775
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والأربعون
الأحابيش
ومن أهل مكة جماعة عرفت ب "الأحابيش". ذكر أهل الأخبار انهم حلفاء قريش، وهم: بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون ابن خزيمة. اجتمعوا بذنب حبشي-وهو جبل بأسفل مكة-فتحالفوا بالله إنا ليَدٌ على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه. وقيل: إنما سُمّوا بذلك لاجتماعهم. والتحابش: هو التجمع في كلام العرب. وذكر انهم اجتمعوا عند "حبشي" فحالفوا قريشاً. وقيل: أحياء من القارة انضموا إلى "بني ليث" في الحرب التي نشبت بينهم وبين قريش قبل الإسلام، فقال إبليس لقريش: إني جارٌ لكم من بني ليث فواقعوا دماً، ُسمّوا بذلك لاسودادهم، قال:
ليث ودِيل وكعب والـذي ظـأرت جمع الأحابيش، لما احمرت الحدقُ
فلما سميت تلك الأحياء "الأحابيش" من فبل تجمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع.
وورد إن "عبد مناف" و "عمرو بن هلال بن معيط الكناني"، عقدا حلف الأحابيش. والأحابيش، بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وكانوا مع قريش. وقيل أيضاً إن الأحابيش، هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق، والحيا من خزاعة.
- وقد وصف "اليعقوبي" "حلف الأحابيش" بقوله: "ولما كبر عبد مناف ابن قصي جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، يسألونه الحلف ليعزوا به. فعقد بينهم الحلف الذي يقال له: حلف الأحابيش. وكان ُمدبرّ بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الخلف عمرو بن هلل "هلال" بن معيص ابن عامر. وكان تحالف الأحابيش على الركن. يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش فيضعان ايديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على ا الخلق جميعاً حتى يرث الله الأرض ومن. عليها وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعاً، مابل بحرٌ صوفة، وما قام حر أو ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة. فسمي حلف الأحابيش".
، وقدُ ذكر أن "المطلب بن عبد فناف بن قصي"، قاد بني عبد مناف وأحلافها من الأحابيش، وهم من ذكرتُ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. كما ورد إن "الأحابيش"، الذين ذكرت اسماءهم، كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل قريش وهوازن، وغطفان، وأسلم، و "طوائف من العرب" سوق عكاظ، فيبيعون ويشترون. كما ذكر انهم كانوا مثل قريش يقدسون اسافاً ونائلة.
وورد في بعض اخبار الأخباريين، إن يوم "ذات نكيف."، وقع بين قريش وبني كنانة. فهزمت قريش بني كنانة، وعلى قريش عبد المطلب. وقد بقي "الأحابيش" بمكة، إلى أيام الأمويين. فذكر إن "عبد الله المتكبر"، وكان من اشراف قريش في أيام "معاوية" ومن اغناها مالاً، لما وفد على "معاوية" وكان خليفة إذْ ذاك، كَلَّمه في "قريش" ووجوب الاعتماد عليهم ثم في "الأحابيش"، إذ. قال له عنهم: "وحلفاؤك من الأحابيش" قد عرفت نصرهم ومؤازرتهم، فاخلطهم نفسك وقومك".
وقد بحث "لامانس" في موضوع الأحابيش، فرأى انهم.قوة عسكرية ألفت من العبيد السود المستوردين من افريقية ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنا. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنم من ايده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من ايد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن ايدها من "بني المصطلق" و "بني الهون" بالأحابيش. هو إن من الممكن إن تكون هذه التسمية قد وردت اليهم من اجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قيل الإسلام بزمن طويل. فقد سبق إن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي اثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"، إن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم: "Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة" وهو منازل "كنانة". وقد بقي الحبش به وقتاً طويلاَ. واختلطوا بسكانه. فيجوز إن تكون لفضة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة"
من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقباً لهم، أو علماً لكنانة ومن حالفها. ويجوز إن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة. أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات، حتى ظهرت السمرة على سحنهم. ولهذا وصفوا بالأحابيش فليس من اللازم أذن إن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش افريقية، بل كانوا عرباً وقوماً من العبيد والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة. ومما يؤيد رأيي هذا هو وود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في اخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول: "فاجتمعت قريش لحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن اطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة". ونجد مثل ذلك في اخبار معارك أخرى. مما يشير إلى إن الأحابيش، ليسوا عبيد إفريقية حسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة. وأن اولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا اصولهم وضاعت انسابهم، واتخذوا لهم نسباً عربياً، .وقد كان للأحابيش سادة يديرون امورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حياّن بن ثعلبة السلمي" الذي اجار "ابا بكر". وشهد معركة حنين.
ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد". ويظهر انه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة. وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة: "الحليس بن يزيد". وذكر انه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة". وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش. وذكره. غيره على هذه الصورة: "وحليس بن علقمة الحارثي. سيد الأحابيش ورئسهم يوم أحد. وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة".
وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر" المعروف ب "الراهب" وقاتل بهم، مع إن رئيسهم وسيدهم اذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة". وهو يومئذ "سيد الأحابيش". وقد مرّب "أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه،على فعله وأنبه. ولعلَّ هذا الحليس هو الحليس المتقدم، كتب اسم والده بصور. مختلفة بحذف اسم والده وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه انسان آخر.
وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية". فقد ذكر الطبري إن قريشاً اوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان"، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة"، إلى رسول الله، فلما رآه الرسول، قال: إن هذا من قوم يتألهون، فلما رأى الحليس هدْيَ المسلمين في قلائده، وأحس إن الرسول إنما جاء معتمراً لا يريد سوءاً لقريش، قصّ عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلسى، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك. فغضب "الحليس" عند ذلك، وقال. يا معشر قريشى، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، إن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظماً له، والذي نفس الحليس بيده لتخلُّن بين محمد وبن ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به.
وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح. وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و "بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش، اسفل مكة، كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد إن يسير عليهم، فقاتلهم حتى هزموا. ولم يكن بمكة قتال غير ذلك.، ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم.
ويتبين من دراسة اخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها،
إن الأحابيش، كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في ادارة شؤونها، يدير امورها رؤساء منهم، بعرف أحدهم ب "سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء بعض منهم قبل قليل. وقد عاشوا عيشة اعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات. وذلك بدليل قول قريش للحليس: "اجلس، فإنما أنت رجل اعرابي، لا علم لك" أي انهم كانوا اعراباً ويعيشون عيشة اعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضاً إن "الحليس" "سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة"، كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما اذا كانا عربيين صريحين ام انهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء. ويظهر من خبر "الحديبية"، ومن قول النبي لما رأى "الحليس". قادماً إليه: "إن هذا من قوم يتألهون"، إن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي من عباد الاصنام بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إلَه. وقد يشير الرسول بذلك إلى انهم كانوا نصارى، اخذوا نصرانيتهم من الحبش. ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا استبعد أيضاً إن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء لأنهم كانوا من الساحل الافريقي المقاتل لجزيرة العرب. جاؤوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة اعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا اعراباً في كل شيء. وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى اصلهم، وانما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم ب "حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون ب "الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش، أي اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و "عضل" و "الديش" و "المصطلق" و "الحيا". لسبب لا نعرفه، قد يكون بسبب كونهم عبيداً سوداً، وأطلق الحلف على المذكورين. غير إن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها: "وخرجت قريش بأحابيشها" إلى إن الأحابيش المذكوريين كانوا في حكم قريش، أي جماعة من الحبش من أهل افريقية، كانت كما ذكرت. تكوّن وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل اخرى. ولما كان عام الفتح امرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و "بني الحارث نن عبد مناة"، للدفاع عن مكة من جهة الجنوب. فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد".
وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش. حتى زعم إن قريشاً ركنت اليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت اليهم دوراً خطيرا ًفي حروبها مع الرسول. وقد استند فى رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك لحروب. غيرْ اننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، إن الأحابيش وان ساهموا فيها، الا انهم لم يلعبوا دوراً خطيراً فيها. وانهم لم يكنوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشاً، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم، فقد ساعدهم أيضاً طوائف من الأعراب، أي من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.
وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب. لأن التجارة لا يمكن إن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لشك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم، لتاًمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و "الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم وليكونوا حرساً وقوة أمن لهم.
ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي الوصول إلى غايتها وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة، كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب واسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم، وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل، واداء المال رشوة لهم باًقل مقدار ممكن، لأن الاكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد. وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهى عند حدّ. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب اعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.
وكان لأشرافها أحلاف مع سادات القبائل، تحالفوا معهم لتمشية مصالهم ولحماية تجارتهم. فكان "زرارة" التميمي مثلاً حليفاً ل "بني عبد الدار". وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف، قد تزوّج "بنت النباش بن زرارة"، وأولد منها "عكرمة بن عامر بن هاشم" الشاعر، و "بغيض بن عامر" الذي كتب الصحيفة على "بني هاشم" في أمر مقاطعة قريش لبتي هاشم.
وقد عيرت قريش بأنها لا تحسن القتال، وانها تجاري وتساير من غلب، وانها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حيَّة الطائي" ابن عم "قبيصة بن إباس بن حيلّة الطائي" صاحب الحيرة، ب "سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: اما إذا كان قرشياً فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال. إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيراً، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير". ونجد أمثلة أخرى من هذا القبيل تشير إلى ميل قريش إلى السلم، وعدم قدرتها على القتال.
وذكر الأخباريون انه كان لكنانة جملة أولاد، ذكر ابن الكلبي منهم: النضر، والنضير، ومالكاً وملكان، وعامراً، وعمراً، و الحارث، و عروان "غزوان"، وسعداً، وعوفاً، وغنماً، ومخرمة، وجرولاً. وهم من زوجته "برة بنت مر" أخت "تميم بن مرّ". ولهذا رأى النسابون وجود صلة بين أبناء هؤلاء الأولاد وقبيلة "تميْم". وأما "عبد مناة"، فإنه ابن كنانة من زوجته الأخرى، وهي "الذفراء بنت هانىء بن بلىّ" من قضاعة. ولذلك عدّ أبناؤه من قضاعة.
ويذكر أهل الأخبار إن من أجداد "قصيّ"، رجل كانت له منزلة في قومه اسمه "كعب بن لؤي"، كان يخطب للناس في الحج، وكان رئيساً في "قريش" فلما توفي، أرخت قريش بموته اعظاماً له، إلى إن كان عام الفيل فأرخوا به. وذكر بعض أهل الأخبار إن أسم "كعب" هي من "القين بن جسر" من قضاعة، وان كعباً هذا أول من سمى يوم الجمعة الجمعة، وكانت العنب تسمي يوم الجمعة: العروبة. وأول من قال: "أما بعد"، فكان يقول: "اما بعد، فاستمعوا وافهموا"، وان بين موته والفيل خمسمائة سنة وعشرون سنة.
وفي قول أهل الأخبار عن وقت موت كعب مبالغة شديدة بالطبع، فإن كعباً هو والد "مرّة" و "مرّة بر هو والد "كلاب" و "كلاب" هو والد "قصيّ". فلا يعقل إذن إن يكون بين موت "كعب" وبين الفيل هذا المقدار من السنين.
وهم يذكرون أيضاً إن والد "قصيّ" وهو "كلاب" كان فد تزوج "فاطمة بنت سعد بن سيل"، فأنجبت له "قصياً". وهي من الأزد، من نسل "عامر الجادر". وقد عرف ب "الجادر" لانه بنى جدار الكعبة بعد إن وَهَنَ من سيل أتى في أيام ولاية جرهم البيت، فسمي الجادر. وذكر أيضاً إن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة، ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركاً بذلك، وان عامراً هذا كان موكلاً باصلاح ما شعث من جدرها فسُمي الجادر. وذكر إن "سعد بن سيل"، كان أول من حلى السيوف بالفضة والذهب. وكان أهدى إلى "كلاب" مع ابنته "فاطمة" سيفين محليين، فجعلا في خزانية للكعبة. وذكر إن "كلاباً"، هو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة. وجاء أيضاً انه أول من جدر الكعبة.
و "قصيّ" رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حنن شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولم تكن لغير قريش نفوذ بذكر على مكة. فهو الذي بعث الحياة إلى قومه من قريش، وجعل لهم مكانة في هذه القرية ونفوذاً وشهرة في الحجاز. وهو الذي أوجد لمكة مكانة، وخلق لها نوعاً من التنظيم والإدارة. ومن عهده فما بعد نجد في أخبار مكة ما يمكن إن يركن ويطمأن إليه من أخبار.
وقد روى "ابن قتيبة" خبراً مفاده إن "قيصر" أعان "قصياً" على "خزاعة". وإذا صح هذا الخبر، فإن مساعدة "قيصر" له قد تكون عن طريق معاونة الغساسنة له، وهم حلفاء الروم. وقد تكون قبيلة "بنو عذرة" وهي من القبائل المتنصرة التي عاشت على مقربة من حدود بلاد الشام، هي التي توسطت فيما بين قصي والروم، وقد كانت خاضعة لنفوذهم، فأعانه أحد الحكام الروم - وقد يكون من ضباط الحدود، أو من حكام المقاطعات الجنوبية مثل "بصرى" - بأن أمده بمساعدة مالية أو بايعاز منه إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته في التغلب على خزاعة.ولا أهمية كبيرة في هذا الخبر لكلمة "قيصر". فقد جرت عادة أهل الأخبار على الإسراف في استعمالهم لهذه اللفظة. وقد ورثوا هذا الإسراف من الجاهلين، فقد كان من عادتهم تسمية أي موظف بارز من موظفي الحدود الروم، أو من حكام المقاطعات ب "قيصر". وفي روايات أهل الأخيار أمثلة عديدة من هذا القبيل.
ويذكر إن "عثمان بن الحويرث"، وكان من الهجائين في قريش ومن العالمين باًخبار رجالها، قد توسط فيما بعد لدى البيزنطنيين لتنصيب نفسه ملكاً على مكة. وهو من "بني أسد بن عبد العزى". ويظهر انه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش عن اليمن ومن دخول الفرس إليها ، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، مفتاح البحر الأحمر، فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عندهم من وسائل لتنصيب نفسه ملكاً على مكة، علماً منه إن هذا الطلب سيجد قبولاَ لديهم، وان في امكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطاً اقتصعادياً، بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام، أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكاً عليه، على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة. وكما سأتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد.
والظاهر إن مشروعه هذا لم يلاق نجاحاً، لأن سادات مكة وفي جملتهم رجال من "بني أسد بن عبد العزى"، مثل "الأسود بن المطلب" و "أبو زمعة"، والاْثرياء من الأسرة الأخرى عارضوه، لأنهم كانوا تجاراً يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم، معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها تجاه المعسكرين: الفرس والروم، وسيؤدي هذا الانحياز إلى عرقلة اتجارهم مع الفرس ومع الأرضين الخاضعة لنفوذهم، وتؤدي هذه العرقلة إلى خسارة فادحة تقع بتجارتهم، لا سيما وان الفرس كانوا قد استولوا على اليمن، ولأهل مكة نجارة واسعة معها. ثم إن بين أهل مكة رجال لهم شأن ومكانة في قومهم، وكانوا أرفع منزلة من "عمان بن الحويرث"، لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له حتى وإن أرسل الروم جيشاً قوياً منظماً على مكة، لذلك لم يتحقق حلم "عثمان" في الرياسة ولو بمساعدة قوات أجنبية.
وزعم بعض أهل الأخبار إن "الحارث بن ظالم المريّ"، ذكر "آل قصي" في شعره، ودعاهم ب "قرابين الإله"، إذ قال: وإن تعَصِب بهم نسبي فمنهم قرابين الإله بنو قـصـيّ
وهو في عرف بعض النسابين: "قصي بن كلاب بنُ مرّة بن كعب بن لؤي بن فهِر". و "قصي بن كلاب بنُ مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب ابن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضَر بن نزار بن معد بن عدنان"، في شجرة نسبيه التي توصله إلى جدّه الأعلى "عدنان". فأبوه هو كلاب. اما أمه، فهي "فاطمة بنت سعد بن سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة ابن يشكر" من أزد شنوءة حلفاء في "بني الدّيل". توفي أبوه وهو صغير، وتزوجت أمه بعد وفاة "كلاب" أبيه من رجل من بني عذرة، هو ربيعة بن حرام. ولصغر سن قصي، أخذته أمه معها إلى أرض زوجها في بني عذرة، على مقربة من تَبُوك، وتركت أخاه الأكبر "زهرة" في أهله بمكة. ولما شب قصي، وترعرع، وعرف من أمه أصله وعشرته، رجع إلى قومه، فنزل بمكة وأقام بها: ونظم أمر قريش.
ولم يكن اسم قصي قصيّاً يومُ سمي، بل كان "يداً"، وإنما ُسمّي قصياً بعد ذلك، سميّ قصياً على ما يذكر أهل الأخبار، لأنه قصيّ عن قومه، فكان في بني عذرة، فسمي قصياً لبعد داره عن دار قومه. وبينا قصي بأرض قضاعة لا ينتمي إِلا إلى ربيعة بن حرام فى زوج أمه، وهو من أشراف قومه، إذ كان بينه وبين رجل من قَضاعة شيء، فأنبه القضاعي بالغربة، فرجع قصى إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت، والله، يا بني أكرم منه نفساً وولداً. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، فقالت له أمه: يا بتي، لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فترج في حاج العرب، فإنني أخشى عليك إن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قسم مكة فلما فرغ من الحج، أقام بها، واتخذها له مستقراً ومقاماً.
وتعرف قصي وهو بمكة على "حليل بن حبشية الخراعي"، وكان يلي الكعبة وأمر مكة، ثم خطب إليه ابنته، وهي "حبى"، فزوجه إياها، وولدت له ولده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزّى، وعبد قصي. وكثر ماله، وعظم شرفه، فلما توفي "حليل" رأى قصي انه أولى من خراعة بولاية البيت، وان قريشاً فرعة إسماعيل وإبراهيم، واستنفر رجال قريش، ودعاهم إلى اخراج خزاعة من مكة. وكتب إلى أخيه من أمه، وهو "رزاح بن ربيعة بن حرام العذري" يستنصره، فأجابه ومعه قومه من بني عذوة من قضاعة، ووصلوا مكة ونصروه بم وغلبت قضاعة وبنو النضر خزاعة، وزال ملكهم عن مكة، وصار الأمر إلى قصي وقريش.
وفي رواية أخرى انه اشترى ولاية البيت من "أبي غبَشْان" بزق خمر وبعود. وكان "حليل" كما يقول أصحاب هذه الرواية قد جعل ولاية البيت إلى ابنته "حبى"، فقالت: قد علمت اني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فاني أجعل الفتح والاغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى "أبي غَبشْان"، وهو "سليم بن عمرو بن بويّ بن ملكان بن أفصى"، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما سمعت خزاعة ذلك، تجمعت على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة وأصيب خراعة بوباء العدسة، حتى كادت تفنيهم. فما رأت ذلك، جلت عن مكة. ويذكرون إن العرب لما سمعت بقصة " أبي غبشان"، قالت: "أخسر صفقة من أبي غبشان"، فذهب القول مثلاً.
وأبو غبشان، هو "المحترش". وقد ورد اسم رجل عرف بالحارث، قيل عنه انه غبشان بن عبد عمرو، وانه كان قد حجب البيت، فلعلّ له علاقة بأبي غبشان المذكور، كأن يكون ابنه.
وفي رواية إن القتال حينما اشتد بين قصي وخزاعة، تداعوا إلى الصلح، على إن يحكم بينهم "عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة" "يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث"، فوافق. فكان حكمه إن قصياً أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وان كل دمٍ أصابه من خزاعة موضوع، فيشدخه تحت قدميه، وان كل دمٍ. أصابت خزاعةَ وبنو بكر حلفاؤهم من قريش وبني كنانة، ففي ذلك الدية مؤداةً. وبذلك انتصر قصي على خصومه. ويقولون إن "عمراً" ُسميّ منذ ذلك الحن الشدّاخ، بما شدخ من الدماء.
ولم يشر بعض أهل الأخبار إلى إن شدخ الشدّاخ الدماء بين قريش وخزاعة، كان في عهد قصي، فأغفلوا اسم "قصي"، بل اكتفوا بالاشارة إلى شدخه السماء وإصلاح ما بين قريش وخزاعة، وذكر بعضهم انه حكم في جملة ما حكم به على ألا يخرج خزاعة من مكة. وأكثر الرواة على إن اسمه "يعمر بن عوف، لا "عمرو بن عوف" كما جاء في الرواية المتقدمة".
ولم تشر رواية أخرى ذكرها "ابن دريد" إلى وقوع نزاع بين قصي وبين خزاعة، بل قالت: إن حليلاً سادن الكعبة، كان قد أوصى إليها أمر الكعبة واعطاها مفتاحها، فأعطته زوجها قصياً، فتحولت الحجابة من خزاعة إلى بني قصي.
وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر إن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وانها زعمت إن "حليلاً" أوصى بذلك قصياً، وبقيت على ولائها له، إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة بالناس من عَرَفَة. فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي، أتاهم مع قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه، فناكرهم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالاً شديداً، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة. وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مرّ.
غير إن الرواة يذكرون في مكان آخر الي قصياً اًقر للعرب في شأن حجّهم ما كانوا عليه، وذلك انه كان يراه ديناً في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت-فصار ذلك من أمرهم إلى "آل صفوان بن الحارث بن شجنة" وراثة. فهذه الرواية تنافي ما ذكرته آنفاً من قولهم بقتال قصي لهم، وغلبته علهم. وبقي أمر "عدوان" والنسأة، ومرة ابن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم به ذلك كله.
ويذكر الأخباريون إن قصياً بعد إن تمت له الغلبه، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُميّ لذلكُ مجمّعاً، وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم. فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعاً بين قومه، فبنوا المساكن، وان قريشاً هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، وانها تيمنت به، فكانت لا تعقد أمراً، ولا تفعل فعلاً إلا في داره، كما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدما لهم بعض ولده، وما تدّرع جارية إذا بلغت إن تدّرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمناً بأمره ومعرفة بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.
ويذكر الأخباريون أيضاً، إن قريشاً كانوا إذا أرادوا إرسال عيرهم، فلا تخرج ولا يرحلون بها إلا من دار الندوة: ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفاً له وتيمناً برأيه ومعرفة بفضله، ولا يعذر لهم. غلام إلا في دار الندوة. وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة. وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها.
وقد وردت في الشعر لفظة "مجمع": أبونا قصي كان يدعي مجمِّعاً به جمع الله القبائل من فهر
فيظهر من هذا البيت انه جمع قبائل فهر، ووحدها.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق