار وتجارة ورقيق وغنى وفقر وراحة وأصنام وعبادة وحجاج يأتون للتقرب إلى الأصنام، لا بد إن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين لتنظيم الحياة، وتأمين الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى لدوام مجيء الحاج إليه على الأقل.
فالكعبة، وهي بيت الأصنام، ارض حرام، لا يجوز البغي فيها، ولا المعاصي واقتراف الآثام. والمدينة، وهي في جوار البيت ذات حرمة وقدسية. ودار الندوة دار مشورة وحكم وزعامة. وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره، ولا بد من أنصافهم وإحقاق حقهم. ولأنصافهم ودفع الأذى عن فقيرهم، عقد حلف الفضول، وتعهد سادات مكة بالدفاع ممن يستًجير بهم، وبتأديب من يتجاسر منهم على العرف والسنة، وبذلك، جعلوا مكة بلداً آمناً مستقراً في محيط تتعارك فيه الأمواج.
ولسياسة أهل مكة القائمة على المسالمة وحل الخلاف بالتشاور والتفاوض، رميت قريش البواطن، وهم غالبية أهل المدينة بعدم القدرة على القتال وبالاتكال على غيرهم في الدفاع عن بلدهم، وباعتمادهم على الأحابيش وعلى قريش الظواهر وعلى القبائل المحالفة لهم في الدفاع عن مكة. ولم تكن مكة وحدها بدعاً في هذا الأمر، إذ كان أهل يثرب وأهل الطائف وسائر أهل القرى والمدر مثل أهل مكة، غير ميالين إلى الغزو والقتال، ولهم حبال وأحلاف مع القبائل الساكنة بجوارهم، لمنع تعدياتهم عليهم، ولمنع من يطمع فيهم من تنفيذ ما يريد.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق