1430
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الرابع والسبعون
الكعبة
فهل يعقل أن يكون أول من بوّب باباً بمكة، وقد كانت البيوت قبله بمكة منذ وجدت، فكيف كان يدخل الناس اليها،وقد رأينا قصصاً لأهل الأخبار يروونه عن امتناع "الحمس" عن دخول البيوت من أبوابها، والحمس هم قريش وأهل مكة قبل دخول "حاطب" اليها ! ويذكر أهل الأخبار أن البيت قد تهدم مراراً، وأن السيول قوضت قواعده عدة مرّات،لذلك لم يتمكن "بيت إبراهيم وإسماعيل" من البقاء، ولكن الجاهليين حرصوا على المحافظة على أسسه وشكله وموضعه. وإنهم كانوا بعد كل هدم أو تصدع يصيبه يحاولون إرجاعه إلى ما كان عليه في أيام آبائهم وأجدادهم جهد امكانهم،لا يحدثون فيه تغييراً ولا يدخلون على صورة بنائه تبديلاً.
و "البيت الحرام" بناء مكعب، ولذلك قيل له "الكعبة". وصفه أهل الأخبار،فقالوا كانت الكعبة قبل الإسلام بخمسة أعوام صنماً، أي حجارة وضعت بعضها على بعض من غير ملاط، فوق القامة، وقيل كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل،ولم يكن لها سقف، وكان لها باب ملتصقة بالأرض. وكان اول من عمل لها غلقاً هو تبع. ثم صنع "عبد المطلب"، لها باباً من حديد، حلاها بالذهب من ذهب الغزالين. وهو اول ذهب حليت به الكعبة. ووصف أهل الأخبار لها على النحو المذكور، يجعلنا نتصورها وكأنها خربة بدائية بسيطة، هي ساحة تكاد تكون مربعة أحيطت بجدار من أحجار رضمت يعضها فوق بعض من غير مادة بناء تمسك بينها، تحط في فنائها الطيور وسباع السماء، ولا يحول بين أرضها وبين أشعة الشمس المحرقة والأمطار التي تنزل على مكة أحياناً على شكل مياه خارجة من أفواه قرب، أي حائل. إنها في الواقع حائط من أحجار لا يزيد ارتفاعه على قامة إنسان.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من بنى جدار الكعبة، "عامر" الجادر من الأزد. فقيل له: "الجادر". و كان أول من جدر الكعبة بعد إسماعيل. وأول تسقيف لها كان - كما يذكر أهل الأخبار - في التعمير الذي أجري عليها في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، وذلك قبل الإسلام بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. وسبب ذلك حريق أصابها - كما يزعمون - فقرروا إعادة بنائها، واجتمعوا وعملوا رأيهم فكان قرارهم تسقيفها بخشب، وقد أقيم السقف على ستة أعمدة من الخشب،وزعت في صفين. وزادا فيها تسع أذرع، فصارت ثماني عشرة ذراعاً، ورفعوا بابها عن الأرض، فكان لا يصعد اليها إلا في درج أو سلّم. ورفعوا من جدرانها التي بنوها بساف من حجر وساف من خشب، حتى زادت على ما كانت عليه في الأصل. وورد في الأخبار ان رسول الله لما دخل الكعبة عام الفتح، قام عند سارية فدعا، وفيها ست سوارٍ.
وذكر أهل الأخبار، ان سبب بنيان الكعبة، هو انها كانت رضمة فوق القامة، وانها كانت قد تصدعت حتى تداعت جدرانها وتساقطت أحجارها، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك ان نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وانما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، فأجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها. ولم يكن هذا البناء الجديد بناءً فخماً،كما يظهر من الوصف الوارد في كتب أهل الأخبار. كل ما فيه أنه غرفة سقفت الآن بخشب، أقيم سقفها على صفين من أعمدة، كل صف ذي ثلاثة أعمدة. وأما حيطانها، فقد زيد ارتفاعها فصار ثماني عشرة ذراعاً، بعد أن كانت تسع أذرع، أو ارتفاع قامة أو أعلى من ذلك بقليل. وقد بنيت هذه المرة من مادة بناء قوية، جعلت مدماكاً من حجارة ومدماكاً من خشب، فكان الخشب خمسة عشر مدماكاً،والحجارة ستة عشر مدماكاً. وجعلوا سقفها مسطحاً له ميزاب، يسيل منه ماء المطر. وهو على الجملة لا يقاس بشيء بمعابد العربية الجنوبية مثل معبد "المقه" بمدينة مأرب أو المعابد الأخرى التي تمكن الباحثون من الوقوف على أسسها ومعالمها، من حيث مساحة البناء أو الفن أو الروعة والعظمة.
ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة استعانوا بتسقيف البيت بخشب سفينة رجل من تجار الروم رمى البحر بسفينته إلى الساحل إلى "الشعيبة"، وهو مرفأ السفن من ساحل الحجاز، وكان مرفأ مكة، ومرسى سفنها قيل "جدة". فجاؤوا بالخشب إلى مكة، وكان بها نجار "قبلطي"، استعين به في تسقيف البيت بذلك الخشب. وذكر أن الذي سقف البيت علج كان في السفينة، يحسن النجارة اسمه "باقوم"، فجئ به مع الخشب، وسقف الكعبة. وقد سألهم عن كيفية تسقيفها هل يجعل السقف قبة أو مسطحاً، فامروه أن يكون مسطحاً، فعمله على ما أمروه به. ويذكرون أن قريشاً حين أرادوا بناء الكعبة أتى "عبد الله بن هبل ابن أبي سالم"، ومعه مال، فقال: دعوني أشرككم في بنائها، فأذنوا له فبنى الجانب الأيمن، ف "لبني كلب يد بيضاء في نصرتهم لقريش حين بنوا الكعبة"، وصاحب هذا الخبر هو "ابن الكلبي"، ولا استبعد أن يكون خيره هذا من وحي العاطفة فى قومه الكلبيين.
وذكر أن "باقوم" الرومي، كان يتجر إلى "المندب"، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فخرجت اليه قريش فأخذوا خشبها، وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس، وقال لقريش: هل لكم أن تجروا عيري في عيركم، يعني التجارة، وأن أمدكم بما شئتم من خشب ونجار، فتبنوا به بيت ابراهيم.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق