1442
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والسبعون
الحنفاء
ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد، للرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي - المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح - قدم المدينة ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به ? - فقال الرسول: جئت بالحنيفية دين ابراهيم، قال: فأنا عليها، فقال الرسول: لست عليها، ولكنك ادخلت فيها ما ليس منها. وقد سماه الرسول الفاسق. فذهب مغاضباً للرسول كما تقول الروايات،متوجهاً إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدينة للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام.
وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان ابن أمة"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعداً لرسول الله، معه خمسون غلاماً من الأوس، منهم "عمان بن حنيف". "فكان يعد قريشاً ان لو قد لقي محرماً لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم احد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشرَ الأوس، أنا ابو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق،وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسمّاه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة و خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة بن عبد ياليل الثققي، وكان قد اختصم مع علقمة بن علاثة في ميراثه، فدقع هرقل ميراثه لكنانة قائلاً لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.
وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل ابيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي: "إن صاحبكم تغسله الملائكة"، فعرف ب "غسيل الملائكة". فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين.
وروي أنه كان يتزيد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار، واتى قيصر فاستنجده على للنبي. وروي أنه هو للذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً واصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد ياليل الثقفي وعلقمة بن علاصة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام.
ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم،واستحوذوا. على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير انها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثققي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول: "لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم. وعاد "علقمة" أيضاً. وهناك روايات أخرى،تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام.
ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في. بعض الأخبار من انه كان حنيفاً، ذهب "ولهوزن" إلى ان الأحناف هم من النصارى، وان حركتهم حركة نصرانية، وانهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام. غير ان ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لابداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفاً دقيقاً ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن.وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه ان كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا ان أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة الحنفاء، ويقولون: انه لبس المسوح تعبداً، وكان ممن ذكر ابراهيم واسماعيل وحرم الخمر. ويلاحظ ان الأخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس المسوح، مما يشير إلى انهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين،فأخذوا عنهم هذه،الطريقة التي أشير اليها في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدّ ت من البدع الممقوتة في الإسلام.
وقد أورد أهل الأخبار كلاماً ذكروا ان الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير ان من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلام، ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف ان كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل السجع الطريقة المحببة في الكتابة إلى ايامنا هذه عند بعض الكتاّب. ويفهم من كلام الرواة ان بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة ابراهيم. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم -الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد.
ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الاحناف ان منهم من يجب ادخاله في عداد النصارى ة لا الاحناف. وقد نْص أهل الاخبار أنفسهم على تنصرهم، غير انهم ادخلوهم مع ذلك في جملة الاحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالاحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف. وقد أدخل "المسعودي" بعض الاحناف في جماعة اهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، من يقر بالبعث ثم قال: وقد اختلف الناس فيهم،فمن الناس من رأى انهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و "خالد بن سنان العبسى"، و "رئاب الشنى"، و "أسعد ابو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثققي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثففي، و "ابو قيس" "صرمة بن أبي انس" الانصاري، و "أبو عامر الاوسي"، و "عبد الله بن جحش الاسدي"، و "بحيرا الراهب". ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق