768
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي والاربعون
أبرهة
AbrahamوAbramiois هما اسمان لمسمى واحد، أريد به "أبرهة" المشهور عند أهل الأخبار الذي اغتصب الملك باليمن، ونصب نفسه حاكماًعليها، ولقب نفسه بألقاب الملوك، وإن اعترف اساساً بأنه "عزلى ملكن اجعزين"، أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن. وحكم اليمن أمداً، وترك في نفوس اليمانيين اثراً قويا.
ويرى بعض الباحثين أن "كالب ايلا أصبحة "، كان قد أرسل حملة سنة "523" للميلاد على اليمن، حملتها اليها سفن بيزنطية، نزلت في البلاد وتغلبت على "ذي نواس" فهرب "ذو نواس" من "ظفار"، ثم عاد فباغت الحبش وأنزل بهم خسائر كبيرة، واضطهد النصارى وعذّ بهم. فحمل النجاشي على ارسال حملة جديدة عليه نزلت اليمن سنة525" للميلاد. وصارت في أيدي الحبش حتى سنة "530" للميلاد. اذ قامت ثورة على الحبشة، وانتهز "أبرهة" الفرصة، فأخذ الأمر بيديه، وبقي حاكماً على اليمن منذ هذا الوقت تقريباً حتى سنة "575" للميلاد. وكان قد انتزع الحكم من "السميفع أشوع"، الذي نصّبه الحبش ملكاً على اليمن حين دخولهم اليها وعيّنوا رجلين من الحبش يحكمان معه ويراقبان أعماله لئلا يقوم بعمل يضر مصالحهم.
ولأهل الأخبار روايات عن كيفية استئثار "أبرهة" بالحكم واغتصابه له. لهم رواية تقول: إنه جاء إلى اليمن جندياً من جنود القائد الحبش "أرياط" الذي كلفه نجاشي الحبشة بفتح اليمن، فلما أقام باليمن سنين، نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة، وخرج أبرهة على طاعة قائده، ثم غدر به وأخذ مكانه. ورواية أخرى، تقول إن النجاشي أرسل جيشا ًقوامه سبعون الفاً، جعل عليه قائدين، أحدهما: أبرهة الأشرم. فلما ركب ذو نواس فرسه واعترض البحر فاقتحمه وترك به، نصب أبرهة نفسه ملكاً على اليمن، ولم يرسل له شيئاً، فغضب النجاشي ووجه اليه جيشاً عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث اليه أبرهه: "إنه يجمعني واياك البلاد والدين، والواجب عليّ وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا". فرضي بذلك أرياط، واْجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعاً يلتقيان به، واكمن أبرهة لأرياط عبداً يقال له: "أرنجده" في وهدة قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه، فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله". وأخذ أبرهة الحكم لنفسه واستأثر به.
وتذكر رواية أخرى، أن النجاشي كان قد وجه أرياط أباصحم "ضخم" في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها، فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلى طاعته. فأجابوه، فقتل أرياط، وغلب على اليمن.
وتذكر رواية إن "أرياط" اخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصوناً لم يكن في الناس مثلها. ونسبوا في ذلك شعراً إلى "ذي جدن"، زعموا أنه قاله في هذه المناسبة. ويظهر من روايات اخرى أن تلك الحصون بقيت إلى ما بعد أيامه. وذكر أن "أرياط" كان فوق أبرهة، أقام باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك.
وتجمع روايات أهل الأخبار على أن النجاشي غضب على أبرهة لما فعله باليمن ولما أقدم عليه من قتل أرياط، وأنه حلف الاّ يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويحز ناصيته، ويهرق دمه. فلما بلغ ذلك أبرهة، كتب إلى النجاشي كتاباً فيه تودد واعتذار وتوسل واسترضاء، فرضي النجاشي عنه، وثبته على عمله بأرض اليمن.
ولما استقام الأمر لأبرهة باليمن، بعث إلى "أبي مرة بن ذي يزن"، فنزع منه امرأته "ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان"، و "علقمة" هو ذو جدن. وكانت ولدت لأبي مرّة معد يكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد ابي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة. وهرب منه أبو مرة.
ولأبرهة ذكر وشهرة. في كتب أهل الأخبار والتأريخ. وقد ورد اسمه في الشعر الجاهلي، وضرب به المثل في القوة والصيت والسلطان، حتى لنجد أهل الأخبار يذكرون اسماء جملة اشخاص دعوهم "أبرهة" ذكروا أنهم حكموا اليمن.
والظاهر أن الشهرة التي بلغها في أيامه وغزوه القبائل العربية واستعماله القسوة معها، أحاطته بهالة في أيامه تضخمت فيما بعد، فأحيط بقصص وأساطير وصير من اسمه جملة حكام حكموا باسم "أبرهة".
فقد ذكروا اسم "أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ". وكان يقال له "الرائد". وجعلوا لأبرهة هذا ولدين، هما: إفريقس، والعبد ذو الأذعار. وأولد إفريقس شمر يرعش. وذكروا "أبرهة" آخر، قالوا له: "أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة". وسمى "الهمداني" جملة رجال "أبرهة"، وأدخلهم في "الأصابح". ويظهر من دراسة اسم "أبرهة" ونعته في الحبشية أن الأخباربين أخذوها فصيرّوا منها أسماء عربية ربطوا بينها وبين تأريخ اليمن كما فعلوا مع أشخاص اخرين.
وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" المثل ب "أبي يكسوم" وهو أبرهة في وجوب الاتعاظ بهذه الدنيا الفانية التي لا تدوم لأحد، فقال: لو كان حي في الحياةُ مخلداً في الدهر ألقاه أبويكسـوم
والتبّعان كلاهما وُمـحـرَق وأبو قبيس فارس اليحمـومْ
وقد ترك أبرهة وثيقة مهمة على جانب خطير من الأهمية، وهي النص الذي وسم بGlaser 618 وبCIH 541، عند الباحثين في العربيات الجنوبية. وهي ثاني نص طويل يصل الينا من اليمن، يتألف من "36 ا" سطراً ومن حوالي "470" كلمة وتبحث عن ترميم سدّ مأرب ذي المكانة الخالدة في القصص العربي وتجديده مرتين، وذلك في أيام أبرهة. المرة الأولى في شهر "ذو المدرح" من سنة "657" من التاريخ الحميري المقابلة لسنة "542" للميلاد، والثانية في شهر "ذو معان" "ذ معن" من سنة "658" من التأريخ الحميري، أي في سنة "543" من الميلاد.
وقد افتتح النص بالعبارة الاتية: " بخيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو ورح قدس سطرو ذن مزندن. إن ابره عزلى ملكن اجعزين رمحز زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمت"، أي "بحول و قوة ورحمة الرحمن ومسيحه وروح القدس سطروا هذه الكتابة. إن أبرهة نائب ملك الجعزيين رمحز زبيمان ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في النجاد وفي تهامة ". ويلاحظ أن أبرهة قد لقب نفسه في هذا النصر باللقب الرسمي الذي كان يتلقب به ملوك حمير قبل سقوط دولتهم، مع أنه كان "عزلى ملكن اجعزين"،أي نائب ملك الجعزين. والواقع أنه كان قد استأثر بالحكم في اليمن، وحصر السلطة في يديه، وصار الحاكم المطلق، ولم يترك النجاشي أكسوم غير الاسم، حتى أنه دعاه في هذا النص "ملك الجعز" حسب.
وفي النص حديث عن ثورة قام بها "يزد بن كبشت" "يزيد بن كبشة" من السادات البارزين في اليمن. وكان أبرهة قد أنابه عنه، وجعله خليفته على قبيلتي "كدت" و "دا"، غير أنه ثار عليه لسبب لم يذكر في النص، وأعلن العصيان. وانضم إليه أقيال "اقول" سبأ و "اسحرن"،وهم: "ذو سحر" و "مرة " و"ثممت" و "ثمت" "ثمامة" و "حنش" "حنشم" و "مرثد " و "حنف" "حنفم" "حنيف" و "ذ خلل" "ذو خليل" و "ازانن" و"الأزان" والقيل "معد يكرب بن سميفع"، و "هعن" "هعان" واخوته أبناء أسلم. فما بلغ نبأ هذه الثورة مسامع "أبرهة"، سيّر إليه جيشاً بقيادة "جرح ذزبنر" "جراح ذو زبنور"، فلم يتمكن أن يفعل شيئأ، وهزمه "يزيد"، واستولى على حصن "كدر" "كدار"، وجميع من أطاعه من "كدت" "كدة" ومن "حريب" حضرموت وهاجم "هجن اذمرين" "هجان الذماري" وهزمه واستولى على أملاكه، وحاصر موضع "عبرن" "عبران" "العبر". عندئذ قرر أبرهة معالجة الموقف بارسال قوات كبيرة لرتق الخرق قبل اتساعه، فجهز في شهر "ذ قيضن" "ذو القيض" "ذو قيضان" من سنة "657" من التقويم الحميري أي سنة "542" للميلاد جيشاً لجباً من الاحباش والحميريين، وجهه نحو أودية "سبأ" و "صمرواح" ثم "نبط" على مقربة من "الوادي" "عبرن" "عبران" "العبر". وفي "نبط" جعل أهل "الو" "الوى" و "لمد" والحميربين في المقدمة. أما القيادة، فكانت بأيدي القائدين: "وطح" "وطاح" و "عوده" "ذو جدن". وبينما كان الجيش في طريقه لحرب."يزيد بن كبشة" إذا به يظهر مع عدد من أتباعه أمام "أبرهة" يطلب منه العفو والصفح. أما الباقون، فقد تحصنوا في مواضعهم، وأبو الخضوع والاستسلام.
وبينما كان أبرهة يفكر في أمر بقية الثائرين إذا به يسمع بخبر سيء جداً، هو تصدع سد "مأرب" وتهدم بعض توابعه، وذلك في شهر "ذ مذرن" "ذو مذران" "ذو المذرى" من سنة "657" من تقويم حمير، أي سنة "542" للميلاد. فأمر مسرعاً بتحضير مواد البناء والحجارة ، وحدد أجل ذلك بشهر "ذ صربن" "ذو الصرب" من السنة نفسها. وفي أثناء مدة التحضير هذه، افتتح أبرهة كنيسة في مدينة مأرب يظهر أنه هو الذي أمر ببنائها، ورتب لخدماتها جماعة من متنصرة سبأ. ولما انتهى من ذلك عاد إلى موضع السدّ لوضع أسسه وأقامته مستعيناً بحمير وبجنوده الحبش، لكنه اضطر بعد مدة إلى السماح لهم بإجازة، ليهيئوا لأنفسهم الطعام وما يحتاجون إليه، وليريحهم مدة من هذا العمل المضني الذي تبرموا منه، وليقضي بذلك على تذمر العشائر التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الطويلة الشاقة. ورجع أبرهة في أثنائها إلى مأرب، فعقد معاهدة مع أقيال سبأ وتحسنت الأحوال، وأرسلت إليه الغلات والمواد اللازمة للبناء،ووصلت إليه جموع من الفعلية وأبناء العشائر، فعاد إلى العمل بهمة وجد، فأنجزه على نحو ما أراد، فبلغ طوله خمسة وأربعين "أمماً". أما عرضه، فكان أربع عشرة ذراعاً، بني بحجارة حمر من "البلق". وانجزت أعمال قنواته وأحواضه والمشروعات الفرعية المتعلقة به في "خبشم" "خبش" وفي "مفلم" "مفلل" "مفول". وقد دوّن أبرهة في نهاية النص ما أنفقه على بناء هذا السد من أموال، وما قدّمه إلى العمال والجيس الذي اشترك في العمل من طعام واعاشة من اليوم الذي بدئ في بالانشاء حتى يوم الانتهاء من في شهر "ذو معن" ذو معان" من سنة "658" الموافقة لسنة "543"للميلاد.
ويظهر من النص أن ثورة "يزيد بن كبشت" كانت ثورة عنيفة قوية، وأنها شملت حضرموت و "حريب" و "ذو جدن" و "حباب" عند "صراواح". ولكنها فشلت وتغلبت أبرهة عليها بمساعدة قبائل يمانية ذكرها في النص.
أما "يزيد بن كبشة" فلا نعرف من أمره في الزمن الحاضر إلا شيئاً يسيراً، وهو ما كره أبرهة في نصه عنه، من أنه عيّه عاملاً ووكيلاً عنه على قبيلة "كدت" "كدة". وهي كندة على رأي أكثر العلماء.
وأما الاقيال الذين انضموا إليه وساعدوه، وهم: "ذو سحر" و "مرة" و "ثمامة" و "حنش" و "مرثد" و "حنيف" وآل ذو خليل وذو يزان "ذ يزن" "ذو يزن"، و "معديكرب بن سميفع" و "هعن" "هعّان" واخوته أبناء أسلم. فهم يمثلون على الجملة الطبقات الأرستقراطية القديمة في سبأ. فآل ذو خليل وذو سحر، من الأسر التي ذكرت أسماؤها في النصوص المدونة قبل الميلاد. وقد أرخ بأسرة "ذي خليل" في نصوص المسند، وذكروا في كتابات السبئيين العتيقة التي تعود الى أيام المكربين. وكان لهم في أيامهم شأن يذكر في تأريخ سبأ، إذ كان منهم المكربون. وذكر "الهمداني" اسم جماعة يقال لهم "البحريون"، قال: انهم من ولد ذي خليل من حمير.
وليس من السهل تشخيص "مرّة" و "ثمامة"، فهما من الأسماء المتعددة المذكورة في الكتب العربية. وقد أشير إلى "ثمامة بن حجر" ملك "قصر الهدهاد" في "عمران". وذكر الهمداني "بني ثمامة" وقال: إن جبأ مدينة المعافر، وهي لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغر، فهل يكون لهؤلاء صلة ب "ثمامة" النص ? وذكر بعض الأخباريين اسم ملك من ملوك اليمن سموه "مرثداً" زعموا أنه كان آخر الملوك، وزعم قسم منهم أنه حكم مدة قصيرة بعد "ذي نواس"، فهل صاحب هذا الآسم هو "مرثد" المذكور في النص ? ولا عبرة بالطبع بما ذكر من أنه كان ملكاً، فقد كان من عادة الأقيال والأذواء التلقب بلقب ملك.
وورد "ذو مراثد بن ذو سحر"، في الموارد العربية، فجمعت بين "مراثد" و "سحر"، وورد اسم "سحر" واسم مرثد في النص، فهل هنالك صلة بين هذه الأسماء ? ويرى "كلاسر" أن "ازان"، هم "يزن"، ومتهم "سيف بن ذى يزن" الذي ثار على الحبش،واستعان بالفرس لانقاذ بلاده من أيدي الأحباش.
وأما معديكرب بن سميفع، فيرى الباحثون أنه ابن "السميفع أشوع". وقد جاء اسمه بين أسماء الأقيال الذين ثاروا على أبرهة، وانضموا إلى ثورة "يزيد ابن كبشة". فهو من الأقيال الحاقدين على أبرهة لاغتصاب أبرهة الملك من والده. ولهذا انضم إلى "يزين بن كيشة ! سيد "كدت" "كندة" وحارب معه الحبش.
وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب قضي على عصيان الأقيال الذين انضموا إلى ثورة "يزيد"، وأبوا الخضوع لحكم أبرهة بعد استسلام يزيد وخضوعه. وكذلك استسلمت قبيلة كدار "كيدار" "كدر"، وتحسن موقفه بذلك كثيراً، وأصبح سيد اليمن وصاحب الأمر. أما الذين ساعدوه وآزروه وعاونوه والتفوا حوله، فهم: ذو معاهر و "بن ملكن" ابن الملك ومرجزف وذو ذرنح وعدل "عادل" و ذو فيش، وذو شولمان "ذو الشولم" و "ذو شعبان" "ذو الشعب" وذو رعين "ذرعن"، و "ذو همدان" و"ذو الكلاع"، و "ذ مهدم" "ذو مهد" و "ذ ثت" "ذو ثت" "ذو ثات"و"علسم" و "ذو يزان" "ذ يزن" "ذو يزن"، و "ذو ذبين" "ذو ذبيان" و "كبر حضرموت" كبير حضرموت، وذو فرنة "ذ فرنة". وقد ذكر النص انهم كانوا إلى جانب الملك، وانهم كانوا على ود وصداقة معه. وهم بالطبع من أسر عريقة، ومن كبراء القوم، وقد وردت أسماء بعض أسرهم في النصوص المدونة قبل الميلاد.
ولم يذكر في هذا النص اسم "كبر حضرموت"، أي كبير حضرموت الذي كان يحكم حضرموت في أيام أبرهة، يظهر من ذكره مع الرجال الذين حضروا إلى مأرب أنه كان تابعاً لأبرهة، أو أنه كان حليفا له.
وتدل جملة "بن ملكن"، على أن المراد بها "ابن الملك"، أي "ابن أبرهة"، ولم يشر النص إلى اسمه. فلعله قصد أكبر أولاده. ويرى البعض انه كان يحكم "وعلان" "ذو ردمان"، وانه كان يلقب ب "ذ معهر" "ذو معاهر" "ذو معهر". وقد أشار "الهمداني" إلى "ذي المعاهر". وذكر أنه قصر "وعلان" ب "ردمان".
وفي اثناء وجود أبرهة في مأرب، وفدت إليه وفود من النجاشي ومن ملك الروم "ملك رمن" ومن ملك القرس "ملك فرسن"، ورسل من "المنذر" "رسل مذرن" ومن "الحارث بن جبلة" "رسل حرثم بن جبلت" ومن "أب كرب بن جبلة" "أبكرب بن جبلة" "رسل ابكرب بن جبلت"ومن رؤساء القبائل. ويلاحظ إن النص قد قدّم النجاشي على ملك الروم، كما قدّم ملك الروم على ملك الفرس، ثم ذكر من بعد ملك الفرس اسم المنذر والحارث ابن جبلة وأبي كرب بن جبلة "ابكرب بن جبلت". أما تقديم النجاشي على غيره فأمر لا بد منه، وذلك لسيادة الحبشة ولو بالاسم على اليمن، واعتراف أبرهة بسيادة مملكة اكسوم عليه. وفي ارسال مندوب عن النجاشي إلى أبرهة في مهمة سياسية، دليل ضمني على انفراد أبرهة بالحكم، واستقلاله في ادارة اليمن حتى صار في حكم ملك مستقل، يستقبل وفود الدول ورسلهم ومن بينهم وفد من ملك قامت حكومته بغزو اليمن والاستيلاء عليها. وأما تقديم ملك الروم على ملك الفرس، فلصلة الدين والسياسة بين الحبشة والروم واليمن، فللروم الأسبقبة والأفضلية اذن على الفرس.
ويلاحظ أيضاً أن النص قد استعمل كلمة "محشكت" للوفد أو الرسل الذين جاؤوا الى أبرهة من النجاشي ومن ملك الروم، فكتب "محشكت نجشين" و "محشكت ملك رمن" أي "رسل الجا!ثي" "سفراء النجاشي" "سفير النجاشي" و "رسل ملك الروم". وتعني كلمة "محشكت" في إللغة السبئية "الزوجة"، فعبرّ في هذا النص بهذه الكلمة عن معنى "سفير" "سفراء" و "رسل حكومة صديقة مقربة"، فلها إذن هنا معنى دبلوماسي خاص. أما بالنسبة إلى رسل "ملك الفرس"، فقد أطلق عليهم كلمة "تنبلت"، فكتب "تنبلت ملك فرس"، أي "وفد ملك الفرس" وذلك يشير إلى أن لهذه الكلمة معنى خاصأَ في العرف السياسي يختلف عن معنى "محشكت"، وأن الوفد لم يكن في منزلة وفدي الحبشة والروم ودرجتهما.
ولقد أحدث مجيء مندوب النجاشي "رمحيز زبيمن" ومندوب ملك الروم ومبعوث ملك الفرس،ورسل المنلر ملك الحيرة، والحارث بن جيلة وأبي كرب اين جبلة، أثراً كبيراً ولا شك في نفوس العرب الجنوبيين، وفي نفوس الأقيال وقبائلهم، فمجيء هؤلاء إلى اليمن، وقطعهم المسافات الشاسعة، ليس بامر يسير، وفيه أهمية سياسية كبيرة. وفيه تقدير لأبرهة ولمكانته في هذه البقعه الخطرة المسيطرة على البحر الأحمر وفمه عند باب المندب، وعلى المحيط الهندي. كما أحدثت الأبهة التي اصطنعها أبرهة لنفسه في اليمن. والقوة التي جمعها في يديه أثرأَ كبيراً ولا شك أيضاً في نفوس المبعوثين الذين قطعوا تلك المسافات للوصول إلى عاصمة سبأ ذات الأثر الخالد في النفوس.
ولم يكن مجيء هؤلاء المبعوثن إلى أبرهة لمجرد التهنئة او التسلية أو المجاملة أو ما شاكل ذلك من كلمات مكتوبة في معجمات السياسة. ولكن لأمور أخرى أبعد من هذه وأهم، هي جرّ أبرهة إلى هذا المعسكر أو ذلك، وترجيح كفة على أخرى، وخنق التجارة في البحر الأحمر، أو توسيعها، ومن وراء ذلك اما نكبة تحل بمؤسسات الروم وتجاراتهم، واما ربح وافر يصيبهم بما لا يقدر. لقد كان العالم إِذ ذاك كما هو الآن، جبهتين: جبهة غربية، وجبهة أخرى شرقية: الروم والفرس. ولكل طبّالون ومزمرون من الممالك الصغيرة وسادات القبائل يطبلون ويزمرون، ويرضون أو يغضبون، ويثيبون أو يعاقيون إرضاء للجبهة التي هم فيها، وزلفى اليها وتقرباً. لقد سخر الروم كل قواهم السياسية للهيمنة على جزيرة العرب، أو ابعادها عن الفرس وعن الميالين اليهم على الأقل. وعمل الفرس من جهتهم على تحطيم كل جبهة تميل إلى الروم وتؤيد وجهة نظرهم وعلى منع سفنهم من الدخول إلى البحر الهندي، والاتجار مع بلاد العرب. وعمل المعسكران بكل جد وحزم على نشر وسائل الدعاية واكتساب معركة الدعاية والفكر، ومن ذلك التأثير على العقول. فسعى الروم لنشر النصرانية في الجزيرة، فأرسلوا المبشرين وساعدوهم، وحرضوا الحبشة على نصرها ونشرها، وسعى الفرس لنشر المذاهب النصرانية المعارضة لمذهب الروم والحبشة ولتأييد اليهودية أيضاً، وهي معارضة لسياسة للروم أيضاً. ولم يكن دين الفرس عكما نعلم نصرانياً ولا يهودياٌ، وإنما هو دين بغيض إلى أصحاب الديانتين. ولم يكن غرض الروم "من بث النصرانية أيضاً خالصاً لوجه الله بريئاً من كل شائبة.
أما النجاشي الذي أرسل الوفد إلى أبرهة فاسمه "رمحيز زبيمن" "رمحيز زبيمان" كما ذكر ذلك أبرهة نفسه. ولا يعرف من أمر هذا النجاشي شيء كثير، ولا يعرف كذلك أكان قد خلف النجاشي "كالب ايلا أصبحة" Kaleb Ela Asbaha الذي بأمره كان الفتح، أم كان خلفاً لخليفته. وقد أشرت من قبل إلى ما ذكره "بروكوبيوس" وأهل الأخبار عن التوتر الذي كان بين نجاشي الحبشة وأبرهة، وعن امتناع أبرهة عن دفع جزية سنوية إليه. ويظهر إن أبرهة رأى أن من الخير له مصالحة النجاشي والاعتراف بسلطانه اسمياً، وفي ذلك كسب سياسي عظيم، كما هو كسب للنجاشي ولو صورياً، فدفع الجزية له وتحسنت العلاقات.
وأما "ملك رمن" ملك الروم، فلم يذكر "أبرهة" اسمه في نصه. ولكن يجب أن يكون هو القيصر "يوسطنيانوس" Justinian الذي حكم من سنة"527" حتى سنة "566" للميلاد، وكان حكمه بعد حكم "يسطين" الذي ولى الحكم من سنة "518" حتى سنة "527" للميلاد. وكان "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" قد وضع خطة للتحالف مع الحبش ومع حمير للاضرار بالفرس. وراسل "السميفع أشوع" Esimiphaeus للاتحاد معه ولمحاربة الفرس. فلما تولى "أبرهة" الحكم عاد القيصر فاتصل به، وتودد إليه لتنفيذ ما عرضه على "السميفع أشوع" من مهاجمة الفرس. فوافق أبرهة على ذلك، وأغار عليهم غير أنه ترجع بسرعة.
وأما "حرثم بن جبلت"، فهو الحارث بن جبلة ملك الغساسنة، وأما "ابكرب بن جبلت"، فإنه Abochorabus المذكور في تأريخ "بروكوبيوس". وقد ذكر هذا المؤرخ أن القيصر "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" Justinian كان عينه عاملاً "فيلارخا" Phylarch على عرب السرسين Saracens بفلسطين، وأنه كان رجلاً صاحب قابليات وكفاية، تمكن من تأمين الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، فكان هو نفسه يحكم قسماً منهم، كما كان شديداً على المخالفين له. وذكر أيضاً أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، ويجاور عربها عرب اخرون يسمون "معديني" "معدّ" للأع " Maddeni هم أتباع ل "حمير" Homeritae.
أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقرّبه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخل كثير، عرفت عند الروم ب Phoinikon "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل" وهي أرض بعيدة، لا تبلغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا الرئيس عاملاً "فيلارخاً" على عرب فلسطين.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسية بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" Amorkesos الذي سبق إن تحدثت عنه في كلامي على علاقة العرب بالبيزنطيين.
و "غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" Maddenoi، وكانت معد كما يظهر من أقوال المؤرخ "بروكوبيوس" خاضعة في عهده لحكم الحميريين. وقد ذكرت كيف أن القيصر توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق على تعيين "قيس" رئيساً على معد. وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة"، فسيرّ اليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة. أدّبها بقوة سيرّها اليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرو بن مذر" عليها، وتراجعت القوة عنها.
و Maddenoi، هي قبيلة Ma,addayaالتي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" John of Ephsus مع "طياية" Taiyaye في كتابه الذي وجهّه إلى أسقف "بيت أرشام" Beth Arsham،ويظهر من هذا الكتاب أن عشائر منها كانت مقيمة في فلسطين.
وفي القرآن الكريم سورة، أشارت إلى سيل العرم، هي سورة سبأ، ورد فيها: )لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جناّت عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم.واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنيتهم جنتين ذواتي أكل خمط واثلٍٍ و شيء من سدرٍ قليل(. ولم يحدد المفسرون الوقت الذي تهدم فيه السد.
ول "أبرهة" نص آخر، كتبه بعد النص المتقدم، لمناسبة غزوه "غزيو" "معداً"، في شهر "ذ ثبتن" "ذى ثبت" "ذى الثبت" "ذى الثبات" من شهور سنة "662" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "547" أو "535" للميلاد. وهذا النص عثرت عليه بعثة "ريكمنس" مدوّنا على صخرة بالقرب من بئر "مريغان". فوسم ب Ryckmans 506. وقد ترجمه "ريكمنس" G.Ryckmans الى الفرنسية، ثم إلى لغات أخرى.
وفي النص مواضع طمست فيها معالم بعض الحروف، عزّ بذهابها فهم المعنى وضبط الأعلام. كما أن فيها بعض تعابير معقدة، عقدت على من عالجه فهم المعنى فهماً واضحاً، ثم هو نص قصير لا يتجاوز عشرة اسطر، واختصر وصف الحوادث حتى صيره وكأنه برقية من برقيات "التلغراف"، ولكنه مع كل هذا ذو خطر بالغ،لأنه يتحدث عن حوادث لم نكن نعرف عنها شيئاً، ويصف الأوضاع السياسية في ذلك العهد، ويشير إلى اتصال ملوك الحيرة بالحبش والى سلطان حكام اليمن على القبائل العربية، مثل معدّ، مع أنها قبائل قوية وكثيرة العدد. وهو مما يؤيد رواية أهل الأخبار في أنه كان لليمن نفوذ على قبائل معدّ وأن تبايعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على تلك القبائل.
وقد تلقب "أبرهة" في هذا النص كما تلقب في نص سد مأرب بلقب الملك. الذي كان يتلقب به ملوك اليمن، وهو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في النجاد "طودم" وفي المنخفضات "تهمتم"، "تهامة"، كما افتتحه بجملة: "نخيل رحمن ومسحهو"، أي "بحول الرحمن ومسيحه"، وقد سبق ل "ابرهة" أن افتتح نصه الذي دوّنه على "سد مأرب" بجملة: "بخيل ودا ورحمت رحمن ومسحهو ورح قدس"، ومعناها: "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه روح القدس"، والجملتان من الجمل التي ترد في نصوص اليمن لأول مرة، وذلك بسبب كون أبرهة نصرانياً، وقد صارت النصرانية في أيام احتلال الحبش لليمن ديانة رسمية للحكومة، باعتبار أنها ديانة الحاكمين. وعرف "أبرهة" في النصين ب "ابره زيبمن"، أي "أبرهة زييمان"، ولفظكة "زي ب م ن" "زيبمن" من ألقاب الملك في لغة الأحباش.
واليك هذا النص كما دوّنه "ريكمنس" عن النص الأصيل: "بخيل رحمنن ومسحهو ملكن ابره زبيمن ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمت سطرو ذن سطرن كغزيو معدم غزوتن ربعتن بورخن ذ ثبتن كقسدو كل بنيعمرم وذكى ملكن ابجر بعم كدت وعل وبشرم بنحصنم بعم سعدم و م.خ ض.و وضرو قدمى جيشن على بنيعمرم كدت وعلى ود، ع. ز. رن. مردم وسعدم بود بمنهح تربن وهرجو وازرو ومنمو ذ عسم ومخض ملكن بحلبن ودنو كطل معدم ورهنو وبعدنهو وزعهمو عمرم بن مذرن ورهنهمو بنهو وستخلفهو على معدم معدم وقفلو بن حلبن بخيل رحمنن ورخهو ذلئنى وسثى وست ماتم ".
ونصه في عربيتنا: "بحول الرحمن ومسيحه. الملك أبرهة زبيمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في الطود "الهضبة" وفي تهامة "المنخفضات". سطروا هذه الأسطر لما غزت معد: الغزوة الربيعية بشهر ذو الثبات "ذ ثبق" "ذو الثبت". ولما غلظ " ثار" كل "بنو عامر". أرسل الملك "أبا جبر"، بقبيلة "كدت" كندة وقبيلة "عل" و "بعثر بن حصن" "بشرم بن حصنم" بقبيلة "سعد" لحرب "بني عامر" فتحركا بسرعة وقدما جيشهما نحو العدو: وحاربت "كدت" بكندة وقبيلة "عل" بني عامر ومراداً، وحاربت "سعد" بواد "بمنهج" ينهج "يؤدي" إلى "تربن" "الترب". فقتلوا من بني عامر وأسروا وكسبوا غنائم. وأما الملك، فحارب ب "حلبن" "حلبان"، وهزمت معد، فرهنت رهائن عنده.
وبعدئذ، فاوض "عمرو بن المنذر" "عمرم بن مذرن"، وقدّ م رهائن من أبنائه. فاستخلفه "اقره" على معد. وقفل "أبرهة" راجعاً من "حلين" "حلبان"، بحول الرحمن. بتأريخ اثنين وستين وست مئة.
وقد درس بعض الباحثين هذا النص، فذهب بعضهم إلى أنه يشير إلى حملة أبرهة على مكة في العام الذي عرف عند أهل الأخيار ب "عام الفيل" وأشير اليها في القرآن الكريم. وذهب بعض آخر إلى أنه يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيداً لحملة كان عزم القيام بها نحو اْعالي جزيرة العرب، فتوقفت عند مكةْوذهب آخرون إلى إن ما جاء في هذا النصبر لا علاقة له بحملة الفبل، ذلك لأن هذه الحهعلة كانت في سنة "547" للميلاد على تقديرهم، على حين كانت حملة الفيل سنة "563" على تقديرهم أيضاً.
وذهب "بيستن" إلى أن هذا النص يتحدث عن معركتين: معركة قام بها "أبرهة" في "حلبان": ومعركة كندة وسعد - مراد بموضع "تربن" "الترب" "تربة"، وقد حاربت فيها جماعة من القبائل.
ويظهر من النص إن "أبرهة" غزا بنفسه معداً في شهر "ذى ثبتن" من ربيع سنة "662" من التقويم السبئي، والتقى بها في موضع "حلبن" "حلبان"، فهزمها وانتصر عليها، فاضطرت عندئذ إلى الخضوع له ومهادنته، والى وضع رهائن عنده تكون ضماناً لديه بعدم خروجها مرة ثانية عليه. فوافق على ذلك. وفيما كان في "حلبان" بعد اتفاقه مع معد، جاءه "عمرو بن المنذر" "عمرم ابن مذرن" وكان أبوه "المنذر" عينه أميراً على معد، ليفاوضه في أمر "معد" فقابله ب "حلبان"، وأظهر له استعداد أبيه "المنذر" على وضع رهائن عنده لئلا يتكرر ما حدث، وبحصول اعترافه على تولي عمرو حكم "معد" فوافق أبرهة على ذلك، وقفل "وقفلو" أبرهة راجعاً إلى اليمن، وسوّى بذلك خلافه مع معدّ. وصار "عمرو بن المنذر" رئيساً على معد بتعيين أبيه له عليها وبتثبيت "أبرهة" هذا التعيين.
و "حلبان" موضع في اليمن في أرض "حضور"، وذكر انه موضع في اليمن على مقربة من "نجران"، وانه موضع ماء في أرض "بني قُشيَر". وقد وعت ذاكرة أهل الأخبار على ما يظهر شيئاً عن ألمعركة التي نشبت في هذا الموضع إذ رووا شعراً للمخبّل السعدي يفخر بنصرة قومه "أبرهة بن الصباح" ملك اليمن. وكانت "خندف" حاشيته. ذكروا أنه قال: صرموا لأبرهة الأمور محلها حلبان فانطلقوا مع الأقـوال
ومحرق والحارثان كلاهـمـا شركاونا في الصهر والأموال
وأورد "الهمداني" أبياتاً فيها اسم موضع "حلبان" واسم "أبي يكسوم"، وهي قوله:.
ويوم ابي يكسوم والناس حضرٌ على حلبان إذ تقضي محامله
فتحنا له باب الحضير وربّـه عزيز يمشي بالسيوف أراجله
وقد روى هذان البيتان وهما من شعر "المخبل السعدي" في هذا الشكل: ويوم أبي يكسوم والناس حضر على حلبان إذ تقضي محامله
طوينا لهم باب الحصين ودونه عزيز يمشي بالحراب مقاوله
ويظهر من هذا الشعر أن "أبرهة" لما جاء بجيشه إلى موضع "حلبان"، وجد مقاومة، ووجد أبواب الحصن مقفلة، وقد تحصن فيه المقاومون، ودافعوا عنه، فهجم قوم الشاعر عليه، ففتحوا باب الحصن، ودخلوه.
أما تأديب " بني عامر"، فلم يقم ب "أبرهة" بنفسه، بل قام به قائد اسمه "ابجبر". "أبو جبر"، قاد قبيلتي "كدت"، أي "كندة" و "عل"، وقائد آخر اسمه "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، قاد قبيلة "سعدم"، أي "سعد" "بنو سعد". وسار القائدان بجيشهما وتقدما بهما إلى "بني عامر"، وحاربا على هذا النحو: حاربت "كندة" و "عل" قبائل سقطت بعض الحروف من اسم كل واحدة منها،فبقي من احداهما "ود.ع" وبقي من الأخرى "زرن" "ز. رن" وقبيلة "مردم"، أي "مراد". وحاربت "سعد" بوادٍ يؤدي إلى "تربن" "الترب"، فقتلوا وأسروا "ازروا" وأصابوا غنائم. ولم يسم النصر الوادي الذي يؤدي إلى "الترب".
ويظهر أن موضع "تربن" الذي يؤدي إليه الوادي الذي جرت فيه المعركة، هو موضع "تربة"، مكان في بلاد بني عامر، ومن مخاليف مكة النجدية، على مسافة ثمانين ميلاً تقريباً إلى الجنوب الشرقي من الطائف. وذكر أنه واد بقرب مكة اى يومين منها، يصب في بستان ابن عامر، حوله جبال السَّراة، وقيل انه واد ضخم، مسيرته عشرون يوماً أسفله بنجد أعلاه بالسراة،وقيل: يأخذ من السرًاة ويفرغ في نجران، وقيل: موضع من بلاد بني عامر بن كلاب واسم موضع من بلاد عامر بن مالك.
و "عمرم بن مذرن"، هو "عمر بن المنذر" ملك الحيرة، وكان أبوه "المنذر" حليفاً للساسانيين. فيكون قد عاصر "ابراهة" اذن، ويكون "عمرو" ابنه من المعاصرين له أيضاً.
وقصد ب "بنيعمرم"، "بني عامر". وهم "بنو عامر بن صعصعة" من "هوازن".
ومراد، هي قبيلة مراد التي منها "غطيف". وفي أيام الرسول وفد عليه "فروة بن مسيك المرادي" مفارقاً لملوك كندة. وقد كانت بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة ظفرت فيها همدان، وكثر فيها القتلى في مراد. وعرفت تلك الوقعة بيوم الروم. ورئيس همدان االأجدع بن مالك والد مسروق.
وأما "سعدم" أي قبيلة "سعد"، التي قادها "بشر بن حصن" في هذه المعركة، فلم يذكر النص هويتها. غير أننا إذا ما أخذنا بشعر "المخبلّ السعدي" الذي افتخر به بنصرة قومه لأبرهة في يوم "حلبان" وبانضمامهم إليه، ففي استطاعتنا أن نقول حينئذ: إن قومه هم "سعدم" أي "سعد" القبيلة المذكورة في النص.
و "ابجير" اسم قد يقرأ "أبو جبر"، وقد يكون "أبو جابر" وقد يكون "أبجبر" وقد يكون "أبو جبار". وكل هذه الأسماء هي أسماء معروفة عند ألجاهليين. وقد ذهب "كستر" " M.J. Kister" الى احتمال كونه "يزيد ابن شرحبيل الكندي"او " أبو الجبر بن عمرو"، وهون من كندة ايضا. وهو من آل الجون من بطون كمندة.
وقد اشير في كتب أهل الاخبار الى امير من امراء كندة عرف ب"أبي الجبر" وقد ذكر في مقصورة "ابن دريد". وروى انه زار "كسرى" ليساعده على قومه، فأعطاه جماعة من الاساورة اخذهم معه ليساعدوه، فلما وصل الى "كاظمة" سئموا منه، وارادوا التخلص منه فدسوا السم له في طعامه. ولكنه لم يمت منه، بل شعر بالم منه، فأكرهه الاساورة على ان يكتب كتابا لهم يحملونه الى كسرى يذكر فيه أنه سمح لهم بالعودة، فكتب لهم كتاباً ثم سافر الى الطائف، فعالجه "الحارث بن كلمدة الثثفي"، حتى شفي، فوهبه جارية كانت له اسمها "سميّة" أهداها له "كسرى"، ثم ذهب إلى اليمن، ولكن عاوده مرض في طريقه اليها فات. وقد رأى "كستر" أنه هو "أبو جبر" المذكور في النص.
وأما "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، أو "بشر بن حصين" أو "بشار بن حصن" أو "بشار بن حصين" أو "بشير بن حصن"،فقد ذهب "لندن" Ludin، الى انه احد سادات "كندة".
لقد أشرت إلى رأي بعض الباحثين في هذه الحملة، والى ذهاب بعضهم إلى انها كانت حملة الفيل، أي حملة أبرهة المذكورة في القرآن الكريم على مكة. كما أشرت إلى رأي آخر، ذكر أن هذه الحملة كانت مقدمة لحملة الفيل، أي حملةتجريبية سبقت تلك الحملة. وحجة الفريق الأول ما ورد في بعض الروايات من أن مولد الَرسول، كان بعد عام الفيل بثلاث وعشرين سنة أي في حوالي السنة "547" للميلاد. وهو تأريخ ينطبق مع السنة المذكورة في النص، إذا أخذنا برأي من يجعل مبدأ التقويم الحميري سنة "115" قبل الميلاد. ومن ورود رواية أخرى في حساب السنين عند قريش، تظهر بنتيجة حسابها وتحويلها أن عام الفيل كان في سنة "552" بعد الميلاد، وهو تأريخ ينطبق مع تأريخ النص أيضاً إذا أخذنا برأي "ريكمنس" في مبدأ التقويم الحميري من أنه كان سنة"109"لا"115" قبل الميلاد.
وأبرهة هذا هو "صاحب الفيل" الذي قصد بفيلته وجنده هدم الكعبة وإكراه الناس على الحج إلى "القليس" الكنيسة التي بناها بمدينة "صنعاء" في روايات الأخباريين. وهي كنيسة قال عنها أهل الأخبار،انها كانت عجيبة في عظمتها وضخامتها وتزويقها من الداخل والخارج، حتى إن "أبرهة" لما انتهى من بنائها كتب إلى النجاشي: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتاً لم تبن العرب ولا العجم مثله ". أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلهَا لملك. كان قبلك". ويبالغ أهل الأخبار في وصفها فيذكر "الأزرفي"، انه بناها بجانب قصر غمدان، وأنه أقامها بحجارة قصر بلقيس بمأرب، نقلها العمال والفعلة والمسخرون من مأرب إلى صنعاء. فهدموا ذلك القصر وأخذوا حجره وما يصلج للبناء من مادة، ثم نقلوه إلى صنعاء لاستعماله في بناء تلكً الكنيسة التي بنوها بناء ضخماً عالياً، وجعلوا جدرانها من طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة. لون كل طبقة يختلف عن الطبقة التي تحتها أو التي فوقها. وزينوا الجدران بأفاريز من الرخام والخشب المنقوش. وجعلوا الرخام ئاتئاً عن البناء، وجعلوا فوق الرخام حجارة سوداً لها بريق، وفوقها حجارة بيضاً لها بريق، فكان هذا ضاهر حائط القليس. وكان عرضه ست أذرع. وكان للقليس باب من نحاس عشر أذرع طولاً في أربع أذرع عرضاً. وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه، طوله ثمانون ذراعاً في أربعين ذراعاً معلق العمد بالسياج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت الى إيوان طوله أربعون ذراعاً، عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة، بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، جدرها بالفسيفساء، فيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشر أذرع في عشر أذرع، تغشي عينَ من ينظر اليها من بطن القُبّة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القّبه، وكان تحت القبة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الابنوس، مفصد بالعاج الأبيض. ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهباً وفضة. وكان في القبة سلاسل فضة. وفي القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب كانوا يتبركون بهما في الجاهلية. وكان يقال لكعيب الأحوزي،والأحوزي بلسانهم الحر.
وكان أبرهة قد أخذ العمال بالعمل أخذاً شديداً، وأمر بالعمل في بناء الكنيسة ليل نهار. وإذا تراخى عامل أو تباطأ عن عمله أنزل وكلاؤه به عقاباً شديداً، يصل إلى قطع اليد. وبقي هذا شأنه ودأبه حتى أكمل بناؤها وسرّ من رؤيتها، فأصبحت بهجة للناظرين.
ونجد في وصف "الأزرفي" ومن تقدم عليه من أهل الأخبار للقليس شيئاً من المبالغة، ولكنه على الاجمال وصف يظهر أنه أخذ من موارد وعته وشاهدته وأدركته. لذلك جاء وصفاً حيأَ نابضاً بالحياة، ينطبق على الكنائس الضخمة التي أنشئت في تلك الأيام في القسطنطينية أو في القدس أو في دمشق، أو في المدن الأخرى. والظاهر من هذا الوصف، أن فن العمارة اليماني القديم قد أثر في شكل بناء هذه الكنيسة، التي تأثرت بالفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.
ويذكر "الأزرفي" إن القليس بقي في صنعاء على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور الخلافة، فولي "العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي" "العباس بن الربيع بن عبد الله العامري" اليمن، فذكر له ما في القليس من ذخائر، وقيل له انك تصيب فيه مالاً كثيراً وكنزاً فتاقت نفسه إلى هدمه. ثم استشار أحد أبناء وهب بن منبه وأحد يهود صنعاء فألحا عليه بهدمه،وبينّ اليهودي له أنه إذا هدمه فإنه سيلي اليمن أربعن سنة، فأمر بهدمه، واستخرج ما فيه من أموال وذهب وفضة. وخاف الناس من لمس الخشبة المنقوشة التي كانوا يتبركون بها،ثم اشتراها رجل من أهل العراق كان تاجراً بصنعاء وقطعها لدار له. وخرب القليس حتى عفى رسمه وانقّطع خبره.
واذا كان ما يقوله الأزرفي نقلاً عن رواة أدركوا تلك الكنيسهّ من إن أبرهه أقامها بأحجار قصر بلقيس باليمن، فإنه يكون بذلك قد قوض أثراً مهماً من آثار مدينة مأرب، وأزال عملاً من الأعمال البنائيه التي أقامها السبئيون في عاصمتهم قبله وهو عمل مؤسف.
وفي صنعاء اليوم موضع يعرف ب "غرفة القليس"، يظن أنه موضع تلك الكنيسة، وهو موضع حفيرْ صغير ترمى فيه القمامات وعليه حائط ويقع أعلى صنعاء في حارة القطيع بقرب مسجد نصير.
وذكر "الهمداني" اسم قصر دعاه "القليس" نسب بناءه إلى "القليس بن عمرو"، وهو في زعمه من أبناء "شرحبيل بن عمرو بن ذي غمدان بن إلى شرح يخضب". وقال: انه بناه بصنعاء، وهو بناء قديم. وذكر أيضاً أن "عمرو ينأر ذو غمدان ابن إلى شرح يخضب بن الصوار" هو أول من شرع في تشييد "غمدان" بعد بنائه القديم.
وقد أمر "أبرهة" ببناء كنيسة في "مأرب" أشار إلى بنائها في نصه الشهير، أقامها في سنة "542م"، ورتب لخدمتها جماعة من متنصرة سبأ، واحتفل هو نفسه بافتتاحها، ولعله استعان ببنائها بحجارة قصور مأرب ومعبدها الكبير، ذلك لأن حجارتها منحوتة نحتاً جيداً،يجعل من السهل استعمالها في البناء على حين يتطلب الحجر الجديد وقتاً طويلاً وأموآلاً باهظة. ولهذا السبب ذهب أهل الأخبار إلى أنه أمر بنقل حجارة قصر مأرب إلى صنعاء.
لقد أصيب مشروع أبرهة الرامي إلى هدم الكعبة والاستيلاء على مكة باخفاق ذريع، يذكرنا بذلك الاخفاق الذيُ مني "به مشروع "أوليوس غالوس". لقد كان في الواقع مشروعاً خطيراً، لو تم إذن لاتصل ملك الروم بملك حلفائهم وأنصارهم الحبش في اليمن، ولتحقق حلم الإسكندر الأكبر وأغسطس ومن فكر في الإستيلاء على هذا الجزء الخطير من العالم من بعدهما، ولتغير الوضع السياسي في الجزيرة من غير شك، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حدث أن مكة التي أريد هدمها هي التي هدمت ملك الحبشة في اليمن، وملك من جاء بعدهم لنجدة أهل اليمن، وملك البيزنطيين في بلاد الشام وملك الفرس في العراق وفي كل مكان.
وصل إلى "خمير"، ولا في اي مكان كان يحكم. وما علاقة ذلك الملك الحبشي بجزيرة العرب إن صح انه ملك الحبش حقاً.وإذا أخذنا بقول هذا الشاعر وصدّقناه، فقد يكون ذهب ليتوسل إلى الحبش لفك أسر جماعة من قومه أو من أصحابه قد يكونون ذهبوا للاتجار أو لشراء الرقيق، فقبض عليهم لسبب من الأسباب واحتجزوا، فذهب لالتماسهم فنجح في وساطته وقد يكون "خمير" هذا احد الحكّام أو الاقطاعيين، لا النجاشي ملك الأحباش.
ويظهر من كتاب "الإشتقاق" أنه كان لأبرهة حفيد اسمه "ابن شمر، إذ ذكر مؤلفه "ابن دريد" اسم رجل سماه "ابن شمر بن أبرهة بن الصباح"، قال: إنه قتل مع "علي بن أبي طالب" بصفين. ومعنى هذا أنه كان لأبرهة ولد اسمه "شمر". ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء رجال كانوا من حفدة "أبرهة".
وقد سعى الأحباش، مدهَ مكثهم في اليمن، في نشر النصرانية بين الناس، وبناء الكنائس،، ويحدثنا "قزما الرحالة" Cosmas Indicopleutes في نحو سنة "535م"، اي بعد اندحار "ذي نواس"، عن كثرة الكنائس في العربيةالسعيدة وعن كثرة الأساقفة والمبشرين الذين بشروا. بين الحميريين والنبط وبني جرم. وقد اشتهرت كنيسة "نجران"، وكذلك كنيسة صنعاءْ، وكنيسهّ "ظفار" التي بناها الحبش،وقد أشرف عليها الأسقف "جرجنسيوس" صاحب "كتاب شرائع الحميرين"، وكان مقرباً لدى النجاشي ومستشاره ومساعده في تنصير الحمريين.
وورد ان القيصر "يوسطين" "جستين" كان قد أرسل "كريكنتيوس" Gregentius of Ulpana من الاسكندرية إلى "ظفار" ليكون "أسقفاً" على نصاراها، وقد تناظر مع "حبر" من أحبار يهود فيها، فغلبه، وقدّم قانون للشريعة إلى "أبرام"Abram"ملك حمير.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق