1444
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والسبعون
الحنفاء
ويختلف هذا الخبر بعين الاختلاف مع خيب آخر أشرت اليه قبل قليل، فقد ورد في ذلك الخير ان رسول الله كان. يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الابيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها ان الوفد للذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو احد بني عبد القيس ويذكر بعض أهل الاخبار، ان "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس": "فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم يخيره، واقف على أمره. كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العمر عمّر ستمائة سنة نج تَفر منها نفسه أعمار في البراري والقفار". ثم ة خذ في وصض وفي ذكر عقاثده، وفي لقياه د "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ،ومطلعها: "شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعراً. وهي خطبة تختلف تماماً عن الخطبة المعروفة التي تنسب اليه، وان كانت على نمطها من حيث الاسلوب والافكار، وفيها مصطلحات اسلامية ترد في القرآن للكريم. ولا استبعد ان تكون من وضع شخص اخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد. والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانياً، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الاخير، وسرّ الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلباً على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عمان. ولو صح ما ذكروه من انه كان أسقفاً على نجران، لوجب اخراجه افن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكداً انه كان اسقفاً على ذلك الموضع، ويرى الاب "لامانس" احتمال كونه نصرانياً، لان ما نسب اليه يبعث على هذا الظن. وقد أدخل الاب "لويس شيحْؤ" قساً في جملة النصارى الجاهليين،وأورد اكثر ما نسب اليه في ترجمته غير ان كثيراً من هذا المنسوب اليه منسوب إلى غيره. وقد اشار. إلى من نهب اليهم العلماء.
وذهب "شيرنكر" إلى ان قساًَ كان من "الركولمجة"، وهم فرقة عرفهم اهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في امر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترفع والانزواء. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في اثناء كلامهم على هؤلاء.
ويرى "لامانس" انه لو كان قيس شخصية تاريخية حقاً، فإن زمانه لا يمكن ان يكون في ايام الرسول أو في ايام مقاربة من ايامه. إذ لايعقل عنده ان يتكون هذا القصص الذي صير قساً شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن اياداً لم تكن في ايام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس اليها. فلا بد اذن ان تكون ايام هذا الرجل بعيدة بعض البعد عن ايام الرسول.
غير ان حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن ان تكون سنداً يؤيد ادعاءه في ان قساً كان شخصية خرافية، أو انه كان رجلاً حقاً، ولكنه كان بعيد العهدعن الرسول. فقد روى الاخباريون قصصاً كثيراً عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لايقل نسيجاًعن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لانكار شخصية سلمان وغيره ممن ورد هذا القصص عنهم ? وهل يجوز ان نقول إن سلمان إن كان شخصاً حقاً فوجب ان تكون ايامه بعيدة عن ايام الرسول. ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قسُّ. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم.
وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح انه من شعر الجاهليين حقاً، وورود اسمه في الحديث وفي الاخبار، هو تعبير عن رأي اهل الجاهلية في خطيب مفوه عد" في نظرهم المثل الاعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.
وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا اليه شعراً،. زعموا انه قاله وهو يبكي بين قبرين بنى بينهما مسجداً، هما قبرا أخويه، على حين ان أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وان قصة القبرين لا تخص قساً،بل تخص أناساً آخرين، وقد كانا في ايران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن ابي صالح ابن عباس وجماعة آخرون آشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال: "وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته"، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة". ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس.
واما "زيد بن عمرو بن نفُيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزىء منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الاوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للانساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للاصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش، منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيدالله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الاصنام، واتخاذ الانصاب وعبادة ما لايضر ولا ينفع. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعضى المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين. وترجع احدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، انه حضر يوماً وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبدالله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيداً من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوماً، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيء، لقد أخطأوا دين ابراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد? لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فانكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الارض يلتمسون اهل الكتاب" وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش إلى خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائربن على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا اليه شعراً في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى اكره على ترك مكة والنزول ب "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شباباً من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألاّ يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال باهلها، مخافة ان يفسد عليهم دينهم وان يتابعه احد منهم على فراق ما هم عليه.واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلاً قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سراً، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا اذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه.
وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل"، اي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع" ورقة ابن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فساله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، اما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر. وتذكر رواية أخرى ان "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه: "ورقة بن نوفل"، و "عثمان ابن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش". ويذكر الرواة أن زيد كان نديماً لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام. ويذكر أهل الاخبار ان حرصه على الحنيفية وتمسكه الشدبد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثاً عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادىً ابراهيم الاصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب ب "ميفعة" "ببيعة"من أرض البلقّاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى ان ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضاً انه التقى في اثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادىء ابراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق