1443
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والسبعون
الحنفاء
والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الأخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين، فان من عادة الأخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسباً لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة البهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضاً، ولذللك نجد صور الحكماء والفلاسفة الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جله الشيب أو قضى على شعره الزمن والتفكير، فصلِع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير. وعندي ان الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المُثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك انزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العديدة التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الاصنام ومن اسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالاصلاح، وقد أثارت دعونهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الاوثان شأن.كل دعوة إصلاحية. ويجوز ان يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير اننا لا نستطيع ان نقول انهم كانوا نصارى أو يهوداً، إنما أستطيع ان أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن، متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهوداً أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد. ولا يعني قولي هذا ان الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلاً من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شلرنكر" اليه إنما كان أولئك الاحناف نفراً من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض، عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الاصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء. والرجال الذين قال أهل الاخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الاحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفل، وأميةّ ابن أبي الصلت: وارياب بن رثاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد ابو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجُهني، وعدي بن زيد الجبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي انس،وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب ابن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب ال!تميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سُلمى، وخالد بن سنان العبَمْي ا، وعبد اللهء القضاعي، وعبيد ابن الابرص الاسسي، وكعب بن لؤي بن غالب وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعسة الإيادي" و "عضان بن الحويرث أ و "عسي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد ابو كرب الحصري"، "ابو كرب اسعد الحميري"3 و "عبيد بن الابرص"، و"زهير ابن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئاً عن دينهم. ولهذا فأنا اذكرهم هنا ذكر، مجاراة لمن أدخلهم في اهل الدين من الجاهلين. ولا أعني انهم كانوا على الحنيفية، اي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل ا لاخبار.
وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عمان ين الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش ابن رئاب الاسدي. وذكر ان منهم من تنمر ومات على النصرانية، مثل: عمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن.جحش بن رئاب الاسدي فأما قُس بن ساعسة الايادي، فقد رفعه الاخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قيل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، في انه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال.
وأما موته، فمجهول. وأما وفاته، فيكاد محصل الاتفاق على انه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية ان الرسول أدركه ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته " الشهيرة المعروفة، غير انه لم يحفظها، وان ابا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر ان الرسول كان حفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضاً منها على وفد عبد القيس.
ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ للرسول لخطبة "قس"، هو اشارتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع ان حفظ الشعر أيسر من النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وانما كان يسمعه. ولكننا في هم من ناحية أخرى نرى انه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء ان يتلو، وانه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئاً من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئاً. والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدوناً، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد.
وأوصل بعض الاخباريين قساً إلى القيصر، فزعموا انه ذهب البه واتصل به، وان القيصر أكرمه وعظمه. وانه سأله عن العلم قائلاً له: ما أفضل العلم ? قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل ? قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما افضل الادب ? قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة ? قال: قلة رغبة المرء في اخلاف وعده. قال: فما أفضل المال ? قال: ما قضى به الحق 1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبراً جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من خلب في لحف جبل ينشر له ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر فلم تعثر اليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت: " قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم قال: وقوف المرء عند علمه قيل له: فما أفضل المروءة قال استبقاء الرجل ماء وجهه.
وقسُ هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار، أحدث لهم أموراً كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ - عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: "أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان". وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الامور، هو من صنعة قس وعمله. ثم انه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف في ان، وخطيب العرب كافة. وذكروا ان له ولقومه فضيلة ليست لاحد من العرب، لان الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الاورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه، هوانه قال فيه: "يحشر أمة و حبر".
وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قساً، إني لأرجو ان يبعث يوم القيامة أمة واحدة "، ان وفداً من إباد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: رحمه الله، كأني أنظر اليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه. فقال رجل من القوم،.أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: ايها الناس اسمعوا وعوا... إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق