777
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني والأربعون
الأحابيش
ولما كان البحث في هذا الموضع، هو في تأريخ مكة بصورة عامة، لذلك فسأترك الكلام عن "الإيلاف" إلى الموضع المناسب الخاص به، وهو التجارة والاتجار، وعندئذ سأتكلم عنه بما يتمم هذا الكلام العام.
ويذكر أهل الأخبار إن عبد شمس وهاشماً توأمان، وقد وقع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الاخوين، حتى في الإسلام.
وذكروا إن "أمية بن عبد شمس" حسد عمهّ هاشماً، وكان أمية ذا مال، فدعا عمّه إلى المنافرة، فرضي عمّه بذلك مكرهاً، على إن يتحاكما إلى الكاهن "الخزاعي"، فنفَّر هاشماً عليه، فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أمية، فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، بحسبُ حكم الكاهن، وكان هاشم قد نافر على الجلاء عن مكة عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.
ويذكر أهل الأخبار إن أمية بن عبد شمس كان من جملة من ذهب من رجال مكة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصار اليمن على الحبش وطردهم لهم. وقد دخل عليه مع وفد مكة في "قصر غمدان". وكان مثل أبي 3 عبد شمس حامل لواء قريش، أي انه كان يحملها في الحرب.
وكان هاشم أول من مات من ولد عبد مناف، مات بغزة فعرفت ب "غزة هاشم"، وكان قد وفد بتجارة إليها فمات بها، ومات عبد شمس بمكة، فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من ارض اليمن. ويتبين من ذلك إن جميع هؤلاء الاخوة، ما خلا عبد شمس، ماتوا في ارض غريبة، ماتوا تجاراً في تلك الديار.
وورد في رواية أخرى، إن هاشماً خرج هو وعبد شمس إلى الشام، فماتا جميعاً بغزة في عام واحد. وبقي مالهما إلى إن جاء الإسلام، وأجياد جبل مكة على رأي، وموضع مرتفع في الذرا غربيّ "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى. ذكر إن "مضاضاً" ضرب في ذلك الموضع اجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بذلك "اجياد".
ويذكر الأخباريون: إن هاشماٌ كان قد خرج في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا ب "سوق النبط"، فصادفوا سوقاً مقامة، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق تأمر بما يشترى ويباع لها. وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أ أيّم هي، أم ذات زوج? فقيل له" أيّم، كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها إن أمرها بيدها" فاذا كرهت رجلاً، فارقته، وهي "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عديّ بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج".، فخطبها فزوّجته نفسها، ودخل بها، وصنع طعاماً، دعا إليه من كان معه من أهل مكة، ودعا من الخزرج رجالاً. وأقام بأصحابه اياماً، وعلقت "سلس" بعبد المطلب. وكانت "سلمى"، قد تزوجت من "أُحَيْحَة بن الجُلاّح بن الحريش بن جَحْجَبا الأوسي"، وهو من المعروفين في قومه كذلك.
ويذكر أهل الأخبار، إن عمر هاشم لما توفي، كان عشرون سنة، ويقال خمساً وعشرين. وهو عمر قصير إذا قيس بما يذكره أهل الأخبار ويوردونه عنه من اتجار وأعمال، أعمال لا تتناسب مع تلك السن.
ومن سادات مكة في هذه الأيام "قيس بن عدي بن سهم" من بني هصيص ابن كعب"، قد تكاثروا بمكة، حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عديّ بن كعب" و "زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنع "بني عديّ" أيضاً، من "بني جمح". وكان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنه "عبد المطلب"، وهو صغير، ويقول: كأنه في العز قيس بن عـديّ في دار قيس ينتدى أهل الندى
مما يدلّ إن صح إن هذا الشعر هو من شعر "عبد المطلب" حقاً، على إن "عديّاً" كان اعزّ رجال قريش في أيامه، حتى ضربوا به المثل في العزّ. وأنه كان سيّد قومه" بنو سهم بن هصيص بن كعب.
ومن ولد هاشم "عبد المطلب"، وأمه من أهل يثرب من بني التجار فهي خزرجية تدعى "سلمى بنت عمرو بن زيد" على نحو ما ذكرت قبل قليل. تزوّجها هاشم في أثناء رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها إلى الشام للاتجار.
ولما مات هاشم بغزة ولدت سلمى "عبد المطلب"، ومكث عند أخواله سبع سنين، ثم عاد إلى قومه بمكة، عاد به عمه "المطلب". ولما كبر تولى السقاية والرفادة وتزعم قومه.
ويذكر أهل الأخبار، إن هاشماً كان قد أوصى إلى أخيه "المطلب"، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة. وبنو عبد شمس وبنو نوفل يد. ومعنى هذا إن نزاعاً كان قد وقع بين أبناء هاشم وأبناء إخوته، جعلهم ينقسمون إلى فرقتين.
ويذكر أهل الأخبار إن اسم عبد المطلب، هو "شيبة". وقد عرف بن الناس بعبد المطلب، لان عمّه "المطلب" لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس، هذا عبدي، أو عبدٌ لي، فسُميّ من ثم بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه. وقيل انه عرف بين أهل مكة ب "شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له، وكان يقال له "الفيّاض" لجودة، و "مطعم طير السماء" و "مطعم الطير" لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال.
وقد كان "المطلب." عمّ "عبد المطلب" مثل سائر أفراد أسرته وأهل مكة تاجراً، فخرج إلى أرض اليمن تاجراً، فهلك ب "ردمان" من اليمن.
وهم يروون انه كان مَفزَع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وانه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من تحنث بغار حراء. والتحنث التعبد الليالي ذوات للعدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس، ليتفكر في جلال الله وعظمته. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر للطواف بالبيت.
وذكر انه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور. وكان يقول" لن. يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وان وراء هذه الدار، داراً يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحَّد الله. وروي" انه وضع سنناً جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها. منها" الوفاء بالنذر، وتحريم الخمر والزنا، وان لا يطوف بالبيتُ عُريان. وذكر انه كان أول من سنّ دية النفس مئة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرا من الإبل، فجرت في قريش والعرب مئة من الإبل. وأقرها رسول الله على ما كانت عليه.
ويذكرون إن قريشاً كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثَبِبر، تستسقي المطرْ.
وقد وقع خلاف بين عبد المطلب وعمه "نوفل"، كان سببه إن نوفل بن عبد مناف، وكان آخر من بقي من بني عبد مناف، ظلم عبد المطلب على أركاح له، وهي الساحات، فلما أصر نوفل على انكاره حق عبد المطلب، تدخل عقلاء قريش في الأمر على رواية أهل مكة، أو أخوال عبد المطلب، وهم من أهل يثرب. فأكره "نوفل" على إنصاف عبد المطلب حتى عاد إليه حقه.
ومن أهم أعمال "عبد المطلب" الخالدة إلى اليوم "بثر زمزم" في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون إنها بثر إسماعيل، وان جرهماً دفنتها، وإنها تقع بين أساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها "عبد المطلب"، أقبل عليها الحجّاج وتركوا سائر الآبار.
ويذكر أهل الأخيار إن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك غرالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية، وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب فكان أول ذهبُ حلِّيته الكعبة. وجعل الغزال الأخر في الجبّ الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر إن قريشاً أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على إن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء، وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه انه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها.
ويذكر الأخباريون، إن عبد المطلب، لما حلى بالمال الذي خرج من بئر زمزم الكعبة، جعله صفائح من ذهب على باب الكعبة. فكان أول ذهبُ حلّيته الكعبة. وتذكر بعض الروايات، إن ثلاثة نفر من قريش عدوَا على هذا الذهب وسرقوهْ. وتذكر رواياتهم انه ضرب الأسياف التي عثر عليها في البئر باباً للكعبة، وضرب بالباب الغزالين من ذهب.
ويظهر من وصف أهل الأخبار لما فعله "عبد المطلب" جمن ضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، ومن جعل المفتاح والقفل من ذهب، أو من ضرب أحد الغزالين صفائح على الباب، وجعل الغزال الآخر في الجبّ الذي كان أمام "هُبَلْ" أي الغبغب، إن الكعبة لم تكن على نحو ما يصفها أهل الأخبار من البساطة والسذاجة، بغير سقف وذات جدر ضمة بقدر قامة إنسان. إذْ لا يعقل إن يضرب وجه باب الكعبة بالذهب وتوضع في داخلها تلك النفائس وهي على تلك الحالة، للهم إلا اذا شككنا قي أمر هذه الروايات وذهبنا إلى إنها من نوع القصص الذي وضعه أهل الأخبار.
وقد طغى ماء "بئر زمزم، على مياه آبار مكة الأخرى. فهو أولاً ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكر كمية من مياه الآبار الأخرى، وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه، ثم انه ألطف مذاقاً من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد "عبد المطلب" من هذه البئر، مادياً وأدبياً، وصارت ملكاً خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر، لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج.
وكان أبناء "قصي" قبل حفر بئر "زمزم" يأتون بالماء من خارج مكة-كما يقول أهل الأخبار-ثم يملأون بها حياضاً من أدم ويسقون الحجاج، جروا بذلك على سنة "قصيّ"، فلما حفرت بئر زمزم، تركوا السقي بالحياض من المياه المستوردة من خارج مكة، وأخذوا يسقونهم منِ ماء زمزم.
وقد كان عبد المطلب يزور اليمن بين الحين والحين، فكان إذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير. ويذكر أهل الأخبار إن أحد هؤلاء عَلَّم عبد المطلب صبغ الشعَّر، وذلك بأن أمر يه فخضب بحناء، ثمُ عُلِيَ بالوسمة، وصار يصبغ شعره بمكة، وخضب أهل مكة بالسواد. ويذكرَ أهل الأخبار أيضاً انه اتصل بملوك اليمن، وأخذ منهم إيلافاً لقومه، بالاتجار مع اليمن. وكانت قريش تنظم عيراً إلى اليمن في كل سنة.
وبذكر "المسعودي" إن "معد يكرب" حينما ولي الملك باليمن، أتته الوفود لتهنئه بالملك. وكان فيمن وفد عليه من زعماء العرب، "عبد المطلب"، و "خويلد بن أسد بن عبد العزّى" وجد أميّة بن أبي الصلت، وقيل" أبو الصلت أبوه. فدخلوا عليه في قصره بمدينة صنعاء" قصر غمدان. ويذكر له، كلاماً قاله عبد المطلب له، وجواب "معد يكرب" عليه. ويذكر أيضاً إن "عبد المطبب" كان فيمن وفد على "سيف بن ذي يزَنَ" ليهنئه بطرد الحبش.
ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع كما كان قصي، إذ. كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالاّ وسلطاناً. إنما كان وجيه قومه، لأنه كان يتولى السقاية والرفادة وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. وقد تكون صلته هذه، هي التي جعلته يذهب أبرهة لمحادثته في شؤون مكة والبيت.
ويروي أهل الأخبار إن عبد المطلب كان قد نذر: لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم ان يذبح أحدهم. فلما تكاملوا عشرة، هم بذبح أحدهم، فضرب بالقداح فخرج القداح كل عبد الله، ولكن القوم منعوه، ثم أشاروا عليه بان يرضي الله بنحر إبل فدية عنه، وكان كما ضرب القداح بخرج على عبد الله حتى يلبغ العدد مئة فخرج على الإبل. فنحرها بين الصفا والمروة. وخلىّ بينها وبين كل من يريد لحمها من إنسيّ أو أسبع أو طائر، لا يذب عنها أحداً، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئاً. وكان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين. إذْن فيكون ذلك حوالي سنة "565" للميلاد.
وكان لعبد المطلب ماء بالطائف، يقال له "ذو الهرم" وكان في أيدي ثقيف ردحاً، ثم طلبه عبد المطلب منهم، فأبوا عليه. وكان صاحب أمر ثقيف" "جندب بن الحارث" فأبى عليه وخاصمه فيه، فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن "العذري"، وكان يقال له" "عزى سلمة"، وكان ببلاد الشام، وتنافرا على إبل، وأتيا الكاهن، فنفر عبد المطلب عليه، فاًخذ عبد المطلب الإبل فنحرها.
وقد نادم "عبد المطلب" على عادة أهل مكة جماعة من أقرانه، لقد كانت عادتهم إن يجتمعوا مساءَ فيتحادثوا أو يشربوا ويأكلوا أو يستمعوا إلى غناء، حتى يحل وقت النوم، وكان ممن نادمهم عبد المطلب "حرب بن أمية"، ثم اختلف معه، ونافره عند "نفيل بن عبد العُزّى" جد "عمر بن الخطاب"، فنفره على "حرب"، فافترقا. وكان سبب افتراقه عنه، إغلاظ "حرب" القول على يهوديّ كان جوار عبد المطلب. وتذكر رواية أخرى إن عبد المطلب و "حرب"، تنافرا أولا إلى النجاشي الحبشي، ولكنه أبى إن ينفر بينهما، فذهبا إلى نفيل. وأن "حرب بن أمية" غضب حين نفر عبد المطلب عليه، وقال له: إن من انتكاس الزمان إن جعلناك حكماً، وصار نديماً لعبد الله ابن جدعان.
وذكر "ابن الأثير" إن سبب افتراق "عبد المطلب" عن "حرب"، كان بسبب جار عبد المطلب اليهودي، واسمه "أُذَيْنَةَ"، وكان تاجراً وله مال كثير، فغاظَ ذلك "حرب بن أمية"، فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله. فقتله "عامر بن عبد مناف" و "صخر بن عمرو بن كعب التَيْميَ"، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا ما قد استجارا بحرب بن أمية، فأتى حرباً ولامه وطلبهما منه، فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، وذهبا إلى نفيل. وترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان، وأخذ من حرب مئة ناقة، فدفعها إلى ابن عم اليهوديّ، وارتجع ماله، إلا شيئاً هلك، فغرمه من ماله.
وقد صاهر عبد المطلب، رجال من أسر معروفة بمكة، فصاهره "كُريز ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، وكانت عنده "أم حكيم"، وهي "البيضاء بنت عبد للطلب". وصاهره "أبو أميةّ بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "عاتكة بنت عبد المطلب"، و "عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "برة بنت عبد المطلب". وناسبه "أبو رُهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي"، خلف على "برة" بعد عبد الأسد. وصاهره "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كبير بن غنم بن. دودان بن أسد بن خزيمة"، وكانت عنده "اميمة بنت عبد المطلب"، و "العْوّام ابن خويلد بن أسد بن عبد العُزّى"، خلف على "صفية بعد عمير بن وهب". ويذكر إن "عبد المطلب"، كان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج، قاموا على رأسه مع عبيده، إجلالاً له. وكانت عادة سادة مكة تمضية أوقاتهم في مسجد الكعبة، حيث يجلسون في ظل الكعبة أو في فنائها يتحدثون ويتسامرون، ثم يذهبون إلى بيوتهم.
وفي أيام عبد المطلب كانت حملة "أبرهة" على مكة. وقد أرخت قريش بوقوعها، وصيرت الحملة مبدءاً لتأريخ، لأهميتها بالنسبة لمكة. وقد تركت أثراً كبيراً في نفوس قريش، بدليل تذكير القرآن لهم بما حلّ ب "أصحاب الفيل"، على نحو ما تحدثت عنه في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.
وقد رأينا إن "عبد المطلب" وقد أشار على قومه بالتحرز بشعاب الجبال، ويترك البيت وشأنه لأن للبيت رباً يحميه، وبعدم التحرش بالحبش وتركهم وشأنهم. والظاهر انه وجد إن عدد الأحباش كان كبيراً وان من غير الممكن مقاومتهم.والذبّ عن مكة في الوادي. ثم إنها حرم آمن، لا يجوز القتال فيه، وليس فيها حصون وآطام يُتَحصنَّ بها، لهذا رأى الرحيل عن الوادي والاحتماء برؤوس الجبال، والأشراف منها على الدروب والطرق، فذلك انفع وأحمى للمال وللنفس. ثم إن من الممكن مباغتة الحبش منها ومهاجمتهم وإنزال خسائر بهم حين يشاؤون ويقررون، على حين تكون القوة والمنعة في ايدي الأحباش لو حصروا أنفسهم بمكة، اذ يكونون في منخفض بينما العدّو على شُرف يشرف عليهم، وليس في إمكانهم مقاومته، وليس لهم حصون ولا مواضع دفاع. فتكون الغلبة لأبرهة حتماً، وقد نجحت فكرة عبد المطلب، ولمُ يُصب أهل مكة بسوء.
وقد كان من عادة أهل مكة، انهم إذا داهمهم الخطر توقَّلوا الجبال واعتصموا بها، ولما حاصرهم الرسول عام الفتح، هرب أكثرهم واعتصموا برؤوس الجبال، إذ ليس في إمكانهم الحرب والصمود في البطحاء.
ومات "عبد المطلب" بعد إن جاوز الثمانين. مات في ملك "هرمز بن أنو شروان"، وعلى الحيرة قابوس بن المنذر، أخو "عمرو بن المنذر" على رواية، وعمر الرسول ثمان سنين. ومعنى ذلك انه توفي في حوالي السنة "578" للميلاد. ولما حمل على سريره، جزت نساء "بني عبد مناف" شعورهن، وشق بعض الأولاد قمصانهم، حزناً على وفاته. ودفن بالحجون. وذكر انه لم يقم بمكة سوق أياماً كثيرة لوفاة عبد المطلب.
وذكر إن عبد المطلب كان أول، من تحنث بحراء، وكان إذا أهل هلال شهر رمضان، دخل بحراء فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين. وكان يعظّم الظلم بمكة ويكثر الطواف بالبيت.
ومن ولد عبد المطلب" عبد الله وهو والد الرسول، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبرة وأميمة. وعدة ولده اثنا عشر رجلا وست نسوة.
ولم يكن ولد عبد المطلب من رجال مكة الأثرياء، وكل ما كان عندهم ثراء روحي، استمدوه من اسم "قصيّ" وهاشم. فكانوا من وجهاء مكة من هذه الناحية. إما من ناحية المادة والمال، فلم يكونوا من السباقين فيه. لقعد كانوا وسطا، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة. مات "عبد الله"، ولم يخلف لأهله شيئاً، ومات أبو طالب، وحالته المالية ليست على ما يرام. لقد تهانوا تجاراً يخرجون بتجارتهم على عادة فيهم إلى بلاد الشام، أو إلى اليمن فيبيعون ويشترون، ولكنهم على ما يبدو من الأخبار لم يتمكنوا من جمع ثروة تغنيهم وتجعلهم من أغنياء مكة. وقد توُُفيّ "عبد الله" وهو في طريقه من. "غزة" إلى مكة، وكان قد اقبل بتجارة له، فنزل بالمدينة وهو مريض، وتوفي هناك، وأن "عبد المطلب" بعث إليه "الزبير بن عبد المطلب" أخاه، ودفن في دار النابغة. وأنه ترك عند وفاته "أم أيمن"، حاضنة الرسول، وكان يُسميها" "أميّ"، فأعتقها وخمسة أجمال أوارك، وقطعة غنم، وسيفاً مأثوراً، وورقا.
وخرج "أبو طالب" بتجارة له في "عير قريش" ولكنه لم يتمكن من كسب شيء يربحه ويسعده من كل تجاراته. وآية ذلك إن الرسول اخذ منه ابنه "علياً"، ليشف عنه مشقة الأنفاق. على ولده، وأخذ "العباس" "جعفراً" منه لينفق عليه. ووضعٌ مثل هذا لا يدل على يسر. وكانت له مع فقره هذا وجاهة عند أهله وقومه. قيل: "لم يَسُد من قريش ممِقِ إلا عتبة وأبو طالب، فانهما سادا بغير مال". وقال "عليّ" في والده" "أبي ساد فقيراً وما ساد فقير غيره". وذكر إن عياله كانوا في ضيقة وخدة. لا يكادون يشبعون لقلة ما عندهم.
وعتبة بن ربيعة، هو أبو هند زوج "أبي سفيان"، وهي أم معاوية. ويذكر أهل الأخبار أيضاً" "ساد عتبة بن أبي ربيعة وأبو طالب، وكانا أفلس من أبي المزلق. وهو رجل من بني عبد شمس، لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجدّه وجد جدّه كلهم يعرفون بالافلاس".
ويظهر إن "عبد شمس" و "نوفل" و "مخزوم"، كانوا قد تمكنوا من منافسة "عبد المطلب" و "آل هاشم" على التجارة، ومن انتزاع نجارة بلاد الشام منهم، ومن مزاحمتهم في الاتجار مع اليمن والعراق، حتى حصلوا على ثراء طائل، صيرّهم من أغنى رجال مكة، وجعل لهم التفوق على البلد، حتى صار رجال من "بني مخزوم" من أغنى رجال مكة. وكذلك رجال من "عبد شمس".
وتعدّ "أيام الفجار" من الحوادث المؤثرة في تأريخ مكة. وهي أفجرة. وإنما سميت بذلك لأنها كانت في الأشهر الحرم، ومن أهمها "فجار البراض"، نسبت إلى "البراض بن قيس" الذي قتل "عروة الرحّال" "عروة بن عتبة الرحال"، اذ جانب "قدك" بأرض يقال لها "أوارة"، فأهاج مقتله الحرب بين "قريش" ومن معها من "كنانة" وبين "قيس عيلان"، وكانت الدبرة على "قيس". وذكر في رواية أخرى، إن الفجارات الأربعة" فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر الغفاري، وهو الفجار الأول، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض. وان يوم "البراض" أو يوم نخلة، هو أعظم أيّام الفجار، وكان البراض قد قدم باللطيمة إلى مكة، فأكلها، وهي لطيمة "النعمان بن المنذر"، التي وضع "النعمان" زمامها بيد "عروة بن عتبة الرحال"، وكان سُمّي الرحال لرحلته إلى الملوك. فكان ذلك مما الحرب. وقد رأس قريش: حرب بن أُمية، وكان موضعه في القلب، وعبد الله ابن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، فالتقوا ب "نخلة"، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل. فكان اليوم لهوازن.
وذكر إن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل. وقد شهد الرسول وعمره عشرون سنة.
ثم إن قريشاً وبني كنانة لقوا هوازن بشمطة. وعلى بني هاشم" الزبير بن عبد المطلب، وعلى بني عبد شمس وأحلافها" حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار وحلفائها" عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزى" خويلد بن أسد، وعلى بني زهرة" مخرمة بن نوفل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم: هاشم بن المغيرة، وعلى بني سهم: العاص بن وائل، وعلى بني جمح: أمية بن خلف، وعلى بني عديّ: زيد بن عمرو بن نفيل، وعلى بني عامر بن لؤي: عمرو بن شمس، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجرّاح، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى الأحابيش: الحليس الكناني، فالتقوا أول النهار على هوازن، فصبروا. ثم استحر القتل في قريش، وانهزم الناس.
وروي إن "البراض بن قيس" لقي "بشر بن أبي خازم" الأسدي الشاعر، فأخبره الخبر، وأمر إن يعلم ذلك "عبد الله بن جدعان" و "هشام ابن المغيرة"، و "حرب بن أمية" و "نوفل بن معاوية الديلي" و "بلعاء ابن قيس"، فوافى "عكاظا"، فأخبرهم فخرجوا إلى الحرم، وبلغ "قيساً" الخبر، فخرجوا في آثارهم فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ولم تقم في تلك السنة "عكاظ". ومكثت "قريش" وغيرها من "كنانة" و "أسد" بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والقارة وديش والمصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة، سنة يتأهبون للحرب، لإنذار "قيس" لها. وتأهبت "قيس عملان" وسارت على "قريش"، وكان فيها "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر"، و "سُبيع بن ربيعة بن معاوية النصري" و "دريد بن الصعمة"، و "مسعود بن معتب الثقفي" و "أبو عروة بن مسعود" و "عوف بن أبي حارثة المرّي" و "عباس بن رعل السُلمي". واستعدت "قريش". ورؤساؤها "عبد الله بن جدعان"، و "هشام ابن المغيرة"، و "حرب بن أمية" و "أبو أحيحية سعيد بن العاص"، و "عتبة بن ربيعة"، و "العاص بن وائل"، و "معمر بن حبيب الجمحي"، و "عكرمة بن هاشم"، وخرجوا متساندين. ويقال بل أمرُهم إلى عبد الله بن جدعان. فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهر لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلاً ذريعاً. فاصطلحوا على إن عَدّوا القتلى، وودت قريش لقيس ما قتلت فضلاً عن قتلاهم، وانتهت الحرب. وقد شهد الرسول هذه الفجار، ورمى فيها بسهم، فكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة.
وأغلب حروب الفجار معارك ومناوشات، ولم تكن حروباً بالمعنى المفهوم من كلمة "حرب". إما أهميتها وسبب اشتهارها فلوقوعها في شهور حرم ولخروج المتحاربين فيها على سنة قريش ودينهم في تحريم القتال في هذه الشهور. ولهذا السبب حفظ ذكرها وجاء خبرها في كتب أهل الأخبار. وقد كان النصر فيها على كنانة وقريش في الغالب. وهو شيء مفهوم معقول. فقد كانت "قيس عيلان" كما كانت "هوازن" قبائل محاربة تعيش على الغزو والقتال، بينما كانت "قريش قبيلة مستقرة اتخذت التجارة لها رزقاً، كما عاشت على الأرباح التي تجنيها من مجيء الأعراب إليها في مواسم الحج أو أيام العمرة ومن الامتيار من أسواقها. وقوم هذا شأنهم في حياتهم وفي تعاملهم لا يمكن إن يميلوا إلى الغزو والقتال، بل كانوا يحبون حياة السلم والاستقرار، يشترون السلم ولو عن طريق ترضية الأعراب بتقديم الأموال لهم والهدايا والهبات. لذلك لم يصر رجالها رجال حروب وقتال، بل صاروا رجال سياسة ومساومة ومفاوضات تنتهي بنتائج طيبة بالنسبة لهم، لا يمكن إن يحصلوا عليها من القتال.
وقد راس "الزبير بن عبد المطلب" بني هاشم، غير إن رئاسته هذه لم تكن متينة وقد كان في جملة من شهد "حلف الفضول" في دار "عبد الله ابن جدعان". كما رأس "بني هاشم" في حرب الفجار. وذكر انه كان نديماً لمالك بن عُميلة بن السباق بن عبد الدار. وقد تاجر الزبير مع بلاد الشام إلاّ انه لم ينجح في تجارته على ما ظهر، بدليل انه لم يكن موسراً. وذكر انه كان أحدُ حكام العرب الذين يتحاكمون إليهم.
وحلف الفضول من الأحداث المهمة التي يذكرها أهل السير والأخبار في تأريخ مكة. وإذا صحّ ما يذكرونه من انه عقد بعد الفجار بشهور، وفي السنة التي وقع فيها الفجار الذي حضره الرسول، ومن إن الرسول حضره وهو ابن عشرين سنة، فيجب إن يكون عقد هذا الحلف قد تم في حوالي السنة "590" للميلاد. ويذكر إن الذي دعا إليه هو الزبير بن عبد المطلب.
وقد شهد حلف الفضول بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم وذكر انهم تعاهدوا على إن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وفي التآسي في المعاش. وقد عقد منصرف قريش من الفجار وكان الفجار في شوّال وعقد الحلف في ذي العقدة. وذكر أيضاً انهم "تحالفوا ألاُ يظلم أحد بمكة إلا قاموا معه حتى ترد ظلامته". وقد ذكره الشاعر "نبيه بن الحجاج السمي". وليس لأهل الأخبار رأي ثابت عن سبب تسمية هذا الحلف بحلف الفضول. فذكر بعضهم انهُ سُمي بذلك لأنهم تحالفوا إن يتركوا عند أحد فضلاً يظلمه أحداً إلا أخذوه له منه. وقيل" سُميّ به تشبيهاً بحلف كان قديماً بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن. وُسميّ حلف الفضول، لأنه قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل، فقيل حلف الفضول جمعاً لأسماء هؤلاء.
وذكر انهُ سميّ حلف الفضول، لأن قريشاً قالت: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقيل لأن قريشاً تعاقدوا فيما بينهم على "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم". وهو في بعض الروايات تحالُف ثلاثة من الفضلين على ألا يروا ظلماً بمكة إلا غيرّوه. وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن نصاعة. فسُمي من ثم باسمهم" حلف الفضول.
وذكر اكثر أهل الأخبار، إن الغاية التي أريد بها منه، هي إنصاف المظلومين من أهل مكة، من الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عوناً ليحميه ويدافع عن حقوقه، وإنصاف الغرباء الوافدين على مكة من حجاج أو تجار، ممن يعتدي عليهم فيأخذ أموالهم أخذاً ويأكلها ولا يدفع لأصحابها عنها شيئاً. فذكر إن رجلاً من "زبيد" من اليمن، وكان يباع سلعة له "العاصَ بن وائل السهمي"، فمطله الثمن حتى يئس، فعلا جبل "أبي قيس"، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى رافعا صوته يشكو ظلامته، ويطلب أنصافه مستجيراً بقريش، فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك "الزبير بن عبد المطلب"، واجتمعت في "دار الندوة"، وكان ممن اجتمع بها من "قريش" "بنو هاشم" و "بنو المطلب" و "زهرة" و "تيم" و "بنو الحارث"، فاتفقوا على انهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك.
وذكر إن رجلا من "بني أسد بن خزيمة" جاء بتجارة فاشتراها رجل من "بني سهم"، فأخذها السهمي وأبى إن يعطيه الثمن، فكلّم قريشاً وسألها أعانته على أخذ حقه، فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدى "أبا قيس"، وصرخ بشعر يشكو فيه ظلامته، فتداعت قريش، وعقدت حلف الفضول.
وقيل لم يكن من "بني أسد"، ولكنه "قيس بن شيبة السلُمي"، باع متاعاً من "أبي خلف الجمحي" وذهب بحقه، فاستجار ب "آل قصي"، فأجاروه، فكان ذلك سبب عقد حلف الفضول. وقيل" بل كان الرجل من "بارق"، فلما يئس من أخذ حقه من "أبي"، صعد في الجبل ورفع عقيرته بقوله: يا للرجال لمظلومٍ بضاعتـه ببطن مكة نائي الدار والنفر
إن الحرام لمن تمتً حرامته ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما سمعه "الزبير بن عبد المطلب"، أجابه: حلَفتُ لنعقدن حِلفْاً عليهـم وإن كُنّا جميعاً أهـل دار
نسُميّه الفضول إذا عقدنـا يقربه الغريب لذي الجوارَ
ثم قام وعبد الله بن جدعان، فدعوا قريشاً إلى التحالف والتناصر والأخذ لمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فهذا حلف لفضول.
وذكر إن رجلاً من "خثعم" قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصعبها منه "نبيه بن الحجاج"، فقيل له عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه. وقالوا له: "ويحك. فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه" فأعادها إليه.
ويظهر من هذا الخبر إن حلف الفضول كان قد عقد قبل هذه الحادثة، وان جماعته كانت شديدة متراصة في دفع الحق إلى أهله واسترجاعه ممن اغتصبه كائناً ما كان.
ويظهر إن هذا الحلف استمر قائما إلى وقت ما في الإسلام، ثم فقد قيمته، فمات. فورد انه كان بين "الحسين بن عليّ بن أبي طالب" وبن "الوليد بن عتبة بن أبي سفيان" منازعة في مال متعلق بالحسين، فماطله الوليد. "فقال الحسين للوليد" أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن مسجد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم، ثم لأدعون لحلف الفضول، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه".
وقد تفسر دعوة "الحسين". المذكورة، بأن الحسين، لم يقصد بقوله "لأدعون لحلف الفضول"، الحلف القديم المعروف، وإنما قصد لأدعون لحلف كحلف الفضول، وهو نصرة المظلوم على ظالمه. لم قد أبده على حقه جماعة، منهم عبد الله بن الزبير، مما دفع الوليد على إرجاع حق الحسين،. خشية وقوع فتنة وتدخّل في هذه الخصومة. ومعنى هنا أننا لا نستطيع إن نستنتج من الخبر المتقدم، إن حلف الفضول كان قد بقي إلى ذلك العهد.
ويرجع حلف للفضول إلى أحلاف سابقة على ما يتبين من أخبار أهل الأخبار. إلى عهد "هاشم" والى ما قبل أيام هاشم. والظاهر إن أهل مكة، بعد إن اجتمعوا وتكتلوا في واد ضيق وفي أرض فقيرة، وجدوا إن من العسير عليهم رؤية حفنة منهم وقد اسًتأثرت بالمال والغنى، بينما عاش الكثير بينهم في فقر وفاقة. وانهم إن أصموا آذانهم عن سماع نداء الإغاثة، فإن حالة من الذعر، ستسود مدينتهم. لذلك تواصوا فيما بينهم على مواساة أهل الفاقة وجبْر خاطر المحتاج، وعلى تراحمهم فيما بينهم وتواصلهم. وكان مما فعلوه لرفع مستوى الفقر، وللقضاء على الفوارق الكبيرة التي صارت فيما ببن سادات مكة وسوادها، إن حثوا كل مكيّ على المساهمة في أموال القوافل، حتى إذا ما عادت رابحة، ُوزعت أرباحها على هؤلاء أيضاً، كلّ حسب مقدار ما ساهم به من مال في القافلة. وبذلك خفف أهل مكة من حدة التضاد الذي كان بين النقيضين. وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء. بأن فتح بعض الأغنياء أبواب بيوتهم للجياع، فآووهم وساعدوهم على نحو ما جاء في شعر لمطرود بن كعب الخزاعي إذ يقول: هبلتك أملك لو حللت بدارهـم ضمنوك من جوع ومن اقراف
وقو له: والخالطين غنيهم بفقيرهـم حتى يصير فقيرهم كالكافي
والعطف على الفقراء ومواساة الضعفاء وذوي الحاجة من خلال الأشراف السادات. لأنهم إن لم يغيثوا الغائث ويرحموا المسكين فمن يرحمهم إذن على وجه هذه الأرض! وقد مدح من يجلط الفقير بالغني فيساوي بينهما، وذم من يبيت شبعاناً وجاره يبيت خامصاً لا شيء عنده يعتمد عليه.
وكان من أهم الأحداث التي وقعت في أيام الرسول، يوم كان في الخامسة والثلاثين، بناء الكعبة. بسبب سيل ملأ ما بين الجبلين، ودخل الكعبة حتى تصدعت، أو بسبب حريق أصاب أستار الكعبة، فتصدعت، فعزمت قريش على بنائها، فهدمتها وأعادت بناءها. وذكر إن قريشاً كانت قد أفردت ببناء كل ربع من أرباع البيت قوماً، وكان ذلك بقرعة بينهم. فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه وتشاحوا عليه، فرضوا بأول من يدخل من الباب. فكان أول من دخل رسول الله، فوضعه بيده، بعد إن قال: ليأت من كل ربع من قريش رجل، وبذلك فض النزاع. ويجب إن يكون حادث بناء البيت إذن في حوالي السنة "605" للميلاد.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق