776
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والأربعون
الأحابيش
ويذكر الرواة إن "بني بكر بن عبد مناة"، صاروا يبغضون قريشاً لما كان من "قصي" حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعاً وخططاً بين قريش. فلما كانوا على عهد "المطلب"، وهموا باخراج قريش من الحرم وان يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت "بنو بكر" على نعم لبني الهون فأطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش واستعدت. وعقد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، فلقوا بني بكر ومن انضم اليهم وعلى الناس "المطلب"، فاقتتلوا ب "ذات نكيف"، فانهزم بنو بكر، وقتلوا. قتلا ذريعاً، فلم يعودوا لحرب قريش.
وقتل يومئذ "عبيد بن السفّاح القاري" من القارة: قتادة بن قيس أخا "بلعاء بن قيس". والقارة من ولد "الهون بن خزيمة".
ويظهر من هذه الروايات إن أرض حرم مكة كانت مشجرة، وان تلك الاْشجار كانت مقدسة، وان بعض بيوت مكة كانت ذات أشجار، ويظهر إنها انتزعت من أرض الحرم، ولذلك كانوا يهابون قطعها ولا يتجاسرون على إلحاق سوء بها. فلما جاء قصي، خالف عقيدة القوم فيها، فقطعها. ولما وجد أهل مكة إن قطعها لم يلحق أي سوء بقصي، وانه بقي سالماً معافى، تجاسروا هم وفعلوا فعله في قطع الشجر.
وذكر العلماء: إن "الحرم"، أي حرم مكة، ما أطاف بمكة من جوانبها، وحد ه من طريق المدينة دون "التنعيم" عند بيوت "بني نفار" على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على ثنيّة جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجعِرانة بشِعْب "آل عبد الله بن خالد" على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن "نمرة" على سبعة أميال، ومن طريق "جدة" منقطع العشائر على عشرة أميال.
والحرم المذكور، هو الأرض الحرام التي كانت مقدسة عند الجاهليين أيضاً، وهي مكة وأطرافها إلى حدودها التي اصطلح عليها. وأما الحرم الذي أحاط بالكعبة فقد عرف ب "المسجد" و "بالمسجد الحرام" و ب "الحرم". ولا نعرف حدوده في الجاهلية على وجه واضح معلوم. وقد كان الجاهليون قد وضعوا أنصاباً على الحدود ليعلم الناس مكان الحرم، ولم يكن له جدار يحيط به. وذكر انه كان في عهد الرسول وأبي بكر فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهدهما جدار يحيط به. فلما استخلف "عمر" وكثر الناس، وسعّ المسجد، واشترى دوراً هدمها وزادها فيه، واتخذ للمسجد جداراً قصيراً دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه. فكان عمر أول من اتخذ جداراً للمسجد. ثم وسعّ المسجد "عمان" ومن جاء بعده، ثم صار كل من ولي من الخلفاء والسلاطين يزيد في اتساع الحي، حتى صار على ما هو عليه الآن.
ودار الندوة اذن هي دار مشورة في أمور السلم والحرب، ومجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة وكيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدر عليهم أرباحاً عظيمة وبخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام، جاءت اليهم بأموال وافرة من الحجيج. في هذه الدار يجتمع الرؤساء وأعيان البلاد للتشاور في الأمور واليت فيها. وفي هذه الدار أيضاً تجري عقود الزواج، وتعقد المعاملات، فهي دار مشورة ودار حكومة في آن واحد، يديرها "الملأ"، وهم مثل اعضاء مجلس شيوخ "اثينا" الذين كانوا يجتمعون في "المجلس" "Ekkiesa" للنظر في الأمور. يمثلون زعماء الأسر، ورؤساء الأحياء، وأصحاب الرأي والمشورة للبت فيما يعرض عليهم من مشكلات.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار إن دار الندوة لم يكن يدخلها الاّ ابن أربعين أو ما زاد، فدلها أبو جهل، وهو ابن ثلاثين لجودة رأيه.، ودخلها غيره للسبب نفسه. فيظهر من ذلك إن المراد من دخول الدار، هو حضورها للاسهام في ابداء رأي وتقديم مشورة.
ولما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، اخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، الا اذا وجدوا في رجل اصغر سناً جودةً في الرأي، وحدة في الذكاء، فيسمح له عندئذ بالاشتراك وبابداء الرأي بصورة خاصة.
وذكر أيضاً، انه لم يكن يدخل دار الندوة احد من قريش لمشورة حتى يبلغ أربعين سنة، إلاّ حكيم بن حزام، فانه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان ولد في الكعبة، وذلك إن أمه دخلت الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل به، فضربها المخاض في الكعبة، وأعجلها عن الخروج، فوضعت به بها. وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم.
فدار الندوة اذن، هي دار "ملأ" مكة. وهم سادتها ووجوهها وأشرافها وأولو الأمر فيها. ولم تكن "برلماناً" أو "مجلس شيوخ" على النحو المفهوم من اللفظتين في المصطلح السياسي. وإنما كانت دار "أولي الشورة" و "الرأي". تتخذ رأياً عند ظهور حاجة أو اخذ "الرأي" وعند وجوب حصول زعماء الملأ على قرار في امر هام. ولم تكن قراراتها ملزمة، بل قد يخالفها سيد ذو رأي ومكانة، فيتفرد برأيه. ولا يحصل الإجماع إلاّ باتفاق. والغالب ألاّ يحصل هذا الاتفاق ويتوقف تنفيذ رأي "الملأ" على شخصية المقررين وعلى كفاءتهم وعلى ما يتخذونه من اجراء بحق المخالفين المعاندين من مقاطعة ومن مساومة ومن اقناع. والغالب إن الملأ لا يتخذون رأياً الا بعد دراسة وتفكير، ومفاوضات يراعى فيها جانب المروءة والحلم والمرونة، حتى لا يقع في البلد انشقاق قد يعرض الأمن إلى الاهتزاز.
وربما قام وجوه "الشعب"، وهم سادة الأسر، بدور هو اكثر فعّالية من دور "دار الندوة" في فض الخصومات. والعادة عندهم إن الخصومات الداخلية للاسر، تفض داخل الأسرة، لأن "آل" الأسرة أقدر على حل خلافاتهم من تدخل غيرهم في شؤونهم، ثم انهم لا يقبلون بتدخل غريب عن الأسرة في شأن من شؤون تلك الأسرة.. لذلك كان "،الملأ" لا ينظرون إلا في الأمور التي هي فوق مستوى الأسر و "الشعاب"، والتي تخص أمور الدينة كلها، والتي قد تعرض أمنها إلى الخطر، أو التي يتوقف على قراراتهم بصددها مستقبل المدينة.
والإنسان بمكة بأسرته وبمقدرته وقابلياته وكفاءته. وقد يرفع الأشخاص من مستوى أسرهم، وقد يهبط مستوى الأسر ومكانتها بسبب هبوط مستوى رجالها وعدم ظهور رجال أغنياء أقوياء فيها. ولما كانت مكنة مدينة عمل وتجارة ومال، والمال يتنقل بين الناس حسب اجتهاد الأفراد وجدهم في السعي وراءه، لذلك تجد من بين رجالها من يخمل ذكره بسبب خمول أولاده وتبذيرهم لما ورثوه من مال، وعدم سعيهم لإضافة مال جديد إليه. ويستتبع ذلك تنقل النفوذ من بيت إلى بيت.
فالحكم في مكة أذن حكم لا مركزي، حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ ومنزلة تطاع فيها الأحكام، وتنفذ الأوامر، لا لوجود حكومة قوية مركزية مهيمنة لها سلطة على أهل مكة، بل لأن الأحكام. والأوامر هي إحكام ذوي الوجه والسن والرئاسة والشرف، وإحكام هؤلاء مطاعة في عرف أهل مكة وفي عرف غيرهم من أهل جزيرة العرب. حكمت بذلك العادة وجرى عليه العرف، ولا مخالفة للعرف والعادة. فالعرف قانون أهل جزيرة العرب حتى اليوم. وانتهاك إحكامها معناه انتهاك سيادة القانون، وتمرد على الهيأة والنظام، وتحقير الحاكمين وإهانة لهم ولاتباعهم، وليس لأحد الخروج على أوامر سادات القوم وذوي الحسب والشرف والسن والعقل.
ولم تكن في مكة حكومة مركزية بالمعنى المفهوم المعروف من الحكومة، فلم يكن فيها ملك له تاج وعرش، ولا رئيس واحد محكمها على انه رئيس جمهورية أو رئيس مدينة، ولا مجلس رئاسة يحكم المدينة حكماً مشتركاً أو حكماً بالتناوب، ولا حاكم مدني عام أو حاكم عسكري. ولم يتحدث أهل الأخبار عن وجود مدير عام فيها واجبه ضبط الامن. أو مدير له سجن يزج فيه الخارجين عن الأنظمة والقوانين أو ما شابه ذلك من وظائف نجدها في الحكومات. وكل أمرها إنها قرية تتألف من شعاب. كل شعبْ لعشيرة. وأمر كل، شعْب لرؤسائه، هم وحدهم أصحاب الحلّ والعقد واَلنهي والتأديب فيه. وليسَ في استطاعة متمرد مخالفة إحكام. وإلاّ أدبه حيّه، وملؤه أي أشرافه. هؤلاء الرؤساء هم الحكام الناصحون وهم عقلاء الشعب.
وقد أشير إلى رؤساء مكة في القران الكريم في آية: )وقالوا: لولا نزُ ل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( فرؤساء مكة هم علماؤها وساداتها، وهم أعلى الناس منزلة ودرجة ومكانة فيها. و "عظماء" مكة أو "عظماء الطائف" هم الطبقة "المختارة" والصفوة المتزعمة في الناس. واليها وحدها تكون الزعامة والرئاسة والرجاحة في الرأي.
وقانون القوم ودستورهم: )إنا وجدنا آباءنا على امة وانّا على، آثارهم مقتدون(. فهم محافظون حريصون على كل ما وصل إليهم، لا يريدون له تغييراً ولا تبديلاً. مهما بدا لهم في الجديد من منطق وحق. "قال) أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم. قالوا انّا بما أرسلتم به كافرون( وفي القرآن الكريم آيات أخرى ترينا تمسك نخبة مكة ورجال الملأ بحقوقهم وبما ورثوه من عرف مكّنهم من الملأ، وفي تمسكهم بها محافظة على حقوقهم الموروثة وعلى مصالحهم وعلى زعامتهم في الناس.
فملأ مكة أناس محافظون لا يقبلون تجديداً ولا تطويراً، سنتهم التعلق بالماضي، وكره الثورة والخروج عن العرف والعادة مهما كانت. فالعرف جرى الناس عليه، فلا خروج على العادة والعرف. أما المستهين بالعرف المخالف لسنة الآباء والأجداد، فيعاقب حتى يعود إلى رشد وصوابه. وهم باستماتتهم في التمسك بالماضي كيف كان، وبتطرفهم في المحافظة على العرف، إنما يراعون بذلك حقوقهم الموروثة ومكانتهم الإجماعية ومصالحهم الاقتصادية، فالعرف جعلهم الطبقة الحاكمة بالتقاليد، المحافظة على مصالحها، استناداً إلى العادات. هم يحكمون بهذا القانون الموروث غير المسجل، وعلى الناس الطاعة والانقياد. )واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون( وقد توارث بنو عبد الدار الندوة، حتى باعها "عكرمة بن عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار" من معاوية، فجعلها دار الأمارة بمكة، ثم أدخلت في الحرم. وورد في رواية أخرى إن "حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الاسلمى" وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، كان هو الذي باعها من معاوية وكانت بيده. باعها بمئة ألف درهم. وكان قد اشتراها من "منصور بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
ودار الندوة، هي أول دار بنيت بمكة على حدّ قول الرواة. وكانت اشهر دار بمكة وانشرها في الناس خبراً. ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه. ويذكر أهل الأخبار: إن مكة لم تكن ذات منازل، وكانت قريش بعدُ جرهُم. والعمالقة ينلجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتساباً إلى الكعبة لاستيلائهم عليها وتخصصاً بالحرم لحلولهم فيه. ولما كان "كعب بن لؤيّ بن غالب"، جمع قريشاً صار يخطب فيها في كل "جمعة"، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب "الجمعة". وبذلك ألف بين قريش حتى جاء "قصي" ففعل ما فعل.
ولدينا خبر آخر، يذكو انه قد كان حول الحرم شجر ذو شوك، نبت من قديم الزمن وكوّن غُوطة، فقطعها "عبد مناف بن قصي"، وهو أول من بني داراً بمكة، ولم تُبن دار، قبلها، بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود.
وزعم بعض أهل الأخبار إن أهل مكة كانوا يبنون بيوتهم مُدوّرة تعظيماً للكعبة، وأول من بنى بيتاً مربعاً "حُميدْ بن زهر"، فقالت قريش: "رَبّعَ حُمَيْد بن زهر بيتاً"، إمّا حياةً وإما موتاً". و "الربع": المنزل ودار الإقامة والمحلة". وهو أحد "بني أسد بن عبد العزى". وان العرب تسمي كل بيت مربع كعبة، ومنه كعبة نجران. وُ ذكر أيضاً إن "حُمَيْد بن زبير ابن الحارث بن أسد بن عبد العزى"، هو اول من خالف سنة قريش وخرج على عرف أهل مكة فبنى بيتاً مربعاً.وجعل له سقفاً. وفي عمله هذا قال الراجز: اليوم يبنيِ لحُمَيْد بيته اماّ حياته واما موته
وورد في رواية أخرى، إن ثاني دار بنيت بمكة بعد دار الندوة، هي "دار العجلة"، وهي دار، سعيد بن سعد بن سهم. وزعم "بنو سهم" إنها بنيت قبل "دار الندوة".
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن بيوت مكة إن بيوتها، وهي بيوت أثريائها وساداتها، بيوت كانت مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان باب يدخل منها الداخل وباب تقابلها يخرج منها الخارج، ولعلها بنيت على هذا الوضع ليتمكن النساء من الخروج من الباب الأخرى عند وجود ضيوف في رحبة الدار عند الباب المقابلة. ومعنى هذا إن أمثال هذه الدور كانت واسعة تشرت على زقاقين. ولبعض الدور "حجر" عند باب البيت، يجلس تحته ليستظل به من أشعة الشمس، وكان منزل "خديجة" ذو حجر من هذا الطراز.
ولو أخذنا بالرواية المتقدمة عن التغيير الذي طرأ على طراز العمارة في مكة، فإن ذلك يحملنا على القول: إنه يجب إن يكون قد حدث، في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد. في وقت ليس ببعيد عهد عن أيام النبي. لأننا نجد إن أحد أبنا "حُمَيْد"، وهو عبد الله"، كان قد حارب في معركة "أحد".
ويتبن من غربلة روايات الأخباريين المتقدمة عن مدى سعة الحرم وعن زمان بناء الدور بمكة، إن بطن مكة لم يعمر ولم تبن البيوت المستقرة فيه إلا منذ أيام "قصي". أما ما قبل ذلك، فقد كان الناس يسكنون "الظواهر": ظواهر مكة، أي أطرافها وهي مواضع مرتفعة تكون سفوح الجبال والمرتفعات المحيطة بالمدينة. أما باطن مكة، وهو الوادي الذي فيه البيت، فقد كان حرماً آمناً، لا بيوت فيه، أو إن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت وبرت كانت له علاقة بخدمته. لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال. ولم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر، لأنه شجر حرم اَمن، وبقي هذا شأنه يغطي الوادي ويكسو وجهه بغُوطة، حتى جاء "قصي". فتجاسر عليه بقطعه كما ذكرنا. وخاف الناس من فعله، خشية غضب رب البيت، ونزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا إن الله لم يغضب عليهم، وانه لم ينزل سوءاً بهم، اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، واستحوذوا على الأرض الحرام، وظهرت.البيوت فيه، وأخذت تتجه نحو البيت حتى أحاطت به، وصغرت مسجده، ولم يكن له يومئذ جدار. وظلت البيوت تتقرب إليه حتى ضايقته وصغرت فناءه، مما اضطر الخليفة "عمر" ومن جاء بعده إلى هدم البيوت التي لاصقته لتوسيع مسجد، ثم إلى بناء جدار ليحيط به حتى صار على نحو ما هو عليه في هذا اليوم.
ويتبين من خطبة الرسول عام الفتح ويوم دخوله البيت الحرام وقوله: "لا يُختلى خلا مكة ولا يعضد شجرها"، إن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر. ولم يكن فد قطع تماماً منه في أيام الرسول.
وتذكر بعض الموارد إن قصيّاً أول من بنى الكعبة بعد. بناء تبع، وكان سمكها قصيراً، فنقضه ورفعها. وإذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة ومن مجدديها. وذكر انه كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش، وانه سقفها بخشب الدوم وجريد النخل. وقد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى. وهذه الرواية تناقض بالطبع ما يرويه الأخباريون من إن الكعبة لم تكن مسقفة، وإنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب الرسول. وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة.
والظاهر من روايات الأخباريين، إن البيت كان في الأصل بيتاً مسقوفاً، غير انه أصيب بكوارثعديدة، فتساقط وتساقط سقفه مراراً بسبب السيول، وبسبب حريق أصيب به، فصار من غير سقف في أيام شباب الرسول. حتى إذا ما نقضت. قريش البيت وأعادت بناء سقفته، وزوّقت جدره الداخلية والخارجية بالأصنام والصور. وأعادت إليه خزائنه حتى كان يوم الفتح، إذْ أمر الرسول بتحطيم الأصنام وبطمس الصور على نحو ما سأتحدث عنه في تأريخ الكعبة وذلك في القسم الخاص بأديان الجاهليين.
وفي روايات أهل الأخبار عن البيت-كما سترى فيما بعد حين أتكلم عنه في هذا القسم الخاص بأديان أهل الجاهلية-غموض وتناقض، يجّعل من الصعب تكوين رأي واضح عنه. فبينما هم يقولون إنه كان من غير سقف وان الطيور كانت تقف عليه، وان الأتربة المحملة بالأهوية كانت تتساقط في أرض البيت، نراهم يذكرون انه كان مسقفاً، وانه سقف بالخشب في أيام قصي وانه احترق، ثم يقولون إنه كان في داخله أصنام قريش، مع إن الوصف الذي يقدمونه لنا عن الكعبة من إنها "كانت ضمة فوق للقامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك إن نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنزَ الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة"، لا يمكن إن يجعل البيت سوى غرفة بسيطة ساذجة من أحجار رصت بعضها فوق بعض.
وفي روايةٍ: إن.قصيّاً هو أول من أظهر "الحجر الأسود"، وكانت "إياد" دفنته في جبال مكة، فرأتهم امرأة حين دفنوه، فلم يزل "قصي" يتلطف بتلك المرأة حتى دلته على مكانه، فأخرجه من الجبل، واستمر عند جماعة من قريش يتوارثون حتى بنت قريش الكعبة فوضعوه بركن البيت، بازاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي.
ويذكر إن قصيّاً بعد إن تمكن من مكة، حفر بها بئراً سماها "العجول" وهي أول بئر حفرتها قريش. وكانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة تدعى "اليسيرة" ومن حياض ومصانع على رؤوس الجبال. ومن بثر حفرها "مرّة بن كعب" مما يلي عرَفَة، تدعى "الروى"، ومن آبار حفرها "كلاب بن مرة"، هي "خم" و "رم" و "الجفر" بطاهر مكة. فكانت "بئر العجول" أول بئر حفرتها قريش في مكة.
وازدادت حاجة أهل مكة، بعد قصي وقد تزايد عددهم إلى الماء، ولم تعد "العجول" تعَفي لتموينهم به، فاقتفى، أولاده أثره في حفر الآبار، واعتبروا حفرها منقبة ومحمبدة، لما للماء من أهمية لأهل هذا الوادي الجاف. وقد حازت بئر زمزم على المقام الأول بين آبار مكة فهي بئر البيت وبئر الحجاج تمونهم مما يحتاجون إليه من ماء، وذكر أهل الأخبار إن في جملة ما أحدث قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية، انه أحدث وقود النار بالمزدلفة: حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلث الليلة في الجاهلية. ويظهر إن قريشاً حافظت على هذه السُنّة أمداَ في الإسلام. وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله وأبي يكر وعمر وعثمان.
ويذكرون أيضاً إن في جملة ما أحدثه: "الرفادة"، وهي إطعام الحجاج في أيام موسم الحج حتى يرجعوا إلى بلادهم. وقد فرضها على قريش إذْ قال لهم: "يا معشر قريش أنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وان الحاج ضيف الله وزوّار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج، حتى يصدروا عنكم". ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون في كل عام من أموالهم خرجاً، في فيدفعونه إلى قصي، لكي يصنعه طعاماً للناس أيام منى وبمكة وقد بقيت هذه السنة في الإسلام. وذكر إن "الرفادة شيء كانت تترافد به قريش في الجاهلية، فيستخرج فيما بينها كل إنسان مالاً بقدر طاقته وتشتري به للحاج طعاماً وزبيباً للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج.
وكانت إلى قصي أيضاً: الحجابة، والسقاية واللواء. فحاز شرف قريش كله. وصار رئيسها الوحيد المطاع، الناطق باسمها الأمر وللناهي، إذ. لأ أحد أحكم وأعقل وأحسن إدارة للملك منه.
وذكر إن قيصا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة، وملك الفرس الساسانيين "بهرام جور". وقد كان حكم "بهرام جور" من سنة "420 م" حتى سنة "438 م"، أي في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وإذا أخذنا برواية من جعل قصياً من المعاصرين لهذا الملك، يكون حكم قصي إذن في النصف الأول من للقرن الخامس للميلاد.
وقد نسب أهل الأخبار إلى قصي أقوالا وأمثالاً وحكماً وجعلوه غاية في الحكمة والمنطق. وروي "إن أمر قصي عند قريش ديناً يعملون به ولا يخالفونه".
وقد ترك قصي أثراً كبيراً في أهل مكة، وعدّوه المؤسس الحقيقي لكيان قريش. وكانوا يذكرون اسمه دائماً بخير. وكانوا لا يطيقون سماع أحد يستهين بشأنه. فلما تطاول الشاعر "عبد الله بن الِزبَعْرىَ"، على ما جاء في بعض الروايات، وتجاوز حدّه بذكر قصي بسوء في شعر له، كتبه كما يقولون في أستار الكعبة، فضب بنو عبد مناف، واستَعدوَا عليه "بني سهم"، لأنه كان من "بني سهم"، فأسلموه اليهم، فضبربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة، فاستغاث قومه، فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيّاً ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف وأكرموه، فمدحهم بأشعار كثيرة.
ولم نعثر في نصوص المسند على اسم رجل يُّدعى قصيّها، وإنما ورد في النصوص النبطية اسم علم لأشخاص. وهذا الاسم هو اسم صنم في الأصل، بدليل ورود عبد قصي. أما حديث الأخباريين عن أصله وفصله، فهو بما لا قيمة له. وقد ابتدعته مخيلتهم على الطريقة المألوفة في اختراع تفاسير لأسباب التسميات. والظاهر إن هذا الاسم من الأسماء التي كان يستعملها العرب النازلون في أعالي الحجاز، وربما في بلاد الشام.
وفي جملة النصوص النبطية التي عثر عليها في "صلخد" اسم رجل عرف ب "روحو بن قصيو" "روح بن قصي"، كما عثر على نصّ جاء فيه اسم "مليكو بن قصيو." "مالك بن قصي"، وورد اسم "قصيو بن اكلبو"، أي "قصي بن كلاب". وقد تبين من هذه الكتابات إن المذكورين هم من أسرة واحدة، وقد كَانوا كهاناً أو سدنة لمعبد من معابد "صلخد". فقصي إذن من الأسماء الواردة عند النبط. والغريب أننا نرى بين قصي صلخد وقصي مكة اشتراكاً لا في الاسم وحده، بل في المكانة أيضاً، فلقصي صلخد مكانة دينية، ولقصي مكة هذه المكانة أيضاً في مكة.
ويلاحظ إن الاسم الذي زعم الأخباريون انه اسم قصي الأصلي الذيُ سميّ به يوم ولد بمكة، وهو "زيد"، هو أيضاً اسم صنم. فقد نص أهل الأخبار على أن "زيداً" هو صنم من أصنام العرب.
ويذكر الأخباريون انه كان لقصي أربعة أولاد، ورووا قولاَ زعموا انه قاله. فقد ذكر:ا انه قال: "ولد لي أربعة، فسميت أثنين بصنمي، وواحداً بداري، ووحداً بنفسي". وكان يقال لعبد مناف: القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه "حُبىّ" دفعته إلى مناف، وكان أعظم أصنام مكة، تدينا بذلك، فغلب عليه عبد مناف. وأولاده هم: "عبد مناف"، واسمه "المغيرة"، وعبد الله، وهو "عبد الدار"، و "عبد العزى"، و "عبد قصي"، و "هند" بنت قصي، تزوجها "عبد الله بن عمّار الحضرمي".
ولما مات قصي، دفن بالحجَون، وقد كانوا يزورون قبره ويعظمونه. والحجون جبل بأعلى مكة كان أهل مكة يدفنون موتاهم فيه. فعليه مقبرة جاهلية من مقابر مكة القديمة. وقد ذكر في شعر جاهلي.
وقد أنكر بعض المستشرقين وجود "قصي"، وعدّوه شخصية خرافية من شخصيات الأساطير، واستدلوا على ذلك بالأقاويل التي رواها ابن الكلبي وابن جريج عنه، وهي ذات طابع قصصي. غير إن هذه المرويات لا يمكن إن تكون دليلا قوياً وسنداً يستند إليه في إنكار وجود رجل اسمه قصي، وإذا كان ما قيل عنه خرافة، فلن تكون هذه الخرافة سبباً لإنكار وجود شخص قيلت عنه.
وقد ترك "قصي" جملة أولاد هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وعبد بن قصي. وقد تكتل أبناء هؤلاء الأولاد وتحزبوا، ونافسوا بعضهم بعضاً، فنافس بنو عبد مناف بني عبد الدار، وكونوا حلفاً فيما بينهم كان جماعته وأنصاره بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم والحارث بن فهر. وتراص بنو عبد الدار وجمعوا شملهم وشمل من انضم إليهم، وكونوا جماعة معارضة تألفت من بني مخزوم وبن سهم وبني جمح وبني عدي بن عامر بن لؤي ومحارب. وهم من "قريش الظواهر". وقد عرف حلف "بني عبد مناف" ب "حلف المطيبين" و ب "المطيبون"، وعرف بنو عبد الدار ب "الأحلاف". ولما ظهر الإسلام، كانت هذا النزاع العائلي على رئاسة مكة قائماً، وقد تمثل في تنافس الأسر على الرئاسة. اشتهر بعضها بالثراء والغنى، واشتهر بعضها بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية.
ويلاحظ إن هذا النزاع لم يكن نزاعاً عائلياً تماماً، قام على النسب إلى الأب والجد بل كمان نزاعاً على الرئاسة والسيادة في الغالب، فنجد جماعة من عائلة تنضم إلى العائلة الأخرى المنافسة، وتترك عشيرتها، لأن مصلحتها الخاصة وتخاصمها مع. أحد أقربائها دفعاها على اتخاذ ذلك الموقف.
ولما أسن قصي، جعل لابنه "عبد الدار" على حدّ رواية أهل الأخبار دار الندوة والحجابة أي حجابة الكعبة، واللواء، فكان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية وهي سقاية الحاج، و "الرفادة"، وهي خَرْج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاماً. للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: "إنكم جيران الله وأهل بيته، وان الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شراباً وطعاماً أيام الحج، حتى يصدروا عنكم"، ففعلوا، فكانوا يخرجون من أموالهم، فيصنع به الطعام أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام.
ويذكر الأخباريون في تعليل إعطاء عبد الدار هذه الامتيازات إن عبد الدار كان ضعيفاً، وان عبد مناف شقيقه كان قد ساد في حياة أبيه، وكثر ماله، فأراد قصي بذلك تقويته بهذه الامتيازات.
وقد توارث بنو عبد الدار اللواء، فلا يعقد لقريش لواء الحرب الا هم. وهي وضيفة مهمة جداً، لما للواء من أثر خطير في الحروب والمعارك في تلك الأيام. وهذا كانوا يتدافعون في الذبَّ عن اللواء، حتى لا يسقط على الأرض بسقوط حامله، وسقوطه معناه نكسة معنوية كبيرة تصيب المحاربين تحت ذلك اللواء. ولما أسلم "بنو عبد الدار"، قالوا: يا نبيّ الله، اللواء إلينا. فقال النبي: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل اللواء.
ويذكر الأخباريون إن قصيّاً لما هلك، قام "عبد مناف بن قصي" على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعاً بعد الذي كان قصي قطع لقومه.
ويذكر أهل الأخبار إن بني عبد مناف أجمعوا على إن يأخذوا من بني عبد الدار "الرفادة" و "السقاية"، فأبى بنو عبد الدار ترك ما في أيديهم وأصروا على الاحتفاظ به، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد الدار، وطائفة مع بني عبد مناف، وتحالف كل قوم مؤكداً، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، فوضعوها عند الكعبة، وتحالفوا، وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم، وتحالفوا، فسموا الأحلاف، وتعبأوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح، على إن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، واقترعوا عليها، فصارت لهاشم بن عبد مناف.
وأما الذين كوّنوا حلف الأحلاف ولعقة الدم، فهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب.
وقد خرجت من ذلك "بنو عامر بن لؤُيّ" و "بنو محارب بن فهر". فلم يكونوا مع واحد من الفريقينْ.
وتذكر بعض الروايات إن "آل عبد مناف" قد كثروا، وقل " "آل عبد الدار"، فأرادوا انتزاع الحجابة من "بني عبد الدار"، فاختلفت في ذلك قريش، فكانت طائفة مع "بني عبد الدار" وطائفة مع "بني عبد مناف"، فأخرجت "أم حكيم البيضاء" توأمة أبي رسول الله، جفنة فيها طيب، فوضعتها في الحجر، فقالت: من كان مناّ فليدخل يده في هذا الطيب. فأدخلت عبد مناف أيديها، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسّموّا المطيبين. فعمدت بنو سهم بن عمرو، فنحرت جزوراً، وقالوا: من كان مناّ، فليدخل يده في هذه الجزور، فأدخلت أيديها عبد الدار وسهم، وجمح، ومخزوم، وعدي، فسُميّت الأحلاف. وقام الأسود بن حارثة بن نضلة، فأدخل يده في الدم، ثم لعقها، فلعقت بنو عدي كلها بأيديها، فسموا لعقة الدم.
وتذكر رواية إن "بني عبد مناف" اقترعوا على الرفادة والسقاية فصارتا إلى "هاشم بن عبد مناف"، ثم صارتا بعده إلى "المطلب بن عبد مناف" بوصية، ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لأبي طالب. ولم يكن له مال، فاستدان من أخيه العبّاس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم، فأنفقها، في لم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى "العباس": وأبرأ أبا طالب مما له عليه.
وتذكر رواية أخرى، إن هاشماً وعبد شمس والمطلب ونوفل بني عبد مناف أجمعوا إن يأخذوا ما بأيدي "بني عبد الدار" مما كان قصي جعل إلى "عبد الدار" من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق بها منهم، فأبت "بنو عبد الدار"، فعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على الاّ يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضاً. وعرف حلف "بني عبد مناف" بحلف المطيبين وعرف حلف "بني عبد الدار" محلف الأحلاف ولعقة الدم. ثم تداعوا إلى الصلح، على إن تكون الحجابهً واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة. وولى هاشم بن عبد مناف السقاية الرفادة. وتصرح بعض الروايات، إن هاشما هو الذي قام بأمر بني عبد مناف، ثم عامر بن هاشم.
ومعنى هذا إن الحلفين المذكورين: حلف المطيبين وحلف "الأحلاف"، إنما عقدا في حياة "هاشم بن عبد مناف"، أي قبل ميلاد الرسول. وأن. تلف "لعقة الدم" هو نفسه حلف الأحلاف، أو من حلف الأحلاف، عرف بهذه التسمية، لأن "بني عدي بن كعب، الذين حالفوا عبد الدار وانضموا اليهم، اسقوا الدم، فقيل لهم لعقة الدم، تمييزا لهم عن الذين لم يلعقوا الدم، وهم الأحلاف, وذُكر إن "بني عبد الدار" و "بني عدي"، أدخلوا جميعاً أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا كلهم "لعقة الدم" بذلك.
ولكننا نصطدم بروايات أخرى، ترجع تأريخ حلف "لعقة الدم" إلى أيام بنيان الكعبة، التي كان قبل المبعث بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. فهي تذكر إن أهل مكة لما وصلوا إلى موضع الركن اختصموا في وضع الحجر الأسود، حتى تجاوزوا وتحالفوا وتواعدوا على القتال، "فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءةّ دماء، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا لعقة الدم بذلك"، ثم اتفقوا على إن يجعلوا بينهم حكماً، يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، على إن يكون أول من يدخل من باب المسجد، فكان أول من دخل عليهم رسول الله. فحكم على نحو ما هو معروف.
كما نصطدم بروايات أخرى تذكر إن حلف المطيبين، إنما عرف بذلك، لان خمس قبائل هي: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، لما أرادت بنو عبد مناف اخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية وأبت بنو عبد الدار تسليمها إياهم اجتمع المذكرون في دار عبد الله بن جدعان، وعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على التناصر وأن لا يتخاذلوا، ثم اخرج لهم بنو عبد مناف جفنة ثم خلطوا فيها اطياباً وغمدوا أيديهم فيها وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيداً فسُمّوا المطيبين. وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها وهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم حلفاً آخر مؤكداً، فسُموْا بذلك الأحلاف.
وقيل بل قسم رجل من بني زيد لمكة معتمراً ومعه تجارة اشتراها منه رجلٌ سهمي فأبى إن يقضيه حقه فناداهم من أعلى أبي قيس، فقاموا وتحالفوا على أنصافه، وكان النبيّ من المطيبين لحضوره فيه، وهو ابن خمس وعشرين سنة وكذلك أبو بكر. وكان عمر أحلافياً لحضوره معهم.
وقد وهم بعض أهل الأخبار فجعلوا حلف المطيبين هو حلف الفضول، ويظهر انهم وقعوا في الخطأ من كون الذين دعوا إلى عقد حلف الفضول وشهدوه هم من "المطيبين"، فاشتبه الأمر عليهم، وظنوا إن الحلفين حلف واحد. وقد ردّ عليهم بعض أهل الأخبار أيضاً، اذ ذكروا إن الرسول لم يدرك حلف المطيبين، لأنه كان وقع بين بني عبد مناف، وهم هاشم واخوته ومن انضم اليهم، وبين بني عمهم عبد الدار وأحلافهم، فقيل لهم الأحلاف، قبل إن يولد الرسول.
إما إن الخلفيين قد عقدا في أيام "عبد الله بن جدعان"، فخطأ، فقد اجمع أهل الأخبار على إن بني عبد مناف كانوا يلون الرفادة والسقاية قبل هذا للعهد، وأن "هاشم" كان يليهما في حياته، وأما انهما وقعا في أيام "هاشم" أو في أيام أبنائه، فان ذلك اقرب إلى المنطق، وذلك فيما إذا أخذنا برواية من يقول: إن "قصياّ" أوصى بالرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة إلى ابنه "عبد الدار"، وحرم بذلك ابنه "عبد مناف" من كل شيء، بحجة انه كان غنياً، وجيهاً وقد ساد في حياة ابيه، فلا حاجة له به إليها، فتأثر هاشم أو ابناوه من ذلك، فاًجمعوا على انتزاعها من أيدي "بني عبد الدار" وحدث ما حدث، وتولى هاشم الرفادة والسقاية على النحو المذكور." وهناك رواية أخرى رواها "اليعقوبي"، تفيد إن قصيّاً كان قد قسم السقاية والرفادة والرئاسة والدار بين ولده. فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزّى، وحافة الوادي لعبد قصيّ. واخذ كل ابن ما أعطاه والده له.
ويتبن من دراسة الروايات المختلفة الواردة عن الحلفين المذكورين، إنهما قد عقدا لأغراض أخرى لا صلة لها بالسقاية والرفادة، وربما كانا قد عقدا قبل أيام هاشم، بسبب نزاع وقع بين بطون قريش على الزعامة، فتحربت تلك البطون وانقسمت على نفسها إلى "مطيبين" و "احلاف"، وربما كان حلف لعقة الدم حلفاً آخر عقده "بنو عدي" فيما بين هم، وهم الذين انحازوا إلى الأحلاف، ودخلوا معهم في حلف. خاصة وفي "اليعقوبي" يشير إلى حلف عقده "عبد مناف" بعد وفاة والده "قصي" مع "خزاعة" و "بني عبد مناف ابن كنانة"، عرف بحلف "الأحابيش". وكان مدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف "عمرو بن هلل بن معيص". مما يشير اذا صح بهذا الخبر إلى إن "بني مناف" أو الذين انضموا إليهم، كما يقول ذلك "اليعقوبي" أرادوا تقوية أنفسهم وتكوين قوة مهابة بتأليف ذلك الحلف. وربما كان هذا الحلف موجهاً ضد "بني عبد الدار" مما دفع "بني عبد الدار" على جمع صفوفهم وتأليف حلف يهم، للدفاع عن مصالحهم.
واسم هاشم على رواية الأخباريين "عمرو" وهو اكبر أولاد عبد مناف. وإنما قيل له هاشم،لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. ذكر إن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزوراً، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك ويذكرون إن شاعراً من الشعراء، هو مطرود بن كعب الخزاعي، أو ابن الزبعرى، ذكر ذلك في شعره حيث قال: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مُسْنِتون عجاف
ويظهر من وصف الأخباريين لهاشم انه كان تاجراً، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا انه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف.
ويذكر أهل الأخبار إن هاشماً كان يحُث أهل مكة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديم كل معونة لهم، لأنم يأتون يعظّمون بيت الله، ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أكرموا به، وشرفوا بالبيت على سائر العرب، فعليهم تقديم كل معونة لحجاج البيت. وكان يطلب منهم. كمساعدته بإخراج ما يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونه في دار اندوة، ليخدم به الحجاج، لأنه لا يمكن وحده من إكرامهم وتقديم الطعام من ماله حده إليهم. فكان هاشم يخرج في كل عام مالا كثيراً، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون. وكان كل إنسان يرسل بمئة مثقال هرقلية، فيجمع هاشم ما يجمع ويطبخ به طعاماً للحجاج.
ولشح الماء في مكة، واضطرار الناس إلى جليه من أماكن بعيدة، فعل "هاشم" ما فعله قصيّ حين حفر بئراً على نحو ما ذكرت، فحفر بئراً عرفت ب "بذَّر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهر دار الطلوب مولاة زيدة بالبطحاء في اصل المستنذر. وحفر بئراً أخرى، وهي البئر التي يقال لها بئر "جبير بن مطعم"، ودخلت في "دار القوارير. فيسر بذلك لمكة الماء، وساعد على اكثاره عندهم.
وأخذ "هاشم" عهداً على نفسه بأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قُربةً إلى رب "البيت" ما دام حيّاً. فكان إذا حفر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمزم"، ثم تملا بالماء من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج. وكان يطعمهم قبل الروية بيوم بمكة، وبِمنِى وعَرفَة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمرَ، ويحمل لهم الماء، فيستقون بمنى، والماء يومئذ قليل في حياض الأدم إلى إن يصدروا من "منِى"، ثم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بلادهم.
وموضوع السقاية موضوع غامض. فبينما نجد أهل الأخبار يفسرون السقاية باسقاء المحتاجين من الحجاج بالماء مجاناً، نجدهم يتحدثون عن السقاية على إنها إسقاء الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء. وذكر إن العباس كان يليها في الجاهلية و الإسلام.
وتحدث أهل الأخبار عن "سقاية" عرفت ب "سقاية عدىّ"، زعموا إنها كانت بالمشعرين بين الصفا والمروة، وان مطرود الخزاعي ذكرها حين قال: وما النيل يأتي بالسفين يكـفّ بأجود سيباً من عدكماّ بن نوفل
وأنبطت بين المشعرين سقـاية لحجاج بيت الله أفضل منهـل
وذكر إن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل.
ويظهر من وصف الأخباريين لهاشم انه كان تاجراً، له تجارة مع بلاد الشام. وانه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا انه هو أول من سنّ الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف. وانه كان صاحب "إيلاف قريش" وذلك إن قريشاً كانوا تجاراً، ولكن تجارتهم-كما يقول أهل الأخبار-لم تكن تتجاوز مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على من حولهم من العرب. فكانوا كذلك حتى ركب هاشم ابن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة ة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب به. فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: أيها الملك: إن قومي تجار العرب، فإن رأيت إن تكتب لي كتاباً تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم. فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مرّ بحي من العرب بطريقه إلى مكة، عقد معهم عقدا على إن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش، فكان الإيلاف. فلما وصل إلى مكة، كان هذا الإيلاف أعظم ما جاء به هاشم إلى قريش. فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ من العرب حتى أوردهم الشام، وأحلهم قراها. فكان ذلك بدء إيلاف قريش.
وذكر إن متجر "هاشم" كان البلاد الشام، ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغل نحو الشمال، حتى زعم بعض أهل الأخبار انه كان ربما بلغ "أنقرة" "فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه". ويجب علينا ألا نتصور دائماً إن أي "قيصر" يرد ذكره في أخبار أهل الأخبار، هو قيصر الروم حقاً، بل هو أحد عمّاله في الغالب، وأحد الموظفين الروم في بلاد الشام، وربما كان أحد قادة الحدود. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصة للشاعر امرؤ القيس، فأدخلوها في قصة "هاشم". فلم تكن "أنقرة"، مقرّا للقياصرة إذ ذاك حتى يذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويزوره فيها، بل كانت "القسطنطينية"، هي عاصمة البيزنطيين.
وقد فسر "الجاحظ" "الإيلاف"، انهُ جعلٌ فرضه هاشم على القبائل. لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذْ قال: "وقد فسَّره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمنَون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدراً. مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب". فيفهم من ذلك إذن إن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل، لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألقهم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفَة قلوبهم" في الإسلام. لا سيما وان بين الإيلاف و "ألف" "ألف بينهم" و "المؤلفة" صلة. وان فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله: "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجعل لهم معه ربحاً"، وبين تأليف القبائل صلة تامة، تجعل تفسير الإيلاف على انه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافلَ قريش في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهاماً من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رؤوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول. وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها.
وقد تعرض "الثعالبي" لموضوع "إيلاف قريش"، فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها من مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وفي الأشهر الحرام لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها، للتحمس في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم، وكانوا بواد غير ذي زرع.... فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومرّ بالأعداء، وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره إذ هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وكا يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين: إحداهما إن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى إن أناساً من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدراً، كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعاً مع متاعه، ويسوق إليهم إبلاً مع إبله ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشاً مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحاً للفريقين، إذ كان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش، وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها، وطاب عيشها. ولما مات هاشم قام بذلك المطلَّب، فلما مات المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل، وكان أصغرهم".
والى هذا الإيلاف أشر في شعر "مطرود الخزاعي" بقوله: يا أيها الرجل المحولّ رحله هلا حلت بآل عبد منـاف
الآخذين العهد في إيلافهـم والراحلين برحلة الإيلاف
وعمل قريش هذا هو عمل حكيم، بدّل وغيّر أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة جاءت إليها نتيجة لذلك بأرباح كبيرة، ما كان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجر وفقاً لطريقتها القديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق، فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأسرة التي أرسلتها، وربما أنزلت الإفلاس والفقر بأصحابها، بينما توسعت القافلة وفقاً للطريقة الجديدة بأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حال، ومن سادات قبائل. وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عدداً كبيراً من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيرّ مكة مكاناً مقصوداً للأعراب.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم: "عاتكة بنت مر"ة السُلمية"، و "نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعد أبيهم عبد مناف جميعاً، وكان يقال لهم: "المجبرون"، وصار لهم شاًن وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العِصَم"، أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلاَ من سوك الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلاً، من النجاشي الاكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى ارض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلاً من الاكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى ارض العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلاً من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجُبرت بهم قريش، فسمّوا المجبرين. حتى ضرب بهم المثل، فقيل: أقرش من المجبرين. والقرش الجمع والتجارة، والتقرش التجمع، والمجبرون هم الأربعة المذكورون.
وفي رواية أخرى إن "المطلب" هو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه. وأن هاشم، هو الذي عقد الحلف لقريش من "هرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب إن يكون هاشم قد أدرك، أيام "هرقل" "610-641" "Heracleous I"، وهو أمر غير ممكن. لأن معنى ذلك انه عاش في أيام الرسول وأدرك رسالته. ولا يهم ورود اسم "هرقل" في هذه الرواية، فأهل الأخبار لا يميزون بين ملوك الروم، ويذكرون اسم "هرقل"، لأنه حكم في أيام الرسول وفي أيام الخلفاء الراشدين الأُول.
وإذا صحت الرواية، يكون "آل عبد مناف"، قد احتكروا التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة. وقد وَزّعوا التجارة فيما بينهم، وخَصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك لعهد، وأنهم تمكنوا بهذه السياسة من عقد عقود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجروا معها لنيل حظوة. عندها، ولتسهيل معاملاتها التجارية، فجنبَوا من هذه التجارة أرباحاً كبيرة.
فما كان في استطاعة "قريش" إرسال "غيرها" إلى بلاد الشام أو العراق أو اليمن أو العربية الجنوبية، بغير رضاء وموافقة ساحات القبائل التي تمر قوافل قريش بأرضها:، ورضاء هؤلاء السادات بالنسبة لقريش هو أهم جداً من رضاء حكومات بلاد الشام أو العراق أو اليمن عن مجيء تجار مكة إلى بلادها للاتجار في أسواقها، فما الفائدة من موافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجار مكة للبيع والشراء في أسواقها، إن لم يكن في وسع أولئك التجار تأمين وصول تجارتهم إليها، أو تاًمين سلامة ما يشترونه من أسواقها لايصاله إلى مكة أو إلى الأسواق الأخرى. هذا كان من أهم ما فعله تجار مكة في هذا الباب، هو عقدهم "حبالاً" و "عصماً" وعهوداً مع رؤساء القبائل، لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهم أو تقديم هدايا والطاف مناسبة مغرية لهم، أو اشتراكهم معهم في تجارتهم. يقول الجاحظ في باب "فضل هاشم على عبد شمس"، "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجُعل لهم معه ربح". وبهذه العقود المتنوعة سيطر تجار قريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحدّوا من شره فقراء أبناء البادية إلى الغنائم. وصار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكة ومن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نهو الأماكن المذكرة بكل أمن وسلام.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق