إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 25 يناير 2016

1456 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والسبعون الحنفاء


1456

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
   
الفصل الخامس والسبعون

الحنفاء


بقي لدينا افتراض آخر، هو أخذ القرآن الكريم من أميه، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى قائله اثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهداً من القرآن الكريم،.وتلك قضية لا يمكن اثبانها أبداً. ثم إن قريشاً ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له انك تأخذ من أمية، كما قالوا له: انك تتعلم من غلام نصراني كان مقيماً بمكة، واليه اشير في القرآن الكريم يقوله: )ولقد نعلم انهم يقولون: انما يعلمه بشر، لسانُ الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن ان محمداً. انما اخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد ان تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت. أمية لو كان قد وجد اي ظن وإن كان بعيداً يفيد ان الرسول قد اخذ فكرة منه، أو من المورد الذي اخذ أمية نفسه منه ? لو كان شَعرَ بذلك، لنادى به حتماً، ولأعلن للناس انه هو ومحمد أخذا من منبع واحد،. وان محمداً أخذ منه، فليس له من الدعوة شئ، ولكانت قريش وثقيف اول القائلين بهذا القول والمنادين به.

نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، ان الشريد بن سويد.كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وانه كان كلما أنشده شيئاً منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لاثبات ان ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي.

وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كلمان هوار" و "بور" Power زعم "بور" انه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم، فإن ذلك يدل على ان الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا ان هذا النظم شعر أصيل صحيح" وانه نظم قبل نزول مشابهه في القران الكريم، وانه لم يضف اليه في الإسلام. فإن أثبتنا انه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء.

وأما الرأي الثالث - وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر امية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ إلاثنين من التوراة والانجيل وتفاسيرهما، والى بعض "الصحف" و "المجلات" الني أشير إلى وجودها عند العرب - فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعرّ امية أو غير امية، قبل ان يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زُعم "ان النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر !!". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى: ) ولقد نعلم أنهم يقولون،إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (. فلمُ يخْف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يَعلمه، فذكروا جبراً هذا، وكان غلامأً مقيماً بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك.

ولو كان الرسول وأمية قد أخذا من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدأَ بالنسبة اليه. وسيف يحارب به الإسلام? ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة اليه في أثناء حروب الردّة، وقد كانت فرصة سانحة لإظهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه على الإسلام.

ثم إنّ هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم، لم ترد في التوراة ولا في الانجيل، ولكنها وردت في شعر امية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشخص لجمل وألفاظ وتراكيب اسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مردً هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والانجيل والقرآن، وفي شعر أمية حسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى.

ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صله احدهما بالآخر،وأخذ احدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة هذا الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن ان يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصاً على انه لغيره، وهم انما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض اهل الأخبار نسبه اليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالاشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب ايضاً، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظاً ثابتأ، فلم يرتق اليه الشك. اما شعر امية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تأريخ النظم. فهذه المقابلة إن جازت، فانها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كَان عليهم ان يثبتوا أولاً اثباتاً قاطعاً صحة رأيهمَ في أصالة هذا الشعر، لا ان يفترضوا مقدماً انه شعر أصيل صحيح، وان يذهبوا رأساً إلى انه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل انه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق