إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 1 يناير 2016

769 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الحادي والاربعون حملة أبرهة


769

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل الحادي والاربعون

حملة أبرهة


وفي أيام عبد المطلب كانت حملة أبرهة على مكة، وهي حملة روّعت قريشاً وأفزعتهم، لما عرفوه من قساوة أبرهة ومن شدته في أهل اليمن، ومن انفراده بالحكم، واستبداده في الأمور،حتى انه لما مات وذهب مع الذاهبين لم تمت ذكراه كما ماتت ذكرى غيره من الحكام، بل تركت أثراً عميقاً في ذاكرة أهل اليمن، انتقل منهم إلى أهل الأخبار، فرووا عنه أقاصيص، ونسجوا حوله نسيجاً من أساطير وخرافات، على عادتهم عند تحدثهم عن الشخصيات الجاهلية القوية التي تركت أثراً في أهل تلك الأيام، حتى انهم لم يكتفوا بكل ما قالوه فيه، وكأنه لم يكن كافياً، فجعلوا منه جملة رجال سموهم "أبرهة" نصبوهم ملوكاً وتبابعة على مملكة سبأ وحمير.

والرأي الغالب بين الناس إن حملة أبرهة على مكة، كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة، وميلاد الرسول كان في عام هذه الحملة، وهو العام الذي عرف ب "عام الفيل". وهو يوافق سنة "570" أو "571م". وانما عرف بعام الفيل، لأن الحبش كما يزعم أهل الأخبار جاءوا إلى مكة ومعهم فيل سموه "محموداً"، وقد جاءوا به من الحبشة. وفي بعض الروايات أن عدد الفيلة كان ثلاثة عشر فيلاً، أو اثني عشر، أو دون ذلك، أو أكثر، وأوصلوا العدد إلى ألف فيل. ولوجود الفيل أو الفيلة في الحملة، عرفت بحملهّ الفيل، وعبر عن الحبش في القرأن الكريم ب "أصحاب الفيل".

وقد ذهب بعض الرواة إلى أن عام الفيل إنما كان قبل مولد النبي بثلاث وعشرين سنة، وذكر بعضهم أنه كان في السنة الثانية عشرة من ملك "هرمز ابن انو شرُان". ولما كان ابتداء حكم "هرمز بن أنو شروان" سنة "579" فعام الفيل يكون في توالى السنة "581" للميلاد لا سنة "570" او "571" للميلاد كما يذهب الأكئرون إلى ذلك. وأما إذا اخذنا برواية من قال من الرواة وأهل الأخبار من أن عام الفيل قد كان لاثنتين واربعين سنة من ملك "انو شروان"، فيكون هذا العام قد وقع في حوالى السنة "573" للميلاد وهو رقم قريب من الرقم الذي ذهب إليه أكثر المستشرقين حين حولوا ما ذكره اهل الأخبار عن سنة ولادة الرسول إلى التقويم الميلادي.

وقد ورد ذكر هذا الحادث في القرآن الكريم: )ألم تر كيف فعل ربك باًصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل، وارسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول( وقد خاطبت هذه الآيات انرسول بأن قريشاً سوف تخيب وتحل بها الهزيمة، كما حلت بأصحاب الفيل، واصحاب الفيل اعظم منهم قوة واشد بطشاً، وهم لا شىء تجاههم، وفيها تذكير لقريش بما حل بالحبش، وما كان عهد الحبش عنهم ببعيد. وينسب الأخباريون حملة أبرهة على مكة إلى تدنيس رجل من كنانة "القليس" التي بناها أبرهة في اليمن، لتكون محجة للناس. فلما بلغ أبرهة خبر التدنيس كما يقولون، عزم على السير إلى مكة لهدم الكعبة،فسار ومعه جيش كبير من الحبش واهل اليمن.، وهو مصمم على دكها دكاً، وصرف الناس عن الحج اليها إلى الأبد. فلما وصل، هلك معظم جيشه، فاضطر إلى العودة إلى اليمن خائباً مدحورا.

ويذكر اهل الأخبار إن الرجل الذي دنس القليس،هو من النسّأة أحد بني فقيم، ثم احد بني مالك من كنانة. وقد غضب لما رآه من شأن تلك الكنيسة،ومن عزم أبرهة على صرف حاج العرب اليها، ومن مبالغته في الدعاية لها، ففعل ما فعل.

وقيل ان الرجل المذكور كان من النساك، من نساك بني فقيم، غاظه ما كان من عزم ابرهة على صرف العرب عن الحج الى مكة، فأحدث في القليس للحط من شأنها في نظر العرب، ولطخ قبلتها بحدثه، فشاع خبره بين الناس، وهزئ القوم من قليس حدث به ما حدث. وغضب ابرهة من عمله المشين هذا الموجه اليه والى كل الحبش، فعزم على هدم البيت الذي يقدسه هذا الكناني ومن يحج اليه.

ويفسر أخباريون آخرون عزم "أبرهة" على دك الكعبة وهدمها إلى عامل آخر، فهم يذكرون إن فتية من قريش دخلوا القليس فأججوا فيها ناراً، وكان يوماً فيه ريح شديدة، فاحرقت وسقطت إلى الأرض، فغضب أبرهة، وأقسم لينتقم من قريش بهدم معبدهم،كما تسببوا في هدم معبده الذيَ باهى النجاشي به.

وذكر أن "أبرهة" بنى القلَّيس بصنعاء، وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانياً، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف اليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى ألنجاشي، غضب رجل من النسّأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فأحدث فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك اًبرهة، فغضب عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وبعث رجلاً كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد أبرهة ذلك غضباً وحنقاً، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج معه بالفيل.

وذكر "السيوطي" سبباً آخر في قرار أبرهة غزو مكة، زعم أن أبرهة الأشرم كان ملك اليمن، وان ابن ابنته أكسوم بن الصباح الحميري خرج حاجأَ، فلما انصرف من مكة، نزل في كنيسة بنجران، فعدا عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي وأخذوا قناع أكسوم، فانصرف إلى جده مغضباً، فبعث رجلا من أصحابه يقال له "شهر بن معقود" على عشرين ألفاً من خولان والأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم فتيمنت خثعم عن طريقهم. فلما دنا من الطائف خرج إليه ناس من بني خثعم ونصر وثقيف، فقالوا: ماحاجتك إلى طائفنا، وإنها هي قرية صغيرة ? ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد فيه، ثم له ملك العرب، فعليك به، ودعنا منك، فأتاه حتى إذا بلغ المغمس، وجد إبلاً لعبد المطلب مئة ناقة مقلدة، فأنهبها بين أصحابه. فلما بلغ ذلك عبدالمطلب جاءه، وكان له صديق من أهل اليمن يقال له: ذو عمرو، فسأله أن يردّ عليه ابله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتلك على الملك. فقال عبد المطلب: افعل. فأدخله عليه، فقال له: إن لي اليك حاجةً. قال قضيت. كل حاجة تطلبها، ثم قص عليه قصة ابله التي انتهبها جيشه. فالتفت إلى ذي عمرو، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجباً، فقال: لو سألني كل شيء أحوزه، أعطيته اياه، ثم أمر بإرجاع ابله عليه. وأمر بالرحيل نحو مكة لهدمها. وتوجه الف شهر وأصحاب الفيل، وقد اجمعوا ما اجمعوا نحو مكة، فلما بلغوها، خرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس، فرمتهم بحجارة مسرجة كالبنادق، فشاختهم، ونزل الهلاك بهم فانصرف شهر هارباً وحده، ولكنه ما كاد يسير، حتى تساقطت اعضاء جسده فهلك في طريقه إلى اليمن وهم ينظرون إليه.

ويتفق خبر "السيوطي" هذا في جوهره وفي شكله مع الروايات الأخرى التي وصلت الينا عن حملة "أبرهة"، ولا يختلف عنها الا في أمرين: في السبب الذي من أجله قرر أبرهة هدم الكعبة، وفي الشخص الذي سار على مكة. اما السبب الذي اورده السيوطي، فهو غير معقول، لسبب بسيط واضح، هو إن ابن ابرهة، وهو أكسوم بن الصباح الحمري، هو رجل نصراني،والنصارى لا تحج إلى مكة، لأنها محجة الوثنيين، وقد عزم جدّه ابرهة على صرف العرب من الحج اليها، فكيف يحج اليها ابن ابنته،وهو على دين جدّه ? واما ما زعمه من إن "شهر بن معقود" "مقصود" هو الذي سار على مكَة سصها، وذلك بأمر من ابرهة، فإنه يخالف اجماع أهل الأخبار والمفسرين من إن ابرهة هو نفسه قاد تلك الحملة، وانه هو الذي اخذ الفيل او الفيلة معه،وسار على رأس جيش كبير من الحبش ومن قبائل من اهل اليمن كانت تخضع له. ثم إن السيوطي يشير إلى وجود "الملك" في الجيش، ولم يكن شهر بن معقود ملكاً ولم يلقبه اهل الأخبار بلقب "ملك"، وانما أنعموا بهذا اللقب على ابرهة وحده. أضف إلى ذلك إن ما ذكره السيوطي من حوار وقع بين عبد المطلب وبين الملك هو حوار يذكر اهل الأخبار انه جرى بين عبد المطلب وبين ابرهة. لذلك ارى إن الأمر قد التبس على السيوطي،فخلط بين ابرهة وبين شهر احد قادته من العرب، وانه قصد بالملك ابرهة لا القائد، وإن لم يشر إليه، بل جعل الفعل كل الفعل للقائد المذكور.

وأورد "القرطبي" رواية اخرى نسبها إلى مقاتل بن سليمان وابن الكلبي، خلاصتها: إن سبب الفيل هو ما روى إن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى ارض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصارى: الهيكل، فأوقدوا ناراً لطعامهم، وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصفة على النار فأضرمت البيعة ناراً واحترقت، فأتي الصريخ إلى النجاشي، فأخبره، فاستشاط غضباً، فاًتاه ابرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وابو يكنهوم الكنديون وضمنوا له احراق الكعبة. وكان النجاشي هو الملك، وابرهة صاحب الجيش، وابو يكسوم نديم الملك، وقيل وزيره، وحجر بن شرحبيل من قواده. فساروا معهم الفيل، وقيل ثمانية فيلة، ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة. وتتفق هذه الرواية مع الروايات السابقة من حيث الجوهر، ولا تختلف عنها الا في جعل الكنيسة المحققة بيعة في ارض النجاشي، اي في ساحل الحبش، لا في ارض اليمن، والا في جعل الآمر بالحملة النجاشي، لا ابرهة نفسه. أما المنفذون لها، فهم ابرهة ومن معه.

وهناك سبب اخر سأتعرض له فيما بعد، يذكره أهل الأخبار في جملة الأسباب التي زعموا انها حملت ابرهة على السير نحو مكة لتهديمها. وهو سبب ارجحه وأقدمه على السببين المذكورين، لما فيه من مساس بالسياسة، ولأنه مشروع سياسي خطير المشروعات العالمية القديمة التي وضعها اقدم ساسة العالم للسيطرة على الطرق الموصلة إلى المياه الدافئة والى الأرينض المنتجة لأهم المواد المطلوبة في ذلك العهد.

وتذكر روايات اهل الأخبار إن أبرهة لما رتب كل شيء وجهز نفسه للسير من اليمن نحو مكة، خرج له رجل من اشراف اليمن وملوكهم، يقال له: "ذو نفر" وعرض له فقاتله، فهزم "ذو نفر" واصحابه، واخذ له ذو نفر اسراً. ثم مضى ابرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له "نفيل بن حبيب الخثعمي" في قبيلى خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفُيل أسراً وخرج معه يدلّه على الطريق، حتى إذا مرّ بالطائف، خرج إليه "مسعود بن معتب" في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك، انما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعين، ليس لك عندنا خلاف،وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعني اللات - انما تريد البيت الذي بمكة، يعنون الكعبة، ونحن نبعث معك من يدلك، فتجاوز عنهم، وبعثوأ معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس، فهلك أبو رغال به. فرجمت العرب قبره،فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.

وكان نفيل بن حبيب الخثعمي من سادات خثعم، ولما أخذه أبرهة أسيراً واحتبسه عنده، جعله دليله إلى مكة، وهو الذي أوصله إلى الطائف، حيث تسلم أبرهة الدليل الآخر من ثقيف، وهو أبو رغال. وذ كَر بعضهم أن "نفيل ابن حبيب" كان دليل أبرهة على الكعبة، وأنه عرف ب "ذي اليدين".

ولأهل الأخبار قصص عن "اًبي رغال"، صيره أسطورة، حتى صيره بعضهم من رجال ثمود ومن رجال "صالح" النبي. فزعموا إن النبي كان قد وجهه على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه "ثقيف" وهو قسيّ بن منبه، فقتله قتلة شنيعة. وهو خبر وضعه أناس من ثقيف ولا شك، للدفاع عن أنفسهم، إذ اتهموا بان "أبا رغال" منهم، وقد جاموا بشعر، زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قاله في حقه، منه: وهم قتلوا الرئيس أبا رغال  بمكة إذ يسوق بها الوضينا

فصيروا القائل جدّ ثقيف، ونسبوا له فضل مساعدة نبي من أنبياء الله. وقد اشار "جرير بن الخطفي" في شعر قاله في الفرزدق إلى رجم الناس قبر أبي رغال، إذ قال: إذا مات الفرزدق فارجموه  كرجمكم لقبر أبي رغال

وذكر "المسعودي"، أن العرب ترجم قبراً آخر، يعرف بينهم بقبر العبادي في طريق العراق إلى مكة. بين الثعلبية والهبير نحو البطان. ولم يذكر شيئاً عن سببه، إذ أحال القارىء على مؤلفاته الأخرى.

وذكر "الهمداني" إن قبر أبي رغال عند "الزيمة". و "الزيمة" موضع صروف حتى هذا اليوم. ولما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلاّ من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة: فساق إليه اموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا انه لا طاقهَ لهم به. فتركوا ذلك. ثم قرروا على أن يرسلوا سيدهم "عبد المطلب" لمواجهة أبرهة والتحدث إليه، فذهب وقابله، وتذكر رواية أهل الأخبار إن أبرهة لما ساًله عن حاجته وعما معه من أنباء، قال له: حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مئتي بعير أصابها لي، فعجب ابرهة من هذا القول وقال له: اتكلمني في مئتي بعير قد اصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب: اني انا رب الابل، وان للبيت رباً سيمنعه.

وتذكر هذه الرواية أن أبرهة ردّ على عبد المطلب ابله، فرجع إلى قومه، وأمرهم بالخروج من مكة وللتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معرّة الجيش. فلما وصل جيش الحبش، لم يجد أحداً بمكة،وتفشى الوباء فيه، واضطر إلى التراجع بسرعة. فلما وصل أبرهة "إلى اليمن، هلك فيها بعد مدة قليلة من هذا الحادث.

ويذكر "الطبري" إن الأسود بن مقصود لما ساق أموال اهل مكة من قريش وغيرهم، وفي ضمنها ابل عبد المطلب، وأوصلها إلى أبرهة، وأن قريشاً وكنانة. وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس عزمت على ترك القتال، إذ تأكدوا انهم لا طاقة لهم به. بعث ابرهة "حناطة الحمري" إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له إن الملك يقول لكم: إِني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يُرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب، فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: واللهِ ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله ابراهيم،. فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فواللّه ما عندنا له من دافع عنه. ثم انطلق معه إلى أبرهة. فلما وصل المعسكر، سأل عن "ذي نفر"، وكان له صديقاً، فدلّ عليه، فجاءه وهو في محبسه، فكلمه، ثم توصل بوساطته إلى سائق فيل أبرهة وهو أنيس، وأوصاه خيراً. بعبد المطلب، وكلمه في إيصاله إلى ابرهة، وان يتكلم فيه عند ابرهة بخير. ونفذ انيس طلب "ذو نفر"، وأدخله عليه، فكان ما كان من حديث.

وذكر الطبري: أن بعض اهل الأخبار زعموا إن نفراً من سادات قريش رافقوا عبد المطلب في ذهابه مع حناطة إلى ابرهة، ذكروا منهم.: يعمر "عمرو" ابن نفاثة بن عديّ بن الدُّئل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن واثلة الهُذلي، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث اموال اهل تهامة على إن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم.

ويذكر أهل الأخبار إن جيوش "ابرهة" حين دنت من مكة،توسل عبد المطلب إلى ربه وناجاه بأن ينصر بيته ويذل "آل الصليب" وأنه أخذ بحلقة باب الكعبه وقال: يا ربّ لا أرجو لهم سواكا  يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدوّ البيت من عاداكا  أمنعهم أن يخربوا قراكا

وقال: لاهُمَّ إن العبـد يمـنـع  رحله فامنع رحـالـك

لا يغلين صـلـيبـهـم  ومحالهم عدواً محالـك

وانصر على آل الصليب  وعابـديه الـيوم آلـك

وقد بلغ أبرهة مكة، غير انه لم يتمكن من دكّها ومن هدمها، وخاب ظنه، إذ تفشى المرض بجيشه وفتك الوباء به، فهلك أكثره، واضطر إلى الإسراع في العودة، وكان عسكره يتساقطون موتى على الطريق، وهم في عودتهم إلى اليمن. وذكرت بعض الروايات إن أبرهة نفسه أصيب بهذا المرض. ولم يبلغ صنعاء الاّ بعد جهد جهيد. فلما بلغها، مات إِثر وصوله اليها.

وعلى هذه الصورة أنهى اهل الأخبار أخبار حملة ابرهة، فقالوا انها انتهت باخفاق ذريع، انتهت باصابة ابرهة بوباء خطير، وبإصابة عسكره بذلك المرض نفسه: مرض جلدي، أصاب جلود أكثر جيشه، فمزقها، وأصابها بقروح وقيوح في الأيدي خاصة، وفي الأفخاذ. أو بمرض وبائي هو الحصبة والجدري، فيذكر أهل الأخبار في تفسير سورة الفيل، وفي أئناء تحدثهم عن هذه الحملة وبعد شرحهم لمعنى "طير آبابيل": مباشرة، هذين المرضين ويقولون: "إن أول ما رئيت الحصبة والجُدري بأرض العرب ذلك العام". وتفسير ذلك بعبارة أخرى إن ما اصاب الحبش، هو وباء من تلك الأوبئة التي كانت تكتسح البشرية فيما مضى، فلا تشهب حتى تكون قد أكلت آلافاً من الرؤوس.

وكان لرجوع الأحباش إلى اليمن وهم على هذه الصورة من مرض يفتك بهم، وتعب ألمَّ بهم، أثر كبير أثر فيهم وفي قريش، ثم ما لبث ابرهة إن مات بعد مدهَ غير طويلة، فازداد اعتقاد قريش ب "رب البيت" وبأصنامها، وهابت العرب مكة، فكانت نكسة الحبش نصراً لقريش ولأهل مكة قوّى من معنوياتها. ويتجلى ذلك في القرآن الكرم في سورة الفيل، وهي من السور المكّية القديمة: )ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول(.

وقصة تدنيس "القليس"، قد تكون حقيقية وقعت وحدثت، وقد تكون أسطورة حيكت ووضعت، على كل حال، وفي كلتا الحالتين لايعقل أن تكون هي السبب المباشر الذي دفع النجاشي إلى السير إلى مكة لهدم البيت ونقضه من أساسه ورفع احجاره حجراً حجراً، على نحو ما يزعمه أهل الأخبار بل يجب أن يكون السبب أهم من التدنيس وأعظم، وأن يكون فتح مكة بموجب خطة تسمو على فكرة تهديم البيت وتخريبه، خطة ترمي إلى ربط اليمن ببلاد الشام، لجعل العربية الغربية والعربيهّ الجنوبية تحت حكم النصرانية، وبذلك يستفيد الروم والحبش وهم نصارى، وان اختلفوا ذهباً، ويحققون لهم بذلك نصراً سياسياً واقتصادياً كبيراً، فيتخلص الروم بذلك من الخضوع للاسعار للعالية التي كان يفرضها الساسانيون على السلع التجارية النادرة المطلوبة التي احتكروا بيعها لمرورها ببلادهم، إذ سترد اليهم من سيلان والهند رأساً عن طريق بلاد العرب، فتنخفض الأسعار ويكون في امكان السفن البيزنطية السير بأمان في البحار العربية حتى سيلان والهند وما وراءهما من بحار.

وآية ذلك خبر يرويه أهل الأخبار يقولون فيه إن "أيرهة" توج "محمد ابن خزاعي بن حزابة الذكواني"، ثم السلمي، وكان قد جاءه في نفر من قومه، مع أخ له، يقال له "قيس بن خزاعي"، يلتمسون فضله، وأمرّه على مضر، وأمره أن يسير في الناس، فيدعوهم في جملة ما يدعوهم إليه إلى حج "القليس"، فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة، وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له، بعثوا إليه رجلاٌ من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فغضب وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمنَّ البيت.

فمقتل "محمد بن خزاعي"، هو الذي هاج أبرهة وحمله على ركوب ذلك المركب الخشن. ولم يكن هياجه هذا بالطبع بسبب أن القتيل كان صاحبه وصديقه بل لأن من قتله عاكس رأيه وخالف سياسته ومراميه التوسعيهّ القاضية بفرض ارادته وارادة الحبش وحلفائهم على أهل مكة وبقية كنانة ومضر، وبتعيين ملك أو أمير عليهم، هو الشخص المقتول، فقتلوه. ومثل هذا الحادث يؤثر في السياسة وفي الساسة، ويدفع الى اتخاذ اجراءات قاسية شديدة، مثل ارسال جيش للقضاء على المتجاسرين حتى لا يتجاسر غيرهم، فتفلت من السياسي الأمور.

ومن يدري ? فلعل الروم كانوا هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة وغير مكة حتى تكون العربية الغربية كلها تحت سلطان النصرانية، فتتحقق لهم مأربهم في طرد سلطان الفرس من بلاد العرب. وقد حاولوا مراراً اقناع الحبش بتنفيذ هذه الخطة والاشراك في محاربة الفرس، وهم الذين حرضوا الحبشة وساعدوهم بسفنهم وبمساعدات مادية أخرى في فتح اليمن. وهم الذين أرسلوا رسولاً اسمه "جوليانوس" Julianus، وذلك في أيام القيصر "يوسطنيان" Justinian لاقناع النجاشي Hellestheaeus و "السميع أشوع" Esimiphaeus بالتحالف مع الروم، وتكوين جبهة واحدة ضد الفرس والاشتراك مع الروم في اعلان الحرب على الفرس بسبب الرابطة التي تجمع بينهم، وهي رابطة الدين. وكان في جملة ما رجاه القيصر من "السميفع أشوع"، هو أن يوافق على تنصيب "قيس" Casius رئيساً على "Maddeni" معد.

وقد ذكر "المُسكَّري"، أن "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب ابن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان السلمي" كان في جيش ابرهة مع الفيل، أي انه لم يقتل كما جاء في الرواية السابقة.

وقد ورد في بعض الأخبار أن عائشة أدركت قائد الفيل وسائسه، وكانا أعميين مقعدين يستطعمان. وقد رأتهما.

وقد كان من أشراف مكة في هذا العهد غير عبد المطلب، المطعم بن عدي. وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقد صعدوا على حِراء ينظرون ما سيفعل أبرهة بمكة.

وذكر بعض أهل الأخبار، أن فلالاً من الحبش من جيش أبرهة وعفاء وبعض من ضمّه العسكر، أقاموا بمكة، فكانوا يعتملون ويرعون لأهل مكة، وليس في كتب أهل الأخبار أسماء القبائل العربية التي جاءت مع "أبرهة" للاستيلاء على مكة بتفصيل. وكل ما نعرفه انه كان قد ضم إلى جيشه قوات عربية قد يكون بينها قوم من كندة، وقد أشير إلى اشتراك خولان والأشعرين فيها، وذكر أن "خنِدقاً" كانوا ممن اشترك في جيش أبرهة،وكذلك "حميس بن أد"  

وقد اشير إلى أبرهة الأشرم والى الفيل في شعر شعراء جاهليين ومخضرمين واسلاميين. وقد ورد في شعر "عبد الله بن الزبعرى" أنه كان مع "أمير الحبش" ستون ألف مقاتل. وورد في شعر "امية بن ابي الصلت" إن الفيل ظل يحبو ب "المغمس" ولم يتحرك، وحوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور. ومعنى هذا أن سادات كندة كانوا مع الحبش في زحفهم على مكة. وذكر "عبد الله بن قيس الرقيّات": إن "الأشرم" جاء بالفيل يريد الكيد للكعبة، فولى جيشه مهزوماً، فأمطرتهم الطير بالجندل، حتى صاروا وكأنهم مرجومون يمطرون بحصى الرجم.

وذكر إن "عمر بن الخطاب" كان في جملة. من ذكر "أبا يكسوم أبرهة" في شعره، واتخذه مثلاً على من يحاول التطاول على بيت اللّه وعلى "آل اللّه" سكان مكة. وذكر أهل الأخبار انه قال ذلك الشعر في هجاء "زنباع بن روح ابن سلامة بن حداد بن حديدة" وكان عشاراً، أساء إلى "عمر بن الخطاب" وكان قد خرج في الجاهلية تاجراً وذلك في اجتيازه واخذ مكسه، فهجاه عمر، فبلغ ذلك الهجاء "زنباعاً"، فجهز جيشاً لغزو مكة. فقال عمر شعراً آخر يتحداه فيه بأن ينفهذ تهديده إن كان صادقاً، لأن من يريد البيت بسوء يكون مصيره مصير أبرهة الأشرم، وقد كف زنباع عن تنفيذ ما عزم عليه ولم يقم به.

لقد تركت حملة "الفيل" أثراً كبيراً في أهل مكة، حتى اعتبرت مبدأ تقويم عندهم، فصار أهل مكة يؤرخون بعام الفيل "في كتبهم وديونهم من سنة الفيل". فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعاً تؤرخ بعام الفبل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة.

لقد كان لأهل مكة صلات باليمن متينة، إذ كانت لهم تجارة معها،تقصدها قوافلها في كل وقت، وخاصة في موسم الشتاء، حيث تجهز قريش قافلة كييرة يساهم فيها أكثرهم، واليها أشير في القران الكريم في سورة قريش: )لإيلف قريش. ايلافِهم رحلة الشتاء والصيف(. ولهذا فقد كان من سياستهم مداراة حكام اليمن وارضاؤهم، ومنع من قد يعتدي منهم على أحد من أهل اليمن أو الحبش ممن قد يقصد مكة للاتجار أو للاستراحة بها في أثناء سيره إلى بلاد الشام، خوفاً من منع تجارهم من دخول أسواق اليمن. فلما وثب أحدهم على تجار من اليمن كانوا قد دخلوا مكة، وانتهبوا ما كان معهم، مضت عدة من وجوه قريش إلى "أبي يكسوم"، أي أبرهة وصالحوه أن لا يقطع تجار أهل مكة عنهم. وضماناً لوفائهم بما اتفقوا عليه وضعوا "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" وغيره رهينة، فكان "أبرهة" يكرمهم ويصلهم، وكانوا يبضعون البضائع إلى مكة لأنفسهم.

وقد وضع أهل الطائف رهائن عند أبي يكسوم كذلك، ضماناً لحسن معاملتهم للحبش ولمن قد يقصد الطائف للاتجار من الحبش أو من أهل اليمن.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق