774
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والأربعون
مكة المكرمة
ومكة بلد في واد غير ذي زرع، تشرف عليها جبال جُرد، فتزيد في قسوة مناخها. ليس بها ماء، غير ماء زمزم، وهي بئر محفورة، وآبار أخرى مجة حفرها أصحاب البيوت، أما مياه جارية وعيون غزيرة، على ما نرى في أماكن أخرى، فليس لها وجود بهذا المعنى هناك. وكل ما كان يحدث نزول سيول، قد تكون ثقيلة قوية، تهبط عليها من شعاب الهضاب والجبال، فتنزل بها أضراراً فادحة وخسائر كبيرة، وقد تصل إلى الحرم فمؤثر فيه، وقد تسقط البيوت، فتكون السيول نقمة، لا رحمة تسعف وتغيث أهل البيت الحرام.
لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضاً ذات نخيل وزرع وحَب، فاضطر سكانها إلى استيراد ما يحتاجون إليه من الأطراف والخارج، وأن يكتفوا في حياتهم بالتعيش مما يكسبونه من الحجاج، وأن يضيفوا إلى ذلك تجارة تسعفهم وتغنيهم، وتضمن لهم معاشهم، وأماناً وسلماً يحفظ لهم حياتهم، فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينغص عيشهم منغص. "وإذ قال ابراهيم: ربّ اجل هذا بلداً آمناً، وارزق أهله من الثمرات...".
ويعود الفضل في بقاء مكة وبقاء أهلها بها إلى موقعها الجغرافي، فهي عقدة تتجمع بها القوافل التي ترد من العربية الجنوبية تريد بلاد الشام، أو القادمة من بلاد الشام تريد العربية الجنوبية، والتي كان لا بد من أن تستريح في هذا المكان، لينفض رجالها عن أنفسهم غبار السفر، وليتزودوا ما فيه من رزق. ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا من رجال القوافل سرّ السفر وفائدته، فسافروا أنفسهم على هيأة قوافل، تتولى نقل التجارة لأهلا مكة وللتجار الآخرين من أهل اليمن ومن أهل بلاد الشام. فلما كان القرن السادس للميلاد، احتكر تجار مكة التجارة في العربية الغربية، وسيطروا على حركة النقل في الطرق المهمة التي تربط اليمن ببلاد الشام وبالعراق.
وللبيت فضل كبير على أهل مكة، وبفضله يقصدها الناس من كل أنحاء العالم حتى اليوم للحج إليه. وقد عرف البيت ب "الكعبة" لأنه مكعب على خلقة الكعب. ويقال له: "البيت العتيق" و "قادس" و "بادر"، وعرفت الكعبة ب "القرية القديمة" كذلك.
وبمكة جبل يطل عليها، يقال له جبل: "أبو قبيس"، ذكر بعض أهل الأخبار انهُ سمي "أبا قبيس" برجل حداد لأنه أول من بنى فيه. وكان يسمى "الأمين" لأن الركن كان مستودعاً فيه. وأمامه جبل آخر؛ وبين الجبلين وادٍ، فيه نمت مكة ونبتت. فصارت محصورة بين سلسلتين من مرتفعات.
وقد سكن الناس جبل "أبي قبيس" قبل سكنهم بطحاء مكة، وذلك لأنه موضع مرتفع ولا خطر على من يسكنه من اغراق السيول له. وقد سكنته "بنو جرهم"، ويذكر أهل الأخبار انه إنما سُمّي "قبيساً" ب "قبيس بن شالخ" رجل من جرهم. كان في أيام "عمرو بن مضاض".
ويظهر انه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، فقد كان نُسّاك مكة وزهادها ومن يتحنف ويتحنث ويترهب من أهلها في الجاهلية يصعده ويعتكف فيه. ولعله كان مقام الطبقة المترفة الغنية من أهل مكة قبل نزوح "قريش" إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت.
ويظهر من سكوت أهل الأخبار عن الإشارة إلى وجود أُطم أو حصون في مكة للدفاع عنها، إن هذه المدينة الآمنة لم تكن ذات حصون وبروج ولا سور يقيها من احتمال غزو الأعراب أو أي عدو لها. ويظهر إن ذلك إنما كان بسبب إن مكة لم تكن قبل أيام "قصيّ" في هذا الوادي الذي يتمركزه "البيت"، بل كانت على المرتفعات المشرفة عليه.
اما الوادي، فكان حرماً آمناً يغطيه الشجر الذي انبتته السيول ورعته الطبيعة بعنايتها، ولم يكن ذا سور ولا سكن ثابت متصل بالأرض ؛ بل كان سكن من يأوي إليه بيوت الخيام. واما أهل المرتفعات فكانوا، إذا داهمهم عدو أو جاءهم غزو، اعتصموا برؤوس المرتفعات المشرفة على الدروب، وقاوموا العدو والغزو منها، وبذلك يصير من الصعب على من يطمع فيهم الوصول اليهم، ويضطر عندئذ إلى ا التراجع عنهم، فحمتهم الطبيعة بنفسها ورعتهم بهذه الرؤوس الجبلية التي أقامتها على مشارف الأودية والطرق. فلما أسكن "قصي" أهل الوادي في بيوت ثابتة مبنية، وجاء ببعض من كان يسكن الظواهر لنزول الوادي، بقي من فضّل السكن في ظواهر مكة، أي على المرتفعات. يقوم بمهمة حماية نفسه وحماية أهل البطحاء من تلك المرتفعات، وهم الذين عرفوا بقريش الظواهر. فلم تعد لأهل مكة سكان الوادي ثمة حاجة إلى اتخاذ الأطم والحصون، وبناء سور يحمي المدينة من الغزو، لا سيما والمدينة نفسها حرم آمن وفي حماية البيت ورعايته. وقد أكد "قصي" على أهلها لزوم إقراء الضيف ورعاية الغريب والابتعاد عن القتال وحل المشكلات حلاً بالتي هي أحسن. كما نظم أمور الحج، وجعل الحجاج يقدون إلى مكة، للحج وللاتجار. ثم أكد من جاء بعده من سادة قريش هذه السياسة التي افادت البلد الآمن، وأمنت له رزقه رغداً.
ولم يرد اسم "مكة" في نص الملك "نبونيد" ملك بابل، ذلك النص الذي سرد الملك فيه أسماء المواضع التي خضعت لجيوشه، ووصل هو إليها في الحجاز فكانت "يثرب" آخر مكان وصل إليه حكمه في العربية الغربية على ما يبدو من النص.
ولم نتمكن من الحصول على اسم "مكة" من الكتابات الجاهلية حتى الان. اما الموارد التأريخية المكتوبة باللغات الأعجمية، فقد جاء في كتاب منها اسم مدينة دعيت ب "مكربة" "مكربا" "Macoraba"، واسم هذا الكتاب هو "جغرافيا" "جغرافية" "للعالم اليوناني المعروف "بطلميوس" "Ptolemy" الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد. وقد ذهب الباحثون إلى إن المدينة المذكورة هي "مكة". وإذا كان هذا الرأي صحيحاً يكون "بطلميوس" أول من أشار إليها من المؤلفين وأقدمهم بالنظر إلى يومنا هذا. ولا أستبعد مجيء يوم قد لا يكون بعيداً، ربما يعثر فيه المنقبون على اسم المدينة مطموراً تحت سطح الأرض، كما عثروا على أسماء مدن أخرى وأسماء قرى وقبائل وشعوب.
ولفظة "مكربة" "Macoraba"، لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها "مكربة" أي "مقربة" من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة "سبأ" القديمة، إن حكامها كانوا كهاناً، أي رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم. وقد كان الواحد منهم يلقب نفسه بلقب "مكرب" أي "مقرب" في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الالهة، وهو مقرب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة "مكربة"، لأنها "مقربة" من الآلهة، وهي تقرب الناس اليهم، وهي أيضاً مقدسة و "حرام"، فاللفظة ليست علماء لمكة، وإنما هي نعت لها، كما في "بيت المقدس" و "القدس" إذ هما نعت لها في الأصل. ثم صار النعت عالماً للمدينة.
أما ما ذهب إليه بعض الباحثين من إن المعبد الشهير الذي ذكره "ديودروس الصقلي" "Diodorus Siculus" في أرض قبيلة عربية دعاها "Bizomeni"، وقال إنه مكان مقدس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكة - فهو رأي لا يستند إلى دليل مقبول معقول. فالموضع الذي يقع المعبد فبه، هو موضع بعيد عن مكة بعداً كبراً، وهو يقع في "حسمى" في المكان المسى "روافة" "غوافة" على رأي "موسل". وقد كانت في هذه المنطقة وفي المحلات المجاورة لها معابد أخرى كثيرة أشار إليها الكتبة اليونان والرومان، ولا تزال آثارها باقية، وقد وصفها السياح الذين زاروا هذه الأمكنة.
وإذا صح رأينا في إن موضع "Macoraba" هو مكة، دلّ على إنها كانت قد اشتهرت بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وانها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من مواضع بعيدة من حضر ومن بادين. وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا العالم الجغرافي اليوناني البعيد. ودلّ أيضاً على إنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام "بطليموس" إذ لا يعقل إن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالِم الساكن في موضع بعيد ما لم يكن لها عهد سابق هذا العهد.
وقد عرفنا من الكتابات الثمودية أسماء رجال عرفوا ب "مكي". ولم تشر تلك الكتابات إلى سبب تسمية اولئك الرجال ب "مكي". فلا ندرى اليوم إذا كان اولئك الرجال من "مكة" أو من موضع آخر، أو من عشيرة عرفت ب "مكت" "مكة". لذلك لا نستطيع إن نقول إن هذه التسمية. صلة بمكة.
ولم يشر الأخباريون ولا من كتب في تأريخ مكة إلى هذا الامم الذي ذكره "بطلميوس"، ولا إلى ام آخر قريب منهه، وإنما أشار إلى اسم آخر هو "بكة". وقد ذكر هذا الاسم في القرآن. قالوا إنه الهمم مكة، أبدلت فيه الميم باءً، وقال بعض الأخباريين: إنه بطن مكة، وتشدد بعضهم وتزمت، فقال: بكة موضع البيت، ومكة ما وراءه، وقال آخرون: لا. والصحيح البيت مكة وما والاه بكة، واحتاجوا إلى ايجاد اجوبة في معنى اسم مكة وبكة، فأوجدوا للاسمين معاني وتفاسير عديدة تجدها في كتب اللغة والبلدان وأخبار مكة.
وذكر أهل الأخبار إن مكة عرفت بأسماء اخرى، منها: صلاح، لأمنها، ورووا في ذلك شعراً لأبي سفيان بن حرب بن أمية، ومنها أم رحم، والباسةّ، والناسّة. والحاطمة. و "كوثى". وذكرت في القرآن الكريم ب "أم القرى".
ولعلماء اللغة بعد، تفاسير عديدة لمعنى "مكة"، يظهر من غربلتها إنها من هذا النوع المألوف الوارد عنهم في تفسير الأسماء القديمة التي ليس لهم علم بها، فلجئوا من ثم إلى هذا التفسير والتأويل. ولا استبعد وجود صلة بين لفظة مكة ولفظة "مكربة" التي عرفنا معناها. ولا استبعد إن يكون سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم، فقد أسس أهل اليمن مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز، حيث حكموا أعالي الحجاز وذلك قبل الميلاد. وقد سبق إن تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فلا يستبعد إن تكون مكة احداها. ثم انضم اليهم العرب العدنانيون، ولأهل الأخبار روايات تؤيد هذا الرأي.
وقد ذهب "دوزي" إلى إن تأريخ مكة يرتقي إلى أيام "داوود" ففي أيامه-على رأيه أنشأ "الشمعونيون" "السمعونيون"، الكعبة وهم "بنو جرهم" عند أهل الأخبار. وهو يخالف بذلك رأي "كيبن" "GIBBON"، ورأي جماعة من المستشرقين رأت إن مكة لم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الأول قبل الميلاد، مستدلةً على ذلك بما ورد في تأريخ "ديودورس الصقلي" من وجود معبد، ذكر عنه انه كان محجة لجميع العرب، وان الناس كانوا يحجون إليه من أماكن مختلفة. ولم يذكر "ديودورس" اسم المعبد، ولكن هذه الجماعة من المستشرقين رأت إن هذا الوصف ينطبق على الكعبة كل الانطباق، وان "ديودورس" قصدها بالذات.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار-إن "العماليق" كانوا قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة وام الحجاز، وعتوا عتوّ اً كبيراً. فبعث اليهم موسى جنداً فقتلوهم بالحجاز. وجاء اليهود فاستوطنوا الحجاز بعد العماليق. ويظفر انهم أخذوا أخبارهم هذه من اليهود، ففي التوراة إن العماليق "العمالقة"، هم أول الشعوب التي حاربت العبرانيين، لما هموا بدخول فلسطين، وقد حاربهم موسى، فوسع يهود الحجاز هذه القصة ونقلوا حرب موسى مع العمالقة إلى الحجاز ليرجعوا زمان استيطانهم في الحجاز إلى ذلك العهد.
ثم جاءت "جرهم" فنزلت على قطورا، وكان على "قطورا" يومئذ "السميدع بن هوثر"، ثم لحق بجرهم بقية من قومهم باليمن وعليهم "مضاض ابن عمر بن الرقيب بن هاني بن بنت برهم" فنزلوا ب "قعيقعان". وكانت قطورا بأسفل مكة، وكان "مضاض" يعشر من دخل مكة من أعلاها، و "السميدع" من أسفلها. ثم حدث تنافس بين الزعيمين فاقتتلا، فتغلب "المضاض" وغلب "السميدع".
وجرهم قوم من اليمن، فهم قحطانيون إذن، جدهم هو ابن "يقطن بن عاير بن شالخ": وهم بنو عم "يعرب". كانوا باليمن وتكلموا بالعربية، ثم غادروها فجاؤوء مكة.
والعمالقة من الشعوب المذكورة في "التوراة"، وقد عدّهم "بلعام" "أول الشعوب". وقد كانوا يقيمون بين كنعان ومصر وفي "طور سيناء"، أيام الخروج، وبقوا في أماكنهم هذه إلى أيام "شاؤول" "SAUL". وقد تحدثت عنهم في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وجرهم تزوج "إسماعيل ه بن ابراهيم" على رواية الأخباريين، وبلغتهم تكلم. وكانت "هاجر" قد جاءت، به إلى "مكة". فلما شبّ وكبر، تعلم لغة جرهم، وتكلم بها. وهم من "اليمن" في الأصل. وكانت لغتهم هي اللغة العربية. تزوج امرأة أولى قالوا إن اسمها "حرا" وهي بنت "سعد بن عوف بن هنىء بن نبت بن جرهم"، ثم طلقها بناءّ على وصية أبيه ابراهيم له، فتزوج امرأة أخرى هي السيدة بنت "الحارث بن مضاض بن عمرو بن جرهم". وعاش نسله في جرهم، والأمر على البيت لجرهم إلى إن تغلبت عليهم "بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر"، وهم خزاعة في رأي بعض أهل الأخبار.
وطبقت خزاعة على جرهم قانون الغالب، فانتزعت منها المالك، وزحزحتها عن مكة، وأقامت عمرو بن لحيّ-وهو منها-ملكاً عليها، وكان دخول خزاعة مكة على أثر خروجها من اليمن، بسبب تنبؤ الكاهن بقرب انفجار السدّ، في قصة يذكرها الأخباريون. وظلت خزاعة صاحبة مكة، إلى إن كانت أيام عمرو بن الحارث وهو "أبو غبشان" "غبشان"، فانتزع قصي منه الملك، وأخذه من خزاعة لقريش.
وكان "عمرو بن لحيّ" أول من نصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب، وغيّر دين التوحيد على زعم أهل الأخبار. ويظهر مما يرويه الأخباريون عنه انه كان كاهناً، حكم قومه ووضع لهم سنن دينهم على طريقة حكم الكهان، واستبدّ بأمر "مكة" وثبت ملك خزاعة بها. فهو مثل "قصيّ" الذي جاء بعده، فأقام ملك "قريش" في هذه المدينة. ويظهر من بقاء خبره في ذاكرة أهل الأخبار إن أيامه لم تكن بعيدة عن الإسلام، وان حكمه لمكة لم يكن بعيد عهد عن حكم "قصيّ"، وان إليه يعود فضل تنحية "جرهم" عن مكة، وانتزاع الحكم منهم ونقله إلى قومه من "خزاعة"، وذلك بمساعدة "بني اسماعيل" أسلاف "قريش" من "بني كنانة".
وهو أول رجل يصل الينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي انشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة. حتى صير لهذه المدينة شأن عند القبائل المجاورة. وذلك باتيانه بأصنام نحتت نحتاً جيداً باًيد فنية قديرة، على رأسها الصنم "هبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كوّن للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" والى بقية الأصنام التي جاء بها من الخارج فضعها حوله وفي جوفه.
ومن بطون خزاعة: "بنو سلول" و "بنو حُبْشية بن كعب"، و" بنو حليل" و "بنو ضاطر". وكان "حُلَيْل بن كعب" سادن الكعبة، فزوج ابنته "حبى" بقصي. و "بنو قمير" ومن " بني قمير" "الحجاج بن عامر بن أقوم" شريف، و "حلحة بن عمرو بن كليب": شريف ، و"قيس بن عمرو بن منقذ" الذي يقال له "ابن الحدادية" شاعر. جاهلي. و "المتحرش"، و وهو "أبو غُبشان" الذي يزعمون انه باع البت من "قصي". ومن خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العُزّى"، شريف، كتب إليه النبي يدعوا إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة.
" وكنانة" التي استعان بها "عمرو بن لحيّ" في تثبيت حكمه بمكة، هي من القبائل العدنانية في عرف أهل النساب، ومن مجموعة "مضر". ولما استبد "عمروا بن لحيّ" ومن جاء بعده بأمر مكة، وأخذوا بأيديهم أمر مكة، تركوا إلى "كنانة" أموراً تحص مناسك الحج وشعائره، وهي الإجازة بالناس يوم "عرفة" والإضافة والنسيّ. وهي أمور سأتحدث عنها في اثناء كلامي عن الحج.
ويذدر أهل الأخبار أن "الإسكندر" الأكبر دخل مكة، وذلك أنه بعد أن خرج من السودان قطع البحر فانتهى إلى السواحل "عدن"، فحرج إليه "تبع الأقرن" ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة، وأقرّ بالإتاوة، وأدخله مدينة "صنعاء"، فأنزل له، وألطف له من الطاف اليمن، فأقام شهراً، ثم سار إلى "تهامة"، وسكان مكة يومئذ خزاعة، قد غلبوا عليها، فدخل عليه "النضر بن كنانة"، فعجب الإسكندر به وساعده، فأخرج "خزاعة" عن مكة، وأخلصها للنضر، ولبني أبيه، وحج الإسكندر، وفرّق في ولد معد بن عدنان صلات وجوائز، ثم قطع البحر يؤم الغرب.
وإذا كان أهل الأخبار قد أدخلوا "الإسكندر" مكة، وصيرّوه رجلاَ مؤمناً، حاجاً من حجاج البيت الحرام، فلا غرابة أذن إن جعلوا أسلاف الفرس فيمن قصد البيت وطاف به وعظمه وأهدى له. بعد أن صيروا "إبراهيم" جداً من أجدادهم وربطوا نسب الفرس بالعرب العدنانيين. فقالوا: وكان آخر من حج منهم "ساسان بن بابك"، وهو جدّ "أردشير". فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل إنما سميت زمزم لزمزمته عليها، هو وغيره من فارس. واستدلوا على ذلك بشعر، قالوا عنه: إنه من الشعر القديم. وبه افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام، وقالوا: وقد كان "ساسان بن بابك" هذا، أهدى غزالين من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً، فقذفه، فدفن في زمزم. وقد أنكروا أن يكون بنو جرهم قد دفنوا ذلك المال في بئر زمزم، لأن جرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها.
ويزعم الأخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، قأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر ين مالك، فاقتلوا قتالاً شديداً، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة-فيمن قتل من الناس-ابن ابنة قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسراً ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن".
ويشر هذا الحادث إن صحّ وقوعه وصدق ما رواه أهل الأخبار عنه، إلى طمع الملك "حسان" والى خطة وضعها للاستيلاء عليها. وهو شيء مألوف، فقد كانت قبائل اليمن تتجه دوماً نحو الشمال، غير أن أهل مكة قاوموا الملك وتمكنوا من الصمود تجاهه، بل من التمكن من جيشه ومنا الحاق هزيمة به.
ويذكر أهل الأخبار حادثاً آخر مشابهاً لهذا الحادث، بل يظهر أنه الحادث نفسه وقد صيغ في صيغة أخرى، خلاصته أن "الملوك الأربعة" الذين لعنهم النبي، ولعن أختهم "أبضعة"، ولم يذكروا أسماءهم، لما هموا بنقل "الحجر الأسود" إلى صنعاء لقطعوا حج العرب عن البيت الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت "كنانة" إلى "فهر بن مالك بن النضر"، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر، يسمى الحارثة، وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسوراً عند "فهر بن مالك" حتى مات.
وأما "أبضعة"، فهي التي يقال لها "العنققير"، ملكت بعد اخوتها على زعم أهل الأخبار.
ويشير الأخباريون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلاً أن التبع "أسعد أبو كرب" الحميريّ وضع الكسوة على البيت الحرام، وصنع له باباً، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بكسوة البيت، ويذكرون غير ذلك من أخبار تشير إلى اهتمام التبابعة بمكة. أما نحن، فلم يصل إلى علمنا شيء من هذا الذي يرويه الأخباريون، مدوّناً بالمسند، كما أننا لا نعلم أن أصنام أهل اليمن كانت في مكة حتى يتعبد لها التبابعة.ولسنا الآن في وضع نتمكن فيه من إثبات هذا القصص الذي يرويه الأخباريون، والذي قد يكون أُوجد، ليوحي أن ملوك اليمن كانوا يقدسون الكعبة، وأن الكعبة هي كعبة جميع العرب قبل الإسلام.
ولا نملك اليوم أثراً جاهلياً استنبط منه علماء الآثار شيئاً عن تأريخ مكة قبل الإسلام، ولذلك فكل ما ذكروه عنها هو من أخبار أهل الأخبار، وأخبارهم عنها متناقضة متضاربة، لعبت العواطف دوراً بارزاً في ظهورها. ولا يمكن لأحد أن يكتب في هذا اليوم شيئاً موثوقاً معقولاّ ومقبولاً عن تأريخ هذه المدينة المقدسة، في أيام الجاهلية القديمة، لأنه لا يملك نصوصاً أثرية تعينه في التحدث عن ماضيها القديم. وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل، المستقبل يكون خيراً من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة، تدوينا علمياً يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدوّن عنها في كتب أهل الأخبار.
وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصيّ" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوّز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصيّ لها. وان ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به. لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حليّ وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على إن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وان مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ. وان تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصيّ ونزول قريش مكة في عهده.
وتأريخ مكة حتى في أيام قصيّ وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض. شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية، واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد. لذلك تجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضاً بيناً في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.
قريش
و "قصيّ" من "قريش". و "قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضرين كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان". فهي من القبائل العدنانية. أي من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار.
أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر" وأبناؤه، من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي كل من انحدر من صلبه من أبناء. وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي"، وإنما يقال له كناني.
ومعارفنا عن "قريش" لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعن من تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت هذه المدينة. وتبدأ هذه المعرفة بها، ابتداء من "قُصَيّ" زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت "قريش" بذلك صاحبة مكة.
وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل. وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب العامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة، وبسادات القباثل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما يمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب. والطمأنينة، أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب. حتى عرفوا ب "قريش التجار". جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها: "لله دَر الديار، لقريش التجار".
وليس لنا علم بتأريخ بدء اشتغال قريش بالتجارة واشتهارها بها. وروايات أهل الأخبار، متضاربة في ذلك، فبينما هي ترجع ظهور "قريش" بمكة إلى أيام قصي، ومعنى ذلك أن تجارة قريش إنما بدأت منذ ذلك الحين، نراها ترجع تجارتها إلى أيام النبي "هود"، وتزعم أنه لما كان زمن "عمرو ذي الأذعار الحميري"، كشفت الريح عن قبر هذا النبي، فوجدوا صخرة على قبره كتب عليها بالمسند: "لمن ملك ذمار? لحمير الأخيار. لمن ملك ذمار? للحبشة الأشرار. لمن ملك ذمار? لفارس الأحرار. لمن ملك ذمار? لقريش التجار". والرواية أسطورة موضوعة، ولكنها تشر إلى أن اشتغال قريش بالتجارة يرجع إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن أدراك وقته، فوضعوه في أيام هود.
ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش التجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم إن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض، فتقدم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب، وكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على إن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام، فوافق كل ذلك، وأعطاه كتاباً بذلك. فلما عاد، جعل كلما مرّ بحيّ من العرب بطريق الشام، اخذ من أشرافهم إيلاشاً، اي عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام. واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد.
وقد علّمت الأسفار سادة قريش أموراً كثيرة من أمور الحضارة والثقافة. فقد أرتهم بلاداً غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذّبوا لسانهم، ودوّنوا به أمورهم. وذكر انهم كانوا من افصح العرب لساناً، وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر إن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه ب "سمط الدهر".
وقد علّمت الطبيعة أهل مكة انهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيء البذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية، لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهداً بالا يتعدى أحد منهم على غريب، لأن الإضرار به، يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعاً مورداً من موارد رزقهم: يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك كان الغريب إذاُ ظلِمْ، نادى يا آل قريش، أو يا آل مكة أو يا آل فلان. ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له.
وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقاً. دعته: "حقّ قريش" وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم اليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك، هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سُمتي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد اللّه المخزومي، فأراد المغيرة إن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، وذلك سُميّ: الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم". وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان.
وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى، الحرب والغزو إلا دفاعاً عن نفس. وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في وادٍ ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم منً المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سيبل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش إنها لا تحسن القتال، وانها إن حاربت خسرت، وانها كانت تخسر في الحروب - فخسرت ثلاثة حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني إن في طبع رجال قريش جبناً، وان من سجية قريش الخوف. وإنما هو حاصل طبيعة مكان، واملاء ضرورات الحياة، لتأمين الرزق. ولو إن أهل مكة عاشوا فيَ موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعة وأقل اقبالاً في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى.
وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال هامة، صيّرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية في التجارة وفي اقراض المال للمحتاج إليه. كما تمكنت من تنظيم أمورها الداخلية ومن تحسين شؤون المدينة، واتخاذ بيوت مناسبة لائقة لان تكون بيوت أغنياء زاروا العالم الخارجي ورأوا ما في بيوت أغنياثه من ترف وبذخ وخدم واسراف.
وقد ذكو "الثعالبي" إن قريشاً صاروا "أدهى العرب، وأعقل البرية، وأحسن الناس بياناً" لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل فأخذوا عن كل قوم شيئاً، ثم انهم كانوا تجاراً "والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدنيق والتدقيق"، وكانوا متشددين في دينهم حمساً، "فتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى في ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة. وقد أشيد ايضاً بصحة اجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقبل: "جمل قريش".
وقصيّ رئيسى قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها ب "آل قصي"، فكان أحدهم اذا استغاث أو استنجد باحد، صاح: "يا لقَصي،"، كناية عن انهم "آل قصيّ". جامع قريش.
وهو أول رئيس من رؤساء مكة. يمكن إن نقول إن حديثنا عنه، هو حديث عن شخص عاش حقاً وعمل عملاّ في هذه المدينة التي صارت قبلة الملايين من البشر فيما بعد. فهو إذن من الممهدين العاملين المكونين لهذه القبلة، وهو أول رجل نتكلم عن بعض أعماله ونحن واثقون مما نكتبه عنه ونقوله. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئاً من برد ولا حرّ، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحوّلها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجرة الحرم، وذات سقوف.
ولم نعثر حتى الآن على اسم قريش أهل مكة في نص جاهلي. كذلك لم نعثر عليه أو على اسم مقارب له في كتب اليونان أو اللاتين أو قدماء السريان ممن عاشوا- قبل الإسلام. فليس في امكاننا ذكر زمن جاهلي نقول أننا عثرنا فيه على اسم قريش، وانها كانت معروفة يومئذ فيه.
وقد وردت لفظة "قريش" اسماً لرجل عرف ب "حَبْسل قريش". وذلك في نص حضرميّ من أيام الملك "العز" ملك حضرموت.
هذا، وان لأهل الأخبار كلاماً في سبب تسمية قريش بقريش، "فقيل: ُسمّيت بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، لأن عير بتي النضر كانت اذا قدمت، قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدراً، احتفر بدراً، قالوا فيه سميت البئر التي تدعى بدراً، بدراً. وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا بأم ولا حاضن ولا حاضنة، وقال آخرون: إنما سُمي بنو النضر من كنانة قريشاً، لأن النضر بن كنانة خرج يوماً على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش.
وقيل: إنما سميت بدابّة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها، لأنها أعظم دواب البحر قوة.
وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس، فيسدها بماله، والتقريش-فيم زعموا-التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدّونها بما يبلغهم. "وقيل إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشا. وقيل: بل لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصماّ بن كلاب، فقيل لهم: قريش، من أجل إن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر، أي قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل قريش من أجل إنها تقرشت عن الغارات".
وذكر إن قريشاً كانت تدعى "النضر بن كنانة"، وكانوا متفرقين في "بني كنانة"، فجمعهم "قصيّ بن كلاب"، فسموا قريشاً، التقرش التجمع. وسُمتى قصي مجمِّعاً. فال حذافة بن غانم بن عامر القرشي ثم العدوي: قُصيٌ أبوكم كان يدعى مجمعاً به جمع الله القبائل من فهر
وذكر إن قريشاً إنما قيل لهم "قريش" لتجمّعهم في الحرم من حوالي الكعبة بعد تفرقهم في البلاد حين غلب عليها "قصي بن كلاب". يقال تقرش القوم إذا اجتمعوا. قالوا وبه سميّ قصي مجمعاً. أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوماً، فقالوا تقرش، فغلب عليه اللقب، أو لأنه جاء إلى قومه يوماً، فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد، فلقُب به، أو لأن قصياً كان يقال له القرشي، وهو الذي سمّاهم بهذا الاسم، أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدّون خلتها، فمن كان محتاجاً أغنوه ومن كان عارياً كسوه ومن كان معدماً كسوه ومن كان طريداً آووه، أو سمّوا بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش وخرجت عير قريش، فلقبوه به. أو نسبة إلى "قريش بن الحرث بن يخلد بن النضر"، والد "بدر"، وكان دليلا لبني "فهر بن مالك" في الجاهلية، فكانت عيرهم إذا وردت "بدراً"، يقال: قد جاءت عير قريش، يضيفونها إلى الرجل حتى مات. أو لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع. أو إلى قريش بن بدر بن يخلد بن النضر. وكان دليل بني كنانة في تجارتهم، فكان يقال: قدمت عير قريش. فسميت قريش بذلك. وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع المعروف.
ونعتت قريش ب "آل الله" و "جيران الله" و "سكان حرم الله". وب "أهل الله".
إلى غير ذلك من آراء حصرها بعضهم في عشرين قولاً في تفسير معنى لفظة "قريش" ومن أين جاء أصلها. تجدها في بطون الكتب التي أشرت إليها في الحواشي. وفي موارد أخرن. وهي كلها تدل على إن أهل الأخبار كانوا حيارى في أمر هذه التسمية، ولما كان من شأنهم ايجاد أصل وفصل ونسب وسبب لكل اسم وتسمية، كما فعلوا مع التسميات القديمة، ومنها تسميات قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد، أوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات والتفسيرات لمعنى "قريش". وقد تجد هذه التعليلات تروى وتنسب إلى شخص واحد كابن الكلبي مثلاً، وهو ينسب روايتها عادة إلى رواة تقسموا عليه أو عاصروه، وقد لا يرجعها إلى أحد، وربما كانت من وضعه وصنعته أو من اجتهاده الخاص في ايجاد علل للمسميات.
فهذا هو مجمل آراء أهل الأخبار في معنى اسم قريش.
أما رأيهم في أول زمن ظهرت فيه التسمية، فقد اختلف في ذلك وتباين أيضاً. فذكر قوم "إن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشاً? قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت إن قصياً كان يقال له القرشي، ولم تسمّ قريش قبله". وورد: "لما نزل قصيّ الحرم وغلب عليه، فعل أفعالاً جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سُميّ به". ورود أيضاً إن "النضر بن كنانة كان يسمى القرشيّ".
وقد نسب إلى عليّ وابن عباس قولهما إن قريشاً حي من النبط من أهل كوثىْ. وإذا صح إن هذا القول هو مهما حقاً، فإن ذلك يدل على انهما قصدا بالنبط "نبايوت": وهو "ابن اسماعيل" في التوراة. واما "كوثى" فقصدا بذلك موطن ابراهيم، وهو من أهل العراق على رواية التواراة أيضاً. ولعلهما أخذا هذا الرأي من أهل الكتاب في يثرب.
ويذكر أن جذْم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه قريش وما فوقه عرب، مثل كناَنة وأسد وغرهما من قبائل مضر. وأما قبائل قريش، فانما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه. ومن جاوز "فهراً"، فليس من قريش. ومعنى هذا إن جذم قريش من أيام "فهر بن مالك" فما فوقه، كانت متبدية تعيش عيشة أعرابية، فلما كانت أيام "فهر" أخذت تميل إلى الاستقرار والاستيطان، ولما استقرت وأقامت في مواضعها عرفت ب "قريش".
وذكر إن قريشاً قبيلة، وأبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، فكل من كان من ولد "النضر"، فهو "قرشي" دون ولد كنانة ومن فوقه. وورد كل من لم يلده "فهر" فليس بقرشي. وهو المرجوع إليه.
وقد صيرت رابطة النسب هذه قريشاً قبيلة تامة تقيم مجتمعة في أرض محدودة، وبصورة مستقرة في بيوت ثابتة فيها بيوت من حجر، بين أفرادها وأسرها وبطونها عصبية، وبينهم تعاون وتضامن. كما جعلت أهل مكة في تعاون وثيق فيما بينهم في التجارة، حتى كادوا يكونون وكأنهم شركاء مساهمون في شركة تجارية عامة. يساهم فيها كل من يجد عنده شيئاً من مال، وإن حصل عليه عن طريق الاقتراض والربا، ليكون له نصيب من الأرباح التي تأتي بها شركات مكة.
ويقسم أهل الأخبار قريشاً إلى: قريش البطاح، وقريش الظواهر. ويذكرون إن قريش البطاح بيوت، منهم: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار، وبنو عبد العزى، وبنو عبد بن قصيّ بن كلاب، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو ابن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو حسل بن عامر بن لؤي، وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر. وبنو عتيك بن عامر بن لؤي.و "قصي" هو الذي أدخل البطون المذكورة الأبطح، فسُموّا البطاح. ودخل "بنو حسل ابن عامر" مكة بعد، فصاروا مع قريش البطاح، فاًما من دخل في العر من قريش فليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء.
ويذكر أهل الأخبار إن "قريش البطاح"، الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها.أو هم الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة. وأخشبا مكة جبلاها: أبو قبيس والذي يقابله. ويقال لهم قريش الأباطح وقريش البطاح، لأنهم صبابة قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة ونزلوها. وهم أشرف وأكرم من قريش الظواهر. ذكروا إن سادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم، فهم نزول بظواهر جبالها، أي قريش الظواهر.
اما قريش الظواهر: فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، والحارث ابنا فهر، إلا بني هلال بن أهيب بن ضبة، وبني هلال بن مالك بن ضبة. وعامة بني عامر بن لؤي، وغيره. عرفوا جميعاً بقريش الظواهر، لأنهم لم يهبطوا مع قصيّ الأبطح. الا إن رهط "أبي عبيدة ابن الجراح"، وهم من "بني الحارث بن فهر"، نزلوا الأبطح فهم مع المطيبّين أهل البطاح. وورد إن "بني الأدرم من أعراب قريش ليس بمكة منهم أحد".
ويبدو من وصف أهل الأخبار لقريش البطاح، أنهم إنما سُموا بالبطاح لأنهم دخلوا مع قصي البطاح، فأقاموا هناك. فهم مستقرون خضر، وقد أقاموا في ييوت مهما كانت فإنها مستقرة، وقد انصرفوا إلى التجارة وخدمة البيت. فصاروا أصحاب مال وغنى، وملكوا الأملاك في خارج مكة، ولا سيما الطائف، كما ملكوا الإبل، وقد تركوا رعيها للاعراب. وعرفوا أيضا بقريش الضبّ للزومهم الحرم.
واما قريش الظواهر، فهم الساكنون خارج مكة في أطرافها، وكانوا على ما يبدو من وصف أهل الأخبار لهم أعراباً، أي انهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرون على قريش، مكة بأنهم أصحاب قتال، وانهم يقاتلون عنهم وعن البيت. ولكنهم كانوا دون "قريش البطاح" في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه، لأنهم أعراب فقراء، لم يكن لهم عمل يعتاشون منه غير الرعي. وكانوا دونهم في مستوى المعيشة بكثير وفي الوجاهة بين القبائل. ومع اشتراكهم وقريش البطاح في النسب، ودفاعهم عنهم أيام الشدة والخطر، إلا انهم كانوا يحقدون على ذوي أرحامهم على ما أوتوا من غنى ومال وما نالوه من منزلة، ويحسدونهم على ما حصلوا عليه من مكانة دون إن يعملوا على رفع مستواهم،. وترقية حألهم، والاقتداء بذوي رحمهم أهل الوادي في اتخاذ الوسائل التي ضمنت لهم التفوق عليهم وفي جلب الغنى والمال لهم. كان شأنهم في ذلك شأن الحساد الذين يعيشون على حسدهم، ولا يبحثون عن وسائل ترفعهم إلى مصافّ من يحسدونه. ولعل نظرتهم الجاهلة إلى أنفسهم من انهم أعلى وأحل شأناً ممن يحسدونهم، وإن كانوا دونهم في نظر الناس في المنزلة والمكانة، حالت دون تحسين حاسم والتفوق على المحسود بالجد والعمل، لا بالاكتفاء بالحسد وبالتشدق بالقول والمباهاة.
ويذكر أهل الأخبار إن قسماً ثالثاً من قريش، لم ينزل - بمكة ولا بأطرافها، وانما هبط أماكن أخرى، فاستقر بها، وتحالف مع القبائل التي نزل بينها. من هؤلاء: سامة بن لؤي، وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان. والحارث ابن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان. والحارث بن لؤي، وقع إلى اليمامة، فهم في بني هزان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار. والحارث، هو جُشَمْ. وخزيمة بن لؤي، وقعوا بالجزيرة إلى بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وسعد بن لؤي، وبنو عوف بن لؤي، وقعوا إلى غطفان ولحقوا بهم، ويقال لبني سعد بن لؤي بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم. وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ويقال لبني خريمة بن لؤي: عائذة قريش. وكان عمان بن عفان ألحق هذه القبائل، حين استخلف بقريش.
ويلاحظ إن هذا الصنف من أصناف قريش، هو من نسل "لؤي"، أي: من نسل "لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر".وقد تباعدت مواطنهم عن قريش.
ومن قريش الظواهر: بنو الأدرم من نسل الأدرم، وهو تيم بن غالب، ومن رجالهم: عوف بن دهر بن تيم الشاعر، وهو أحد شعراء قريش. وهلال ابن عبد الله بن عبد مناف، وهو صاحب القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي، وهو ابن الخطل الذي كان يؤذي التي وارتد فأهدر النبي دمه يوم الفتح، قتله أبو برزة الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة، أو سعد بن حريث المخزومي على رواية قريش. ومن قريش الظواهر أيضاً: بنو محارب، والحارث بن فهر وبنو هصيص بن عامر بن لؤي.
ولم يكن أهل مكة كلهم من قريش، بل سأكنيهم أيضاً من كان بها قبلهم، مثل خزاعة وبنو كنانة. وقريش وإن كانت من "كنانة"، إلا إنها ميزت نفسها عنا، وفرقت بينها وبين كنانة. ولكنانة أخوة منهم: أسد وأسده، ووالدهم هو "خزيمة" وهو جدّ من أجداد قريش، كما إن "كنانة" هو جد من أجدادهم. وللاخباريين رأي في معنى كنانة.
وقد عرفت قريش بين أهل الحجاز بسخينة. والسخينة طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق. وقيل دقيق وتمر-وهو دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وانما لقبت قريش بسخينة لاتخاذها اياه، أي لأفهم كانوا يكثرون من أكلها ولذا كانت تعيَّر به.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق